رغم أن الشرع الإسلامي يمنح المرأة حصّة تعادل نصف حصّة الرجل من الميراث، فإن حالات متباينة وقفت عليها “هاسبريس” حرمت أو حاولت حرمان النساء حتى من هذا النصف بسبب التقاليد، ونتيجة سيادة الأعراف، متذرّعة بمسوّغات اجتماعية وثقافية مختلفة.
وتحرم هؤلاء النساء من حقهن في الإرث العائلي، أو الاستفادة من الوقف المحبس على السلالة، أو من حقوقهن في الأراضي السلالية، نتيجة تضليل العدالة، وشيوع العقليات الذكورية، التي تخشى من انتقال أملاك العائلة لأشخاص “أغراب عنها” يتزوجون من نسائها. يشرح الباحث في التراث المغربي، الدكتور حسن المازوني، رئيس مجموعة البحث في اللغات الشرقية بجامعة القاضي عياض، أن “ميراث الأرض أو العقارات، يكتسي قداسةَ مطلقة، ويمثل جزءا لا يتجزأ من شرف رجال العائلة أو السلالة وحدَهم، فالإرث لدى هؤلاء الرجال، ليس مجرد ممتلكات توزع، وإنما كرامة السلالة، وبركة الأجداد، وعلى الرجال أنْ يحموه، وأن يحفظوه من الضياع، بعد وفاة الأب ممثل الوحدة العائلية، ورمزها، مما يجعل الاقتسام للتركة ينصب على الذكور فقط، من الأبناء والأشقاء والأعمام، دون النساء، فقط لمجرد كونهن نساء”.
ولهذا تُعاني الكثير من النساء في جهة مراكش آسفي، من حرمانهن من الميراث، ومنهن الضاوية، وهي أرملة في منتصف الخمسينات، تعيش مع ابنتها التي تدرس الصيدلة في عامها الثاني بالجامعة في مراكش.
قبل عامين طلب أشقاء زوج الضاوية منها إخلاء منزلها لأنه ملك للعائلة ويريدون عرضه على المشترين، وأخبرها أحدهم مستنكراً “هل ستتزوجان وتأتيان بغريب يُقيم ويتمتع فيما تعب وشقي فيه المرحوم لسنوات؟” بحسب روايتها. وبالفعل، تركت الضاوية وابنتها المنزل قبل أسابيع، حيث تستأجران الآن غرفة مع الجيران بالمدينة العتيقة، ريثما يتم تسوية ملفها لدى مؤسسة مختصة في السكن الاجتماعي، بمساعدة جهة إحسانيه.
التنازل عن الميراث تحت الضغط
عندما يفشل بعض الرجال باستخدام الأعراف لحرمان النساء من الميراث، فإنهم يلجؤون للضغط على الوريثات للتنازل عن حقّهن أو الحصول على جزء قليل منه فقط، كما حصل مع عائشة، وهي موظفة حسابات في مصنع للمواد الغذائية في منتصف عقدها الرابع. تروي عائشة لـ “هاسبريس” : كان والداي ووالدتي هما كل حياتي، عشت معها في بيتنا الكبير الذي يتوسط ضيعتنا المحاذية للوادي، فيما تزوج أشقائي الثلاث وانتقلوا للعيش في منازلهم الخاصة.” عند وفاة والدهم، في بداية السنة الحالية 2023 طلب أخوة عائشة منها توقيع تنازل عن حقها في البيت والضيعة، مُقابل حصولها على مجوهرات والدتها وبعض الأغراض المنزلية الثمينة. تروي عائشة “صمموا أنهم أولى ببيت أبيهم وبأرضه من رجل غريب، قد يأتي ليتزوجني، طمعا في البيت والضيعة وباقي الممتلكات، فيصبح هو المتحكم والمستفيد من إرث العائلة”. قبلت عائشة بعرض أشقائها، تجنباً للخلافات، إلا أنها خسرت حصّتها من الإرث. تختم عائشة بقولها “أحمد الله أن أبي كان حريصا على تعليمي، فليس لدي الآن سوى وظيفتي وراتبي، فحلي ومجوهرات والدتي، لا تساوي شيئا أمام قيمة نصيبي في الإرث، الذي أصبح يخص أخوتي وحدهم”.
