حــنـــان الــتـــاجــر :
“نظر إليَّ بشهوانية، كان مترنحا من إفراطه في الشرب، وقبل أن أضع ثلاث زجاجات أخرى من البيرة على طاولته، صفعني على مؤخرتي وهو يشير إلى أن منفضة السجائر أصبحت ممتلئة وعلي تنظيفها” تسرد ليلى، 27 سنة، وهي سيدة مطلقة وأم لطفل واحد.
وتضيف ليلى، أن تحرش الزبون بها كانت على مرأى من الزبائن الآخرين، ومن خالد، زميلها المُكلف بضبط الحسابات بصندوق الحانة.
ورغم وجود هؤلاء الشهود، لم تلقى شكوى ليلى لدى الحاج مالك الحانة ومديرها المسؤول أذنا صاغية. فالأخير لم يكلف نفسه حتى الحديث مع الزبون المعتدي ولا مساءلته حول ما أقدم عليه، بل أجابها : “ماذا عسايَ أن أفعل، الرجل في حالة سكر ، وهو زبون مرموق لحانتنا، فهل تعتقدين يا ليلى، أن لقمة الخبز سهلة، فنحن نصبر لسخافات وتنطُّعات هذا وأمثاله، لأن أرزاقنا في جيوبهم”.
تتكرر حوادث تحرش مماثلة مع عاملات الحانات والأندية الليلية بشكل كبير، ويتسامح معها المجتمع المغربي الذي يعتبر التحرش فعلاً عادياً ورمزا للفحولة، وتختلط طبيعة العمل بهذه الاتهامات، لتُصبح مهن النساء بحد ذاتها إدانة، كحال العاملات المغربيات في المؤسسات الترفيهية، والمرافق السياحة.
ولا تقتصر معاناة هذه العاملات على تعرّضهن للتحرّش الجنسي، بل تمتدّ لتحميلهن المسؤولية عن التحرّش والاعتداء الذي يتعرّضن له، “حفاظا على الزبائن، وعلى سمعة المؤسسة وأرباحها” وعلى الصمت بحسب ما قلن.
لهذه الأسباب، رفضت العديد من ضحايا التحرش من النساء العاملات أو المدبرات للمؤسسات السياحية والمرافق الخدماتية الإستجمامية مقابلتنا، وبدى أن جمع بيانات وأرقام محددة واضحة المعالم حول وضعياتهن، مقامرة قد تخسر بسببها إحداهن عملها، وينقطع رزقها، أو تُمنع من الاستمرار في العمل، تحت ضغوطات من العائلة.
وبعد أسابيع من التواصل وكسب الثقة وفق توصيات ومنهجية دليل التغطية الإعلامية للعنف ضد النساء، الصادر عن شبكات من أجل التغيير وشركاء للتعبئة حول الحقوق، « مرا »، تمكنا أخيراً من الحصول على الشهادات.
وأولهن كانت سناء 32 سنة، التي تعرضت للتحرش الجنسي لأول مرة في حياتِها المهنية وهي في الثانية والعشرين من عمرها، بعد تخرجها من المعهد العالي الدولي للسياحة بطنجة ISITT.
وعن هذه التجربة تروي: “كنت مسؤولة عن توضيب المزهريات كعمل تدريبي أولي في أرجاء إحدى المؤسسات الفندقية، وبينما كنت أمشي في إحدى الممرات، طلب مني زبون وردة، وقبل أن أناوله إياها، شد على يدي، وهمس لي بأنني الوردة التي يريدها”.
ولم يكتف الزبون بذلك، بل طاردَها بخطى متسارعة على طول الممر داخل الفندق، متفوِّهاً بألفاظ مفرطة في البذاءة، “كان يوخز مسمعي مثل دبابيس فولاذية” تقول سناء التي تعرضت بعد هذه الحادثة لسلسلة من التحرشات والنظرات البذيئة لزبائن آخرين.
تروي سناء: “لم يتوقَّف التحرش بي في الفندق طول العشر سنوات الماضية، واستمر معها قلقُ والدتي ومراقبتُها الدائمة للباسي ومساحيق تجميلي- وكأنها هي السبب وليس المتحرشون أنفسهم!”.الآن أخيراً تشعر سناء أنها بأمان من التحرش بعد ترقيتها لتصبح مسؤولة عن مستودع التصبين.
