قصة قصيرة ـــــــ مــوتٌ بــالإكــــراه ـــــــ

 

الـعــربي لـعـضام :

 

ياسرُ البرامكي مبدعٌ جائلٌ، ورشته في جِراب ، تحول مع الأيام إلى صخرة سيزيفية لا يفارقه ليل نهار ، فيه أوراق بيضاء و أقلام جافة وملونة، وأخرى مصنوعة من قصب بري، وممحاة يستعملها عند الاقتضاء،وقصائد للمعري وابن الرومي والحلاج و أدونيس، منقولة بخط اليد، ورواية شاردة لالبير كامي  Albert Camus “أسطورة سيزيف،” Le Mythe de Sisyphe ، و شذرات منتقاة من الوصايا العشر. كان ياسرغالبا ما يتساءل كلما أنفرد برفاق جِرابه في كل خلوات تأملاته التي لا تنقطع ؛ترى كيف أصبح يحمل اسم البرامكي ؟ و من أين له به ؟ و هو يعلم أن البرامكة كانوا في المشرق وهو في المغرب،و هارون الرشيد محق البرامكة الجعفريين،والتتار أبادوا ما تبقى من العباسيين و هولاكو استنشق رائحة الموت الكريهة التي ملأت دماؤها آنذاك نهري دجلة والفرات منتصرا لنزوة الموت. كان ياسر يجد نفسه منساقا لاستدراج الأحداث التاريخية من جديد، و تعقب تفاصيلها و هي تتقاسم فيما بينها عشق الألم و الموت، مسافرا في غياهب جرابه بمعية رفاقه، متسائلا مرة أخرى؛ هل الإنسان يدفع الإنسان إلى الموت بالفطرة؟و هل يعني هذا أن الحياة ومضة عابرة ؟ وهل الخوف يؤدي حتما إلى الانهيار و السقوط في كمين شرائك الموت ؟. لم يكثرت وقتها إلى أجوبة حاسمة تبدد الحزن الذي يخالجه، لكنه لا يدري لماذا يجد نفسه ينشغل في كل وقت وحين بموضوع الموت ،ويشاطر رفاق جرابه الحزن و القلق و الألم .


