العراصي في مراكش : وعي تدبيري وصمّام أمَان ضد العـَـوَز الغذائي

مـحـمـد الـقـنـور : 

تُـؤشِّـرُ العراصي في الثقافة الشعبية والتراث المادي في مدينة مراكش، تلكـ المساحات الفلاحية الصغيرة أو المتوسطة مقارنة بالجنانات والحقول، والتي كانت تنتشر داخل أسوار مدينة الرجال السبعة،وهي خلاف الحدائق والجنينات المخصصة أصلا للنزهات والإستجمام والترفيه أو للرياضات كمرافق سكنية ودور فسيحة بقباب وأساطين وأحواض  للأغراس غالبا ما تتوسطها النافورات .

وكان الغرض من العراصي داخل أسوار مدينة مراكش، ضمان الأمن الغذائي للساكنة، خصوصا في حالات تعرض المدينة للحصار، أو تهديدها من طرف جحافل القبائل الثائرة،والغزاة،غذاة ضعف أي حكم مركزي وأمن، وإنتشرت الفوضى والغوغائية، حيث كانت تزود المدينة الحمراء بمختلف أنواع المنتجات الفلاحية؛من القمح بنوعيه الصلب والطري والشعير والزيتون والرمان والحوامض والبواكير والتمور والبقول،وشتى الخضر والفواكه، والتي كانت متوفرة في أسواق المدينة ومتواجدة تحت سمة تنوع الأثمان.

وتعود نشأة العراصي داخل أسوار مدينة مراكش، إلى العصر المرابطي، حيث إرتبطت بتأسيس المدينة، على يد يوسف بن تاشفين،وكانت جزءا لايتجزأ من تصميمها المجالي والعمراني،ترتبط بنظام للري عبر شبكات متصلة من الخطارات،والعيون والسواقي، وقبل أن تتطور وتتنوع في زمن الموحدين، لتغطية حاجيات المدينة كعاصمة عملاقة وحاضرة من أكبر حواضر الغرب الإسلامي عموما .

هذا، وإن كانت العراصي في مدينة مراكش قد بقيت على حالها غالبا، في حين إندثرت معالمها وعم الخراب أرجائها خصوصا في العصر المريني، لدرجة أن إبن بطوطة زار مدينة مراكش خلال هذا العصر، فوصفها بكونها مدينة “علاها الخراب” فإنها سرعان ما إسترجعت أهميتها، وبريقها في عهد السعديين،مع السلاطين عبد الله الغالب وعبد الملك السعدي، وأحمد المنصور الذهبي،ثم ما لبثت أن تطورت في عهد السلطان العلوي مولاي إسماعيل، وحفيده السلطان محمد الثالث، الشهير في التراثيات المغربية بسيدي محمد بن عبد الله،الذي أحيا العراصي الخربة، وإستصلح أراضيها، وجدد معالمها الوظيفية، بل أن السلطان نفسه شجع أبناءه من الأمراء على تهيئة وإنشاء العراصي، التي لاتزال قائمة الذات إلى يومنا هذا، كعرصة الأمير مولاي عبد السلام، والمعروفة بعرصة مولاي عبد السلام، وعرصة أخيه الأمير مولاي المامون، الشهيرة بعرصة المامونية، نسبة لصاحبها، والتي يتقاسم الآن مجالها الترابي، مستشفى إبن زهر، وفندق المامونية، وهي العرصة التي كانت تمتد إلى حدود عرصة أخرى، ليست سوى عرصة المعاش بذات المدينة.