المُـــدلكّات يتـــركن العمــل هـــرباً من العُنف
تتكرر قصةُ سناء مع العديد من العاملات في مراكز التدليك والنقاهة، ونادلات المقاهي والمطاعم والحانات، والأندية الليلية، ومدبرات الغرف والمرافق فندقية، فبالإضافة إلى كونهنّ ضحايا تحرّش كما روت العديدات منهن لــ “هاسبريس”، كن كذلك في نظر المجتمع “مُستحقات لهذا التحرش” بحكم عملهن في هذه المرافق السياحية.
تقول إلهام، 34 سنة، مديرة مركز للترويض والتدليك والعلاج الطبيعي أن بعض الزبائن خصوصا من الرجال يخلطون ما بين تقديم الخدمة العلاجية خصوصا على مستوى التدليك، وبين الإثارة الجسدية والنزعة الجنسانية، حيث يطلبون تدليك أعضاءهم التناسلية، وأمكنة حساسة من أجسادهم، ويطلبون من المُدّلكات تحديد موعد للقائهم -بعد الإكرامية- لقضاء ليلة معهم.
رغم أن المركز الذي تديره، حريص على سمعته، وعلى توفير الأجواء الملائمة للزبائن والزبونات على حد سواء.
وتضيف إلهام “العديد من الرجال يطلبون مدلكات نساء من أجل مطالبتهن بالمداعبات الجنسية، وبعد إعلامهم بأن نوع التدليك المطلوب هو من تخصص مدلك لا مدلكة، حسب معطيات الموارد البشرية للمركز، فإنهم يغادرون ولا يعودون”.
وتشير إلهام، لحكاية المُدلكة زينب، في منتصف عقدها الثالث، وهي مدلكة خبيرة وحاصلة على شواهد مهنية عليا في المجال، إلا أنها اضطرت لترك المركز السنة الماضية، بعدما حاول زبون اختطافها من الشارع بعد خروجها من المركز مساء رفقة رجلين آخرين، “لولا تدخل المارة، وشرطي مرور كان بالمدار المجاور للمركز لإنقاذها بعد صراخها، وإمتناعها عن ركوب السيارة بالقوة لكانت تعرضت للاغتصاب” تقول إلهام.
ويتعرض مركز إلهام كما العديد من مراكز التدليك لخسارة مستمرة للأيادي العاملة النسائية بسبب التحرش والمعاكسات، فمدّلكة واحدة من بين خمسة تستطيع الاستمرار في العمل في مركز إلهام لأكثر من سنة واحدة بحسب تقديرها، علما أن مركزها يعمل منذ عام 2002 وحتى الآن.
في الحانة المجاورة للمركز، تجلس فاطمة الزهراء، 33 سنة وحاصلة على الإجازة في العلوم الاقتصادية، وتروي ما تتعرض له النادلات من تحرشات خصوصا من الزبائن العابرين، وتعزو ذلك “لشيوع العقلية الذكورية، وربط المشروبات الروحية بالجنس”.
وتوضح فاطمة المسؤولة عن النادلات بذات الحانة، أن “هذه العقلية الذكورية تعتبر الحانات مجالاً خاصاً بالرجال، وأن المكان النمطي للنساء، هو المنزل، أو أضرحة الأولياء، أو حضور مباركات الولادة أو حفلات الزفاف فقط وبالتالي التحرش بهن طبيعي.”
تقدّر عدد من الجمعيات التي إلتقتها “هاسبريس” عدد حالات التحرش والاغتصاب بالعاملات بهذه المرافق بالمئات، إلا أنه لا يوجد أية أرقام رسمية في المغرب. إذ تفضل أغلب الناجيات عدم تقديم شكايات.
ذكـــرى العُـــنــف..لا تُــمـــحى
تروي كوثر ، 43 سنة، وهي تقيم في كندا بعد طلاقها من زوج أجنبي، أنها كانت تعمل كمسؤولة علاقات وتواصل بإحدى ضيعات الضيافة في المغرب لإعالة والدتها المريضة آنذاك، إلى أن انتهت سلسلة التحرشات اللفظية والجسدية، التي كانت تتعرض لها من طرف مديرها، باغتصابها.
