السماء مُتوارية وراء ضباب كثيف،رمادي غامق،يُنذر بنزول بَــرَدٍ حَصَوِي،مثل رصاصاتٌ ثلجيةٌ تندلق من فوهات الرعود،يعقُبُها كالعادة هنا مطرٌ غزيرٌ،يترامى في الأفق،طقس المدينة هذه الأيام لايستقر، كانت الساعة السادسة صباحا، عندما إستقـل أحمد أول طاكسي صادفه على الطريق، أجرى تمرينا بسيطا، أنفاسًا خفيفةً،تُدلِّلُ مشاعر توثر عابر، تنفس الصُعداء، قال في قرارة نفسه،يمكنُـك أخيرا أيهاالمتقاعد التائه، المنهكُ بلظى الوظيفة السابقة، بلهيب الروتين، أن تسافر هذه المرة، كرجلمختلف في عطلة كاملة،وغير منتظرة،فها أنت لم تتحرر بعد، من رتابةأرشيف القبو الأرضي المثقل بالألم ،والتراكمات، تُحاصركـ أكوام الأرشيف والمستندات،وروائح الورق العفن المتقادم، ها قد آن الوقت، لتتحرر من ما يجثم على صدرك لأعوام.
تبا لتلكـ الأعوام …
بزغت دردشة تلقائية بينه وبين سائق الطاكسي، إلتقت أثناءها الإنطباعات، تواردت خلالها الخواطر،قبل أن يتوقف السائق أمام باب مقوس أزرق، يوحي برائحة طحالب البحر،وعبق المحار، تعلوه يافطة بخط مغربي أصيل” مقهى الميناء”، قال السائق لأحمد : إحساس رائع أن تبدأ مغامرة سفركـ من هذا المقهى، حيث التاريخ والأحلام، الأطياف والذكريات ، أغلب رواد المقهى من سائقي الطاكسيات، هنا، تُختَزلُ تجاربهم ومراراتهم وكل مغامراتهم في هذه الدنيا الغادرة، وهنا،مسرح أكثر مقهى حيث الكثير من الحكايات المذهلة.
تهلل وجه أحمد،أيقظت عبارة مغامرة في أعماقه رغبة في الحياة مجددا، في التحدي وإثبات الذات،كأنها فتحت أشرعة سفينته نحو عالم آخر، إستشعر من كلام السائق عمق تجارب ناضخة،وحياة متنوعة،وبعد نظر،تكشف عنه نظراته، ترويه رموشه، أسعده كثيرا، قال : لِمَ لا ! فلتكن يا سيدي بدايةُ مغامرةٍ لرحلةٍ جديدةٍ، قد تُثير بدورها الإعجاب.
ولجا المقهى،لفت السائق انتباهه أن الباب يغلق تلقائيا بعد كل دخول وخروج،مثل أبواب حانات آخر الليل،تذكر حانات أفلام رعاة البقر الإمريكية،مغامرات الغرب الإمريكي الجامحة، جلسا معا حول طاولة مستطيلة،قاتمة،بدت كجراح ماض لم تندمل،ذرات رماد مختبئةبين فجوات شقوقها،كأنها تتوارى عن أعين المنظفين، مِرمَدةٌ مُكسرة الجوانح تتوسط الطاولة،بأعقاب سجائر رخيصة.بادرهما النادل،أتشربان شيئا ؟
طلب السائق قهوة “نص نص”،فيما أحمد إبريق شاي،تبادل السائق والنادل ابتسامةمُجاملة على مايبدوُ مُعتادة،شرع أحمد في توزيع نظراته الإستطلاعية على ما بالمقهى،فوضى الألوان، الكراسي الغير المتناسقة،والطاولات الحديدية المبعثرة القوائم،الصفير المزعج لعصارة البُن ،منشار كهربائي وليست عصارة، وبرنامج وثائقي على شاشة التلفاز المعلق على الحائط الأيمن، لم ينتبه إليه أحد،فيلم عن الفيلة بصوت خافت،وعشاق الرهان على الخيول،منغمسون في التوقعات،والتردد، يُحملقون في أوراق تصنيفات الفرسان والأرقام،ويافطة كارتونية بالية تبزغ من وراء نفث السجائر الكثيف، الذي لا يتوقف عن الجولان ،”ممنوع التدخين”.
ممنوع التدخين ! من يأبَـــهُ، لهذه العبارة، وسَط عُباب التِّبغ ! ؟
جاء صوت من أعماق المقهى،”تفــــو !… دائما ما أراهِنُ على هذا الخمسة،فــلا يدخلُ !هذا الحصان منحوس، الخيول تجري هناكــ ونحن ندفع دراهمنا هنا”،يا للمهزلة،ويا لحَظِّيَ العاثر،كل شيء هنا جامح،مدينة عملاقة،وقلق مختلف،نعاس يصارع ضوء الصباح المنتظر،وتوجس غريب، يجثم على الكراسي،التي بدت مثل عرائس من قصب،تسترقُ الإنارة القليلة الواهنة،من مصابيح لا تشع سوى على نفسها،وسُعال ينبعث من هناكـ مُتوثر يتردد صداه المتقطع يخترق الأسماع،والنوافد الزجاجية المتآكلة،ويستغيث.