النصب والتحايل
لم يخطر ببال ماماس، 65 سنة، والمنحدرة من أصول أمازيغية من أصقاع بلاد سوس عندما تزوجت بالحاج عبد القادر صاحب شركات لبيع المواد الغذائية بالجملة، وممون الحفلات، قبل ثلاثين عاماً بأنها ستكون ضحية للاحتيال بعد وفاته. وتزوجت ماماس بالحاج بعد وفاة زوجته لتربي أبناءه الخمسة وترعاهم كأولادها، إلا أنهم ما إن شهدوا وفاة والدهم حتى طلبوا منها الذهاب معهم إلى مكتب موثق، بدعوى توزيع تركة الراحل، ونظرا لثقتها فيهم ولكونها أمية، بصمت على وثيقة هبة لفائدة هؤلاء بمكتب الموثق، بخصوص ثلثي إرثها. وما إن عادت لمنزلها حتى أخبروها بأنه أصبح ملكية الشقيق الأصغر، وطردوها منها لتقتني شقة صغيرة، بأحد الأحياء الشعبية، حيث تعيش الآن في منزل من غرفة واحدة بما حصلت عليه من أموال من شيك بنكي تسلمته بمكتب الموثق.
لا ورثة للنساء من أراضي السلالات
ورثة الأراضي السلالية، إشكالية مُعقّدة تواجهها النساء عند مطالبتهن بحقوقهن، فهذه الأراضي تكون عادة تحت تصرف رجال السلالة “العشيرة”، بحيث لا يستفيد من خيراتها الزراعية والبناء عليها سوى الذكور حصراً. وتشير المحامية سعيدة وهبي، عضوة هيئة المحامين بمراكش، إلى تحركات النساء السلاليات المغربيات، لمناهضة الأعراف والممارسات السائدة لدى هذه الجماعات السلالية. إذ نظمت العديد من النساء وقفات تحسيسية في كل مدن المهدية، و وجدة والقنيطرة، وغيرها ومسيرات إحتجاجية نحو الرباط، بمساندة “الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب”، إضافة لفعاليات حقوقية نسائية ورجالية أخرى، تلتها أسئلة برلمانية في سياق مراقبة وتتبع عمل الحكومة.
وتقول وهبي إن هذا ساهم في دفع وزارة الداخلية لإصدار القانون رقم 62.17 في سنة 2019 والذي أكد سمو القانون على الأعراف السلالية، ونصّ على المساواة بين الذكور والإناث من أعضاء الجماعات السّلالية، وأقر بأحقية النساء السلاليات في عضوية الجماعة والاستفادة من أملاكها، ومنتوجاتها الزراعية. “إضافة لأحقيتهن في تحمّل مسؤولية تمثيل الجماعات السلالية، و في التّعويضات الناتجة عن المعاملات العقارية التي تعرفها أراضي الجماعات السّلالية، سواء بالشراكة، أو بالإيجار أو التّفْويت بالتنازل عليها، لفائدةِ طرف أو أطراف حتى من خارج السّلالة، أسوة بأعضاء السلالة من الرجال، فهو قانون يكرس المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات، طبقاً لأحكام دستور 2011” كما تقول وهبي.
وتشير المحامية وهبي للدورية رقم 60 الصادرة بتاريخ 25 أكتوبر 2010 والتي تم تعميمها على جميع عمالات وأقاليم المملكة، ثم تلتها الدورية الوزارية رقم 17 الصادرة بتاريخ 30 مارس 2012 . وأكدت كل منهما على ضرورة استفادة النساء السلاليات من حق الانتفاع من أراضي الجماعات السلالية، والاستفادة من الأرباح الناتجة عن المعاملات العقارية التي تقوم على هذه الأراضي السلالية سواء عن طريق الكراء أو التفويت أو الشراكة، إسوة بالمنتمين للسلالة من الرجال، انسجاما مع مقتضيات الدستور التي تؤكد على إلغاء كافة أشكال التمييز ضد النساء. وبالرغم من الصعوبات التي تم تسجيلها في البداية في بعض الأقاليم، نتيجة نوازع العقليات الذكورية، وتراجع النساء في بعض الأحيان لأسباب خاصة تتعلق بوضعهن داخل بعض السلالات، فإن المبادرات والجهود التي بذلتها السلطات الإقليمية والمحلية، أعطت نتائجها تدريجيا لفائدة النساء السلاليات.
