في لحظات الوداع والحزن يسيطر الحق على قلوبنا، ولا نقول إلا ما يُرضي ربّنا: “إنا لله و إنا إليه راجعون”، وآيةُ ذلكــ ، أن الجميع على فراقك يا إبراهيم ، يا اليوسفي، لمحزونون ومحزونات، فقد لبى نداء ربه، اليوم الإثنين 16 يناير الجاري، الأستاذ القيدوم سيدي إبراهيم اليوسفي، بعد أن وفاه الأجل المحتوم في منزله الهادئ والجميل، والمفعم بالمحبة والطهارة في مدينة مراكش، عن سن يناهز الإثنين والتسعين سنة 92 سنة،تاركا بصمات لن تُمحَ من سجل نشر العلم والثقافة،وتوطيد التربية والأخلاق، والدود عن الوطن وقيم الوطنية،والدفاع عن مدينة مراكش وعن ثقافتها وتعددها الحضاري، وإشعاعها الحضاري، فكان ولا يزال قامة لن تُنسَ في مراكش ومسيرة مُعتبرة في نُصرة التربية والتعليم،وسيدا كبيرا في النضال الهادئ الحكيم،كريما سمحا،مُجمًعا عند الإختلاف لا مُفرّقا.
ولقد إزداد الأستاذ الباحث الفقيد إبراهيم اليوسفي، في حي سيدي أحمد السوسي،بمراكش العتيقة سنة 1930، من والده الحاج الطاهر اليوسفي،الذي ينحدر من تافيلالت، ووالدته للا خناثة، ثم سرعان ما إنتقل الوالدين بالطفل، إلى حومة قاعة بن ناهيض بذات المدينة، ليتلقى الطفل ابراهيم، تعليمه الأول، في كُتاب الحومة، والذي لا يزال قائما إلى حدود كتابة هذه الأسطر،ويُشتهر لدى عموم المراكشيين بــ كتاب مولاي أسعيد، عند مدخل حي زاوية لحضر، من طريق أمصفح بمراكش العتيقة.
ثم أن الفقيد إبراهيم اليوسفي،وبعدما إطلع في الكتاب على مبادئ القراءة والكتابة، وتعلم الخط، وأولويات التجويد،في الكُتاب، ليلتحقَ في مطلع الخمسينات بالمدرسة اليوسفية في مراكش، ثم بجامعة إبن يوسف لاحقا، والتي حصل منها على شهادة العالمية، في أواخر الثلاثينيات من القرن المنصرم، وقد درس الفقيد بمدرسة عرصة باني الإبتدائية،ثم إلتحق كأستاذ بثانوية محمد الخامس بباب أغمات، حيث إلتقى بصديق عمره الأستاذ المرحوم عبد المالك الشباني، والعالم الأديب أحمد الشرقاوي إقبال،والفقيه الأستاذ مولاي أحمد نبيل، والشيخ الأستاذ المرحوم عبد الوهاب المنيعي، والحافظ العلامة سي المحجوب بن السالكـ ، والأستاذ الفقيد محمد الطالبي، المدير المؤسس للإدارة التربوية المعاصرة بثانوية إبن عباد . وكأستاذ بثانوية مجمد الخامس في باب أغمات،كان من تلاميذة الفقيد الأستاذ إبراهيم اليوسفي على سبيل المثل لا الحصر، الأساتذة الدكتور عباس أرحيلة، فارس المحاضرات في الأدب والنقد العربي والأستاذ الدكتور أحمد شوقي بنبين،رائد علم المخطوطات بالمغرب، ومدير الخزانة الحسنية بالقصر الملكي في الرباط والأستاذ مصطفى الشابي، العميد السابق لكلية الأداب،والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس في الرباط . ثم إنتهى الفقيد الأستاذ إبراهيم اليوسفي،بعد مسارات متعددة له من التدريس والتأطير، كأستاذ بثانوية ابن عباد بذات المدينة مراكش، قبل أن يدخل غمار التفتيش التربوي بمدينة الدار البيضاء، بتجربته الرائدة وتراكماته التربوية والمنهجية المشهود لها من معاصريه.