وتتذكر كوثر تفاصيل الحادث الذي ظل يلاحقها لمدة تزيد عن العشرين سنة بمرارة، وبعينين دامعتين وتقول:” لم أكن لأبالي بالكلمات ذات الحمولة الجنسية التي كان يقولها مديري في العمل، كنت في الـ22 من عمري تقريبا، وفي يوم الجريمة طلب مني مديري أن أمكث بالعمل إلى غاية الساعة العاشرة ليلا، لإستقبال فوج سياحي، وتأمين حاجياته وطلبياته للقيام بزيارات سياحية للمعالم الأثرية والأسواق العتيقة بالمدينة في اليوم التالي، كان أغلب العمال والمستخدمين يغادرون العمل في تمام الساعة الثامنة والنصف ليلا”.

تتابع كوثر: “رن هاتف مكتبي وطلبني المدير لمكتبه، وما إن وصلت انقض علي، واغتصبني بوحشية، تعرضتُ بعدها لأزمة نفسية، و لاتزال تداعيات ما عشته عالقة فيّ كالوشم”.
أخت كوثر الكُبرى نصحت كوثر آنذاك بعدم تقديم أي شكاية للأمن، أو رفع دعوى قضائية ضد مغتصبي، “مخافة الفضيحة، وحفاظا على سمعة العائلة” بحسب قولها.
توقفت كوثر عن العمل وهاجرت لكندا لتعمل مُجددا بأحد المنتجعات بضواحي مدينة تورينتو، “لكن هذه المرة في أجواء من المسؤولية واحترام الإنسان والقانون، لكن صدمة الاغتصاب الذي تعرضت له أثرت على علاقتي بزوجتي فأصبحت أرفض الجنس الآخر وانفصلنا” كما تقول.
الاغــتصـــاب قـــانونا
يُعرّف الفصل 486 من القانون المغربي الإغتصاب بأنه “مواقعة رجل لإمرأة بدون رضاها، ويعاقب عليه بالسجن من خمس سنوات إلى عشر سنوات”. ويشرح الفصل المذكور، أنه في حال إذا كان سن المغتصبة أقل من 18 سنة، أو عاجزة، أو معاقة، أو معروفة بضعف قواها العقلية، أو حاملا، فإن الجاني يعاقب بالسجن من عشر سنوت إلى عشرين سنة.
وتؤكد مجموعة من المحاميات وخبيرات مراكز الإستماع للنساء المعنفات ممن إلتقتهن “هاسبريس” أن هذه العقوبات -رغم صرامتها- تخفي مهانة كبيرة للنساء، لكونها تفرّق بين العازبة والمتزوجة، وتُجمع هذه المصادر على أن القانون الجنائي المغربي، تحكمه العقلية الذكورية.
كما أن العقوبات المنصوص عليها في الفصل 486 من القانون الجنائي، لاتطبق إلا في حالات محدودة، فضلا عن كون القاضي يطلب من ضحايا الاغتصاب تقديم شهود، وفي كثير من الأحيان تجد الضحية نفسها مُدانة، لأن الجاني يبني دفاعه على أنه كان على علاقة معها، فيوجه إليها القاضي تهمة الفساد.
وتلعب عقلية بعض القضاة ورجال الأمن، ممن يحررون المحاضر ، دورا في التساهل مع الجناة، إذ تجد الضحية نفسها، أمام أسئلة تبحث عن إدانتها من قبيل : “هل أنتِ عذراء؟” ، “لماذا خرجتِ وحدك بالليل؟ ” “ماذا كنتِ تفعلين في هذا المكان؟
التحرش جريمة المُتحرش وحده
تشير سامية 42 سنة، مديرة إحدى الأندية الليلية بمراكش، إلى أن الكثير من الرجال الذين يرتادون ناديها الليلي يبرّرون تحرّشهم الجنسي بالعاملات فيه، بمكان عملها أولباسها، وطريقة “ماكياجها” وحتى تفاصيل جسدها.
و تُجمع الضحايا- حسب سامية – بأنهن يتعرضن دائماً للملامة، بعد تعرضهن للتحرّش، أو حتى بعد نجاتهن من الاغتصاب، “هن فقط المُتهمات والمُلامات، فقط لكونهن يشتغلن في هذه الأندية من أجل لقمة العبش، ولكونهن نساء” تضيف سامية.
وتشير سامية، وهي متزوجة وأم لثلاثة أبناء، إلى سوء فهم العديد من فئات المجتمع للأندية الليلة، فهي مرافق خدماتية، يؤطرها القانون التجاري، من أجل الاستجمام والترفيه واحتساء المشروبات والرقص والإستمتاع بالموسيقى، وليست “بيتا للدعارة” كما تُوصم لدى الأغلبية.