رأي المجلس العلمي
يؤكد الدكتور محمد عز الدين المعيار، رئيس المجلس العلمي لمدينة مراكش، وعضو المجلس العلمي الأعلى للمملكة أن “العرف يظل مقبولا ما لم يخالف نصا شرعيا أو قاعدة أساسية، وبالتالي لا يوجد سبب يمنع توريث النساء السلاليات والنساء الوارثات لأراضي الوقف من الاستفادة مما يستفيد منه الرجال”، وهو ما أكدته فتوى المجلس العلمي الأعلى جوابا عن سؤال ورد على وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بتاريخ 29 يونيو 2010 وذلك اعتمادا على أدلة تقوم على آيات من القرآن الكريم وأحاديث من السنة النبوية. كذلك بناء على تغير العرف الذي بني عليه هذا التقليد ضمن الجماعات السلالية، والذي حصر الاستفادة من هذه الأراضي على الرجال دون النساء على اعتبار أن الرجل كان مصدر الحماية والرعاية في القبيلة عندئذ، وهذا لم يعد صالحا اليوم بعد أن صارت الدولة بقوانينها و مؤسساتها هي الحامية للقبائل و العشائر والراعية لشؤونها.
الوقف تحايل على حق المرأة في الميراث
تُعرّف الناشطة الحقوقية نزهة بلقشلة، عضوة “الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب”، الوقف بأنه “يقوم على السلالة، سواء كانت هذه السلالة منحدرة من أحد شيوخ الأعيان، أو من قطب صوفي، أو رجل سابق من رجالات الدولة والحكم، قام في زمن سابق، بتوثيق ممتلكاته لنسله من الذكور، ما تعاقبوا عبر العقود والقرون، دون الإناث، خوفاً من أن يتزوجن برجل خارج السلالة، فتضيع الممتلكات وتتفرق في سلالات أخرى”.
وترى بلقشلة أن هذا التصور “التقليدي” يكشف عن “الانتهاك الواضح لمبدأ المساواة، لتظل النساء من نفس العائلة أو (العَقِب)، محرومات، مما يعد تنافيا مع مقتضيات دستور 2011، لما يتضمنه الوقف على المعقب الذكر من شرعنة بالوثائق العدلية لحرمان النساء من الإرث، وتحايلا على القانون وعلى القرآن الذي يعترف بحق المرأة في الميراث”. وحسب بلقشلة، فإن جهة مراكش آسفي تحتل المرتبة الأولى من حيث عدد الوقف الخاص العائلي في المغرب، لذا قررت مئات النساء المتضررات في هذا الصدد، الوقوف ضد هذه الممارسات التمييزية التي ينتجها نظام توقيف الأموال على الذكور وإقصاء النساء. ولمساندتهن، أخذت الجمعية على عاتقها مسؤولية الترافع عنهن وطنيا ومحليا بجهة مراكش آسفي من أجل تحقيق مطالبهن بالاستفادة من الوقف، إضافة إلى إطلاق حملات إعلامية للتوعية من أجل إيصال صوتهن للحكومة وللجهات القضائية والإدارية المسؤولة. “كذلك قمنا بإرساء برنامج تأطيري وطني لتقوية قدرات هؤلاء النساء من عائدات الوقف، وتمكينهن من خوض معركتهن بأنفسهن” حسب تصريح بلقشلة.
هذا، وتقدر الملفات المعروضة على أنظار القضاء في هذا الصدد بما يناهز 400 ملف على المستوى الوطني، كما رفعت ذات الجمعية إلى الحكومات المتعاقبة، منذ صدور دستور 2011 مذكرة مطلبية لإنصاف النساء من هذه العائلات والسلالات المُحبسة عنها الأوقاف. وتعتبر الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب (ADFM) التي أنشئت سنة 1985 في الدار البيضاء، هي الرائدة في تناول ومعالجة هذا الموضوع، وقد تم تأسيسها من قبل مجموعة من النساء التقدميات على غرار الوزيرة السابقة نزهة الصقلي وأمينة لمريني الوهابي رئيسة الهيئة العليا للإعلام السمعي البصري في المغرب الــ”هاكــا”. فقد فتحت هذه الجمعية ملف عدم إستفادة النساء من الأملاك والعقارات والأراضي الموقوفة عليهن كالرجال ممن يتقاسمون معهم نفس الأصول العائلية، وطالبت بحظر التمييز على أساس الجنس في توزيع العائدات المترتبة على تصفية الوقف المعقب والمشترك ، لكونها تتضمن في عضويتها مسؤولات حكوميات، وبرلمانيات، إستطعن عرض القضية على الحكومات منذ حكومة عبد الإله بنكيران ، وقامت بتنظيم ورشات تحسيسية إطلاعية لفائدة البرلمانيين والقضاة والصحافيين من أجل إطلاعهم عن إقصاء النساء من الاستفادة من إيرادات الوقف المعقب والمشترك.