أعادت عبارة “بالصحة والراحة”من النادل،أحمد من جولته البصرية السمعية،وضع أمامه إبريق الشاي،وقال : شاي هذا المقهى مثل أيامنا هذه،مرة يطفو ومرات يغفو، أنت وحظكــ،مرارا إقترحتُ على “لمعلم”،إصلاح عصارة القهوة،وجودة القهوة والشاي هي الزبناء، ظهر المقهى منفلتا من الزمن،تصارع عراقته أعطاب السنين، فالجميع يعرف أن بدايته تعود الى زمن مؤتمر أنفا الدار البيضاء مباشرة،زبناؤه يعشقونه كما هو، شاهدًا على عصره،أومأ أحمد برأسه متجاوبا مع من حضروا، بعد إن إنضم سائقون جُددُ إلى الطاولة، آثار النعاس المتلكئ لا تزال بادية على أغلبهم، إرهاق واضحٌ يرتسم تحت الجفون،”ها أنا ذا ” وضع النادل طلباتهم أتوماتيكيا،يعرفهُم ويعرفُ مايحتسون، هي طلبات معتادة لزبناء دائمين،إرتفعت وثيرة الكلام حول الطاولة،تبادلٌ للمعلومات،وسردٌ للمغامرات، وكلام عن المتاعب تقطعه التذمُرات،وشكاوى من الإنكسارات،وحصر للقليل من الإنتصارات،وسط مدينة عملاقة، تتمطط كل يوم كمارد ضرير،بَدت قصصهم مُضحكة كما مآسيهم يومية، وواخزة حتى أكثر من الإبر.
أخبر سائق : الصباح لله، … أوقفني زبون،قبل ساعة،ركب الطاكسي وانطلقنا إلى ضواحي فندق لنكولن، من جادة إبراهيم الروداني،طالبته بالثمن الواضح على العداد، فباغثني بسؤال عنيف: “هل تريد أن تَعُدَّ أسنانَكـَـ ؟؟؟”،زبناء آخر الزمان،قال آخر: البارحة، كلمتني سميرة،مسؤولة الإستقبالات بالفندق الكبير،إنتظرت ساعة هناكـ بباحة السيارات ، اتضح أن السائحين قد غادرا الفندق عبر بوابة أخرى.كان من الصعب الاتصال بهما ، حتى بعد أن تحوزت على رقم هاتفِهِما،فأنا لا أعرف اللغة الألمانية،يا أصحابي، مواقفٌ حَرجة تزداد أضعافا مضاعفة، كل ساعة، والله العظيم وبدون مبالغة كل ساعة.. ثم إستطرد “وأنتم تعرفون” .
أشار سائق آخر، قَسمًا بالله، راقصة الملهى الليلي،أفضل من بعض الزبناء الرجال،زبونة منضبطة،كريمة ومهذبة، لا تنظر حتى لِمَا يُسجِّل العداد من دراهم أداء الخدمة،لا تحكموا على الزبون حتى تتعاملوا مَعَهُ.
بفضول بالغ، تابع أحمد الحديث على الطاولة،تساءل في قرارة نفسه أيهمه شأن الطاكسي كواقع ؟داعب بأنامله مقبض إبريق الشاي الساخن،إستشعر نعومة دفئه،ودون أن يدري،وجد نفسه يتقاسم شايه في أكواب فارغة لا يعلم كيف وضعت على الطاولة،ناولهم الأكواب النصف مملوءة : لنتقاسم حلاوة هذا الشاي،أجدادنا في زمنهم تقاسموا ملح الطعام،كان الملح ولا يزال معدن الدم،رمز الأخوة وعربون الوفاء،الملح لا تأكله الديدان،يا صاحبي، ثم أننا لا نعرف ما يحصل غدا، عمت ابتسامة جماعية حركت الرؤوس بالرضى،والقبول،كانت كافية لطمأنة أحمد على نجاح خطوته،تلمس أحدهم ذقـْنَهُ،أدرك أنه لم يحلقْهُ لما يزيد عن الأسبوع،قال متهكما : لم يترك لنا الطاكسي فرصةً حتى للوقوف أمام المرآة،أخاف ألا أتعرف على وجهي في يوم ما،ضحكـ عاليا ضحكة،جعلت زملائه يدخلون في جو من القهقهات،راودت أحمد فكرة مجنونة : “الرأس اللي ما يدور كُدية” قلبت تجربته مع جراحات أرشيف مركونة في سريرته، وقابعة بقفص صدره،دوافع كافية لركوب مغامرة أرشيف متنقل، ثد يراكم أسراره.أحس بجفاف طارئ يناوش قصبته الهوائية،رشف رشفات متتالية من كأس الشاي،الذي كاد أن ينساه،وخوفا أن يعود رأسه إلى كديته، فلا يدورُ، عدَّل من وضع جلوسه على الكرسي،وزع نظراته هنا وهناك داخل المقهى من جديد ،نظر صوب مضيفه سائق الطاكسي قائلا : تذكر أنني دخلت هذا المقهى ضيفا زائرا،فـماذا لو خرجت منه سائقا زميلا لكم،لِمَ لا أخوض مغامرةً حقيقية،رخصة الثقة لدي منذ سنوات،ثم لا شيء مستحيل في الحياة.تقاطعت نظراتٌ من الجميع، رُفعت أكوابٌ،وتبادل الكل نخب سائق طاكسي جديد يبحث عن أشرعة كفيلة بإبحار مُتوثب لروحه،بين متاهات أمواج حياة غير مرتقبة،تشد الأنفاس.
همس البشير،سائق طاكسي آخر من زاوية الطاولة : الطاكسي يا أخي، عالم صغير يختزل حياة الناس،حامل ومحمول،فاقد ومفقود، وعجلات تدور،وتعود، ثم كل زبون، يركب معكـ حكاية…