ومهما يكن، فقد عاد الفقيد الأستاذ إبراهيم اليوسفي،مفتشا إلى مراكش ثم الدار البيضاء مجددا، إلى أن تقاعد في مطلع سنة 1990، حيث عُرف بدماثة أخلاقه وتواضعه وحبّه للعمل وإستماته في الدفاع عن الوطن وقيم التعليم والتربية، وطيب معشره وحسن أدبه، وكرم نفسه، وحضور بديهته، وتوقد ذهنه . ومن الطبيعي، فإن مثل الفقيد إبراهيم اليوسفي، وغيره من الأعلام، بمختلف القطاعات، لا يركَنون في فترة تقاعدهم من الوظائف النظامية، إلى حياة الراحة والعيش الوثير، والتوقف عما تفرضه أنظمة العمل من حركية يومية متكررة، ومستدامة، وإنما يعتبرون فترة تقاعدهم، بداية مُورقة للإستمرار في العطاء، حتى إذا ما بلغوا هدفاً، بحثوا عن هدف آخر مثله أو أعلى منه ، يسعون إليه،ويلتمسونه إلتماسا، ولايوقفهم عن البذل في سبيل البناء في الدنيا والتطلع نحو مجد الآخرة إلا توقف دقات قلوبهم،مؤمنين، ومقتنعين، لئن توقفت دورة دوام العمل الوظيفي الرسمي، فلن تتوقف معه عجلة النفع للناس والانتفاع من العمل الصالح،والصدقة الجارية، لذلكــ إستلهم الفقيد الراحل الأستاذ إبراهيم اليوسفي، يرحمه الله، من تجربته المهنية وحنكته التربوية وزاده المعرفي، طريقة تعامله الدؤوب مع المتغيرات حوله، فبرع من خلال نظرته الإيجابية والسليمة للحياة، وعبر طرق تفكيره ومنهجيته،إذ إنكب على التأليف والتصنيف، والحق، أنه لم يترك بابا من أبواب المعارف إلا ولجه، فقد كتب الفقيد في الحكم والوصايا النيرة،وفي “سجر اللغة العربية وجمالها وعبقريتها” كما وضع الطبائع البشرية تحت المجهر، وإستثمر ما كان يقرؤه بأمهات الكتب في التاريخ والآداب،والفكر، فإنتقى من مأثوراتها،أجودها وأكثرها علاقة مع حياتنا المعاصرة،ضمن “شذرات من بليغ الأمثال، والأقوال، والطرائف، والحكم” ثم تساءل في كتاب آخر لها، عن المرأة المسلمة،وهي في مفترق الطرق بين الأصالة والحداثة، ثم أرسل صيحته الشهيرة من أجل إنقاد اللغة العربية، هاتفًا “أن لغة القرآن تستغيث ! فهل من مغيث؟ ثم عاد للتاريخ من مدينة مراكش، نحو عموم ربوع المملكة في كتابه “خواطر من صنع الأحداث” ،وقد وضع في صورة هذا الكتاب جانبا من باحة جامعة إبن يوسف في مراكش، كجامعة لاتزال تسكن وجدان وذاكرة وتراث المغاربة، وشعورهم الجَمْعي بالتميز والوسطية .
وبهذه المناسبة الحزينة، لايسعُني،أصالة عن نفسي، ونيابة عن كل الزملاء والزميلات، إلا أن أتقدم إلى إبنَيْ الفقيد الراحل الأستاذ إبراهيم اليوسفي،الاستاذ عصام والأستاذ إحسان ، وكريمتيه الاستاذة الهام والأستاذة حنان، وأخيه ، صديقي الأستاذ عبد اللطيف اليوسفي، وإلى كل عائلة الفقيد، وأرحامه،وأصهاره، وزملاء دربه وتلاميذته، وقُرائه، ومن عرفه عن كثب أو عن بُعد،بأبلغ معاني المواساة، وأسمى مشاعر التعازي، وأن يمطر على الفقيد شآبيب رحمته– وقد إلتحق بشريكة عمره ورفيقة حياته،وأم إبنيه وبنتيه، السيدة غيثة بنونة،وأخيه صديقي الدكتور سيدي محمد اليوسفي يرحمهما الله، بدار البقاء – ويدخله في فسيح جناته .
هذا، ولا أرثي اليوم رجلا عاديا بل عَلَما من أعلام مدينة مراكش، وكفاءة وطنية متميزة،وإنسانا بكل ما تحتويه هذه الكلمة من معاني النبل والعطاء والإخلاص، مما يشهد له به كل من عرفه من قريب أو من بعيد،سائلا، الله جـَـلَّ في عُــلاه، أن يتقبّله مع الصالحين وأن يجمعنا معه في أعلى عليّين في جنّات الخُلد،مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولائك رفيقا،آمين . وبسم الله الرحمان الرحيم: ”يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضيّة وادخلي في عبادي وادخلي جنّتي” صدق الله العظيم .