في صباح خريفي بارد، تحسس ياسر جرابه برفق، و اطمئنَ على أسراره،وهو في طريقه إلى أروقة المكتبة الوطنية المتاخمة للسور البراني لهضبة قلعة الأوداية التاريخية بالرباط ؛ كانت أدُناه تلتقطان عن بعد من خلال متاهات الأزقة المجاورة لسور المدينة العتيقة، أنباء ساخنة عن الحروب الإقليمية و الأهلية المشتعلة سواء بالوكالة أو في الكواليس ،تبثها محطات إذاعية محلية ودولية يتردد صداها هنا وهناك. قال ياسر البرامكي في خاطره : العالم يتحول تلقائيا إلى ساحات حروب معلنة، والموت فيها يحصي ضحاياه في كل لحظة بشتى الطرق والوسائل. ترى هل هي النهاية . دمدم بكلمات تائهة نصفها ترسب على أديم شفتيه، و هو يرتب وضع معطفه الكشميري على منكبيه التي تشبه نتوءات مسننة ، كان قد أهداه له أحد رفاقه القدماء بدون مناسبة قائلا: العالم يحتضر ، إنه القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد … الإنسان في صيرورته ليس عادلا مع نفسه، و مع أخيه الإنسان. تحسس جرابه بانامله كعادته ، كأنه يتوسل أرواح ساكنيه؛ لطرد شبح القلق الذي يسكن فؤاده في صباحه الخريفي. رفع نظراته إلى نهاية الأفق…تذكر جمهورية أفلاطون ومدينة الفارابي الفاضلة، و استحضر لماذا كان سقراط يجوب شوارع أثينا، و لماذا رفض مساعدة تلامذته الاوفياء له للفرار من السجن وهو يعلم وهم يعلمون أن السم قادم إلى شرايينه، وأن الموت هو قدره الحتمي. من هنا بدأت معالم الأجوبة تتشكل في قرار ياسر البرامكي؛ أن الإنسان عدو نفسه، جعل الموت مظهرا من مظاهر سلوكه،وقدس القتل وحوله إلى هدف أسمى، و كل الغرائز المجبول عليها سخرها لخدمة الموت بالإكراه. في الطريق المؤدي الى المكتبة الوطنية ، توقف ياسر عن المشي لحظة عند منعرج ممر للعبور في انتظار تشغيل اشارة المرور الخاصة بالراجلين.حاول أن يتملص من هواجسه المزمنة التي لازمته مند مطلع ذلك الصباح الخريفي البارد إستنجد برفاق جرابه،الذي تأبطه كغريق يتطلع إلى شط النجاة . وظف نظراته يمينا ويسارا لإنجاز عملية العبور، لكن سمع تردد صدى دوي سقوط على الرصيف، إنزاح الجراب مترنحا من بين فك إبط ياسر، وتدحرج بعيدا عنه، تبعثرت أوراقه و كل الأقلام الجافة والملونة، وسقط المعري وابن الرومي والحلاج وأدونيس إلى جواره، تهاوت قصائدهم و تبعتها تلك الشذرات من الوصايا العشر، وقد تحول الكل إلى أشلاء؛ فقط كانت هناك سيارة إسعاف متواضعة جاثمة قرب جثمان ياسر البرامكي تنتظر. لم يكلف العابرون انفسهم لحظة زمن، لرصد حدث موت ياسر البرامكي، لكنهم تهامسوا بنظرات فيما بينهم تــقــول ان الرجل قتل غدرا. توقف شاب يافع من العابرين يتأمل جثمان ياسر الذي قتل بسرعة سائق ارعن فضل الفرار .كان المعطف الكشميري الرمادي القاتم منبطحا قرب الضحية ، تشجع الشاب اليافع دون غيره، دثره به تكريما له،ثم راكم الأوراق المنثورة إلى جانبه. رمق دما على أديم غلاف رواية أسطورة سيزيف التي انفلتت بدورها من ربقة الجراب، سقطت ورقة منها تتصدرها جملة في سؤال: هل الحياة عبث…؟!  أمام مشهد الموت تساءل الشاب اليافع بدوره : هل الإنسان يدفع الإنسان إلى الموت المكره لتفيعل نزوة التلذذ بشهوة القتل؟؟… وهل الحياة في جوهرها هي لحظة عبث ابدي…؟! أمام صدمة الموت،أحس الشاب بشيء ما غير مألوف على غير عادته، كفكف دمعة كانت ستكون هي البداية،قال : لا وقت للدموع،وبدون إنتظار شغل كاميرا هاتفه المحمول، وصور موقع فصول مسرحية الجريمة،وسجل أدق تفاصيل وضعية الأقلام المنكسرة و الأوراق الممزقة و حروفها التائهة، و الجراب الذي تحول إلى عهن منفوش،ثم نقر نقرة فريدة على زر البث كانت كافية لإشاعة خبر موت ياسر في كافة ارجاء المعمور،و في لمحة بصر. انصرف بعد ذلك إلى حال سبيله، تاركا وراءه جثمان ياسر ينتظر ترحيله إلى المجهول،لكن شيئا ما حدث معه و هو في الطريق، أحس بصرير دبدبات غير عادية تنساب في تفاصيل جسمه، تجاريها برودة ناعمة، إستحضر مشهد موت ياسر أمام عينيه من جديد، أعاد التفكير في طرح تساؤل الموت بالإكراه، …وكأن نسمة من روح ياسر البرامكي تسللت إلى همسات أنفاسه ليبقى التساؤل الوجودي قائما…الى متى يبقى الموت بالإكراه يثير نزوة القتل عند الإنسان ؛بدل أن يصير الحب هو الشريعة الأسمى لحياة الإنسان ، لأن الحياة في نهاية المطاف هي مجرد رحلة .

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

1 تعليق

  1. محمد معتصم العلوي يقول

    تساؤلات ميتافيزيقية بين التيه والبحث عن حقيقةً مؤلمة تأرق العقل منذ بدء الخليقة ؟؟ ثم اني اعجب للتوظيف الرائع لعديد من الكتاب والفلاسفة الذين سبق وان طرحوا هذا التساؤل! مما يعني ان الفكرة او القصة وليدة تراكمات معرفية بحثة ، وهذا ليس غريبا على من اندر كل وقته للتحصيل المعرفي والثقافي منذ عقود . مزيدا من التالق كما عهدناك …..

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.