ولم تقتصر تهيئة وبناء العراصي داخل أسوار مدينة مراكش على الملوك من السلاطين والأمراء، بل أن العديد من الوزراء ورجالات الدولةوالقواد،والأعيان والأثرياء، كانت لديهم عراصي داخل أسوار المدينة الحمراء، متفاوتة على مستوى المساحة، ومدى تنوع المنتوجات الفلاحي، على غرار عرصة الغزايل، وعرصة بلبركة وعرصة المسفيوي، وعرصة علي أو صالح، وعرصة إيهيري، وعرصة باني، وعرصة بوعشرين، وعرصة الملاك، وعرصة البردعي، وعرصة الحوتة، وبالنظر إلى تموقع هذه العراصي في مراكش، فإنها كانت عادة ما تتواجد قرب الأحياء السكنية والحارات الضخمة،كحي أسوال وحي إسبتيين وحي المواسين، وحي بنصالح، وحي الزاوية العباسية، وحي القنارية، وحي حارة السورة، وحي الموقف،وحي القصور، وحي ضبشي، وحي أزبزط وأحياء أخرى،ظلت تعرف إكتظاظا سكانيا ملحوظا. 

وفي الفترة المعاصرة، وخلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر،زمن حكم السلطان مولاي الحسن الأول، ومع بداية القرن المنصرم،ونتيجة للتحول العمراني المتسارع الذي عرفته مدينة مراكش،وإرتفاع وثيرة حركة البناء والتشييد، بفعل التكاثر السكاني،عبر التاريخ وتقلص المساحات الخضراء لهذه العراصي،تحولت هذه العراصي إلى مركبات سكنية، ودروب وأسواق صغيرة تعرف بــ “السويقات” .

والحق، أن العديد من العائلات المراكشية من مالكي هذه العراصي، قد اشتهروا بممارسة الزراعة، وتدبير المجال الفلاحي سواء داخل أسوار المدينة العتيقة، أو خارجها، وهو ما ساعد في ازدهار تلك المساحات الزراعية “العراصي”وانتعاش الحياة فيها.

وطبيعي، فقد ورث أغلب الأهالي في مراكش من أصول عروبية أو أمازيغية، أو حسانية،حُب الزراعة عن أجدادهم رغم الصعوبات التي صاحبت تلك المهنة، وخاصة في فترات تراجع مُعدلات الأمطار، كما أن تطوّر الحياة المدنية وانخراط الكثير من أبناء هؤلاء في التعليم ومختلف الصنائع والحرف وتقلدهم للوظائف، صرف البعض عن هذه المهنة، وبقيت حكراً على جيل أسلافهم.

وكان مالكو هذه العراصي، يبدؤون تهيئتها بتمهيد الأرض في فترة هطول الأمطار، وتسميدها بالسماد الطبيعي، وتجهيز البذور المُراد زراعتها، وذلك في بداية شهر دجنبر في كُل عام، قبل أن  تتم زراعة تلك البذور بعد توقف الأمطار.

حيثُ عادة ما تكون التربة في هذه العراصي أكثر خصوبة، وبالانتهاء من الزراعة يتم انتظار موسم الحصاد الذي يبدأ من منتصف شهر ماي،وكان القمح الموجه للإستهلاك الذاتي أو التزكية بأعشاره داخل هذه العراصي يحتاج للري بين 4 – 5 مرات في الشهر، وإن كانت العوامل المناخية تحدد جودة المحصول في مقدمتها الأمطار ودرجات الحرارة وإعداد الحيزات الزراعية، بطريقة جيدة قبل موسم الزراعة ومراقبة الزراعة وتنظيفها بالأعشاب الطفيلية، ومن الحشائش .

ثم، كان ينتهي موسم جمع الحبوب الشتوية في منتصف شهر ماي،إلى يونيو حيثُ يتم جمعها،بعد فصلها عن التبن الذي كان يُستخدم كعلف للمواشي،والدواب، بينما كانت تُستخدم الحبوب لصناعة الخبز بكل أنواعه،ومشتقاته ومختلف الطحائن .

ولايزال هناك بعض أهالي مدينة مراكش، يتوارثون طقس الحفاظ على ضفائر السنابل، وتعليقها على جدرانات منازلهم، تفاؤلا بالنماء والخصوبة، وإستدرارا للنعم والبركات.

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.