وتقارن سامية بين وضع عاملات الأندية الليلية في البلدان المتقدمة على مستوى حقوق النساء، حيث للعاملة حقوق، وتتم حمايتهن من التحرش والانتهاكات ويُنظر لها كأية عاملة أخرى في مقهى أو معمل، بينما يضطر أفراد طاقم الحراسة في نادي نادية في كثير من الأحيان إلى الدخول في مشاحنات مع الزبائن المتحرشين، تنتهي بطردهم، خارج النادي بحسب قولها.
في ذات السياق، تؤكد أمينة بيوز، رئيسة مؤسسة النواة للحقوق والتنمية بإقليم شيشاوة، بأنّ “تبرير التحرّش بالنساء بسبب طبيعة وظائفهنّ أو طريقة لباسهن، نابع من خلفيات ثقافية ذكورية واهية فالواقع المعاش في جهة مراكش آسفي وفي غيرها، يكشفُ أن التحرّش يستهدفُ حتى النساء ممن يرتدين الحجاب في المرافق السياحية الترفيهية، مما يفيد أنّ النساء جميعهنّ لسن في مأمنٍ في مجتمع لايزال يعيش أحكام الوصاية الذكورية”.
و تفسّر الكاتبة والباحثة في التاريخ والسوسيولوجيا الراحلة فاطمة المرنيسيي في كتابها: “ما وراء الحجاب” المضايقات التي تتعرض لها النساء بالأماكن العامة بكونِ المرأة، في الذهنية الجمعية، “اقتحمت مكاناً خاصاً بالرجال، ومجرّد وجودها في مكان لا يجب أن تكون فيه، يشكّل عملاً هجومياً بما أنها تزعزع النظام الاجتماعي، وتقلق راحة فكر الرجل.. ويكون الوضع أخطر إذا كانت المرأة سافرة.”
وتؤكد بيوز بأن التحرش الجنس في مكان عمل النساء هو انتهاك لحقوقهن، وهو مُجرّم قانونا بموجب القانون رقم 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء، والذي دخل حيز التنفيذ في شتنبر2018 والذي ينص على توفير الحماية القانونية للنساء ضحايا العنف”
ويُعرّف هذا القانون العنف ضد المرأة، بكونه كل فعل مادي أو معنوي أو امتناع أساسه التمييز بسبب الجنس، يترتب عليه ضرر جسدي أو نفسي أو جنسي أو اقتصادي للمرأة.
وقد واكبت وزارة التضامن والاندماج الاجتماعي والأسرة تنفيذ مقتضيات هذا القانون ومرسومه التطبيقي رقم 2.18.856، الذي يتضمن آليات تنظيمية تخص التكفل بالنساء ضحايا العنف، وتحديد شروط تقديم خدمات هذا التكفل، وإحداث اللجنة الوطنية للتكفل بالنساء ضحايا العنف التي تضطلع بصلاحيات هامة مسندة إليها بموجب القانون.
مجهودٌ مزدوَج للعيش بكرامة وأمان
تصف ابتسام،27 سنة، وهي عاملة نظافة بمؤسسة فندقية من أربعة نجوم، المجهودَ الذي تقوم به لتعيش بكرامة في ظلّ المضايقات التي تتعرّض لها يومياً، وتقول “علي أن أخوض يومياً معارك داخلية في عملي وخارجية في طريقي إليه، لا يكفي أن أحمل هموم حياتي ومسؤوليتي عن أمي وأخي الأصغر، فوق هذا أحد نفسي مضطرّة إلى تحمّل التحرّش في الحافلات وفي الطاكسي الكبير، وفي تلك الوريقات الصغيرة التي أجدها تحت وسادات الغرف التي أوضبها في الفندق، والتي يكتب فيها الزبون المتحرش أقدح الكلمات وأكثرها بذاءة لي مُذيّلة برقم هاتفه”.

قررت ابتسام أن تحكي عن التحرش الذي تتعرض له لسكرتيرة مدير الفندق فنصحتها بعدم التقدم بشكاية لأن “المدير لن يقبل تعريض سمعة الفندق للأقاويل” بحس قولها.
لجأت ابتسام عندها إلى ندوات الجمعيات النسائية التأطيرية حول التعامل مع العنف والتحرش في مكان العمل، فساعدتها المنظمات النسوية في التعامل مع الأمر، من خلال التعريف بالأدلة القانونية اللازمة وكيفية تقديم الشكوى وربطها مع المحامين والمحاميات من مراكز الإستماع للنساء المعنفات والناجيات من العنف.