قــصة قصــيرة ـــــــ القِــطَــار ـــــــ

الــقـِــطــــار 

 

 

 

 

 

 

إِنسلّت أشِعّة شَمسٍ رَبيعيّة مُحتشمَة فِي صَباحٍ باردٍ كعرُوسٍ ريفيّة مُثقلةٍ بالعَادات والتّقاليدِ ، رسمَت خطُوطاً أُفقيّةً متقاطعَة، مُنكسرَة الظّلّ علَى ألوَاحٍ تغطّى قُطبان حَديديّة متَناثرة هُنا وهُناك ، داخِل فضاءِ محطّة القِطار.

كَان المُسافرُون قَد بَدأُوا يتقَاطرُون علَى المَحطّة فُرادَى وجمَاعاتٍ ، شكّل الرّجالُ والنّساءُ طابُورينِ مُتوازِيينِ أمَام شبّاك التّذاكِر، فَريدٍ مفتُوحٍ أمامَهم ، بينَما العَجزةُ والأَطفالُ شغلُوا تلكَ الألوَاحَ الرّابضَة فوقَ القُضبَان الحَديديّة ومَقَاعِد شاغرة بِقاعَة إنتظَارٍ مُنعزلةٍ إضَاءتُها مُوحشَة مُحتمِين مِن طلاَئِع بردٍ قارسٍ، يُنذرُ بمطرٍ يلُوح فِي الأُفقِ، قَالت أمّ لرَضيعِها وهِي تُدثّره بتلاَبيبَ عباءَتها : مَاذا لَو جهّزوا هَذه القَاعَة بالتّدفئَة ؟ !سَمعهَا مُسافِر مُسنّ حَاله كحَال الطّفل يرتعِش مِن بردِ المَحطّة قَائلاً: إنّ إحترَام المُسافِرين هوَ حقّ مِن حقُوقهِم علَى الإدَارةِ … لكِن مَا أتعَسهُم ؟ ! رَمقتهُ المَرأة بِنظرةٍ جانبيّة فِيها الكثيرُ منَ الحِيطَة ، دُون أن تَنبِس بكلمَةٍ وَاحدةٍ ، همّت بالإنصِرافِ بعدَ أن ضمّت طفلَها إليهَا ، كَأنّها لاَ ترغبُ أن تَسمعَ ما قَاله العجُوز ،ولاَ يعنِيها ما يرمِي إلَيه ، وعَن أيّ إنسَان يتحدّث وما يقصِد، هِي إمرأةٌ مُنشغِلة بِرضِيعها في إنتظَار ساعَة الإنطِلاق،فِي نظرِها عجوزٌ أصابَه الخرَف ، يتحدّث فِي كلاَم الكِبار ، إنتَبه الرّجلُ إلَى حركَة المَرأةِ ، توقّف عَن الكلاَم ، جفّف آثَار عطسَةٍ ناوشَت خَياشِمه،بمندِيلٍ رثّ فقَد لونَه ، ثمّ إستغفَر ربّه فِي إنتظَار صفّارةِ القِطارِ.

إِندفعَ صوتٌ ملأَ فضاءَ المحطّة حَشرَجة، عَبر مِكرُوفونٍ يبدُو مُتقادماً، يعلِن عن قُرب إنطلاَق رحلةَ القطَارِ بلغَتينِ،فِي إتّجاه مدُن المُحيطِ، توزّعت نظَراتُ المُسافرينَ بينَ عقرَبي سَاعةِ المَحطّة،ومُقدّمة القَاطرَة الجَاثمة علَى سكّتهَا،كَان التّرقب سيّد المَوقفِ،تحوّلت المَحطّةُإلَى سوقٍ عشوَائيّ بقَريةٍ نَائيَة،آثَر البَعضُ مِن المُسافِرين الإنسِحابَ من الطّابُور وتحمّل رُسومٍ إضافيّةٍ فِي ثمَن التّذكرة كَضريبَة مُضافةٍ، خوفاً أن تفُوتهُم رحلَة الصّباحِ في إنتظَار رِحلة المَسَاء،فِي قاعَة إنتظارٍ لاَ تغرِي بالإنتِظارِ.

عَاد صوتُ المِكرُوفونِ يعلِن أنّ القطَار سَيتحرّك،و أخيراً … دبّ تَوجّس فِي القُلوب بينَ مصدّق وَمكذّب،هَل فعلاً سينطلِق القِطارُ،هروَل المُسافرُون تسبِقهم حقَائبُهم كَمتارِيس وأدرُع واقيَة،للوُصولِ إلَى المَعابِر المؤدّية إلَى مقصُوراتِ العَربات الّتي تحوّلت إلَى قاعاتِ إنتظارٍ أُخرَى، تئنّ مِن تكوّم أجسَاد وترَاكُم حقَائب وأمتِعة علَى بعضِها،وبُكاء أطفَال وجدُوا أنفُسهُم مُتورّطين فِي سفرٍ مجهُول.كَان آخرُ مسافِر صعدَ إلى إحدَى عرباتِ القطَار،شابّ في بدَايةِ عقدِه الثّالث، واضعاً على كَتفِه جراباً علَيه صُورةٌ لفريقٍ رِياضيّ مِن خَارِج الحُدود ، ساعَد إمرأَة رُفقة رَضيعِها وطفلَين، علَى الصّعود بِمعيّة حقِيبتينِ عريضَتينِ و عيَاءٍ جليّ وحزنٍ صامتٍ، يَسكُن نظرَاتها : لم يستَطع العُثورَ علَى مقاعِد داخِل مقصُورة مَا ، للمرأَة وأطفَالها ، وجدُوا أنفسَهم كَغيرِهم في طابُورٍ آخر متنقّل … طَويل وطوِيل،يجُوبُون ممرّات العَربات ذهاباً وإِياباً،كأنّهم في شَعيرَة.

إِستشعَر الشّابّ أنّ المَمرّات المَحمُولة الّتي تختَرقُ العَربات،ستَنقلبُ إلَى متاهَاتٍ لاَ أحدَ يمكِنهُ أَن يَتكهّن مَاذا يُمكِن أَن يحدُث فِيها أو يفكّ طَلاسِمهَا،ألقَى بجِرابِه في مساحةٍ ضيّقةٍ قربَ جدارِ إحدَى المَقصُوراتِ،إتّخذه دكّة جلَس علَيه القُرفصَاء غَير مُبالٍ بالوضعِ الّذي أصبَح علَيه،فِي إنتِظار إنتِهاء مُغامرَة سفرٍ كباقي المُسافِرين علَى متنِ القطار، لاَ يَدرِي في أيّ مكانٍ،وَلا فِي أيّ زمانٍ سيحُطّ رِحالَه.

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.