على غرار الكبار من رواد التشكيل في مراكش،وفي المغرب، الراحلين فريد بلكاهية وعبد اللطيف الزين وعباس صلادي وبن علال يرحمهم الله ، وطه سبع، وعمر بوركبة، وآخرين، تكتنف لوحات الفنانة المغربية خديجة بن التاجر ألوان الأعراس وإيقاعات التراث ودلالة الأمكنة والأزمنة، فكأنها الضياء إذ تتراقص مع الألوان، نعم، كأنها الشخوص تتوحد مع الضياء، كأنها الأطياف إذ يغشاها الزمن ممتزجة مع الحركة، في دقة عوالم متماوجة من القيم التعبيرية والدلالات الرمزية، ثم كأنها الطبيعة البشرية والمكانية تتفتق إحساسا وأفكارا، مشاعر وظرفيات وتكاد تتحول إلى أصوات وأنغام وكلمات، في تفاعل هارموني منتظم مع كل فضاء كل لوحة على حدى ، ليثير كل هذا لدى الملتقي مختلف مشاعر التأمل والدهشة وجميع مفاتن الإعجاب، حيث تقدم لوحات الفنانة التشكيلية المغربية، خديجة بن التاجر، لوحات تختزل كل الإنشاءات الأدبية والمقاطع التعبيرية من خلال مكنوناتها المتعددة الجوانب .
الواقع، فإن لوحات التشكيلية خديجة بن التاجر تتدرج من خلال خلفيات مواضيعها بشكل تصاعدي في إتجاه الزمن والمكان اللانهائي، لتعبر عن طموح تشكيلي، وإقدام جريء يهدف بشكل رائق نحو تشخيص كينونة الإنسان المغربي في جميع مواقفه وظرفياته ،في إختزال شيق لمختلف الحالات الشعورية التي تعتري الفنانة خديجة بنت التاجر، والتي تترجم مواقفها من الطبيعة ومن الحياة ومن المرأة،حيث تقدم تجربتها كفن تشريحي للمكان والزمان، و لحركات كينونة نسائية مغربية، تنبذ العنف وتترجم الأنوثة ، و تؤكد مدى إلتصاق الفنانة خديجة بن التاجر بعوالمها البصرية والعاطفية،وهو الإلتصاق الذي يعكسه شفافية الألوان في الأمكنة والأجساد والمسارب والفضاءات ، حيث تظهر معظم نساء التشكيلية خديجة بن التاجر مسرورات ومنغمسات في الأفراح، أو ضاحكات ومُترنمات بالأهازيج والأنغام،وبالأمل المشرق .
وطبيعي، فقد ارتبطت الفنانة التشكيلية خديجة بن التاجر بفضاءات التجريد ذات الأبعاد المتعددة، المتعلقة بالضوء الناصع الممزوج بظل وارف واضح وهو يضع التصميم البنائي لأعمالها ضمن صيغة تركيبات أفقية منفصلة عن بعضها في سياق جمال آخاد من اللون والقيم وتراتبية في الظل الذي يغشي عوالم لوحاتها.
هذا، ولا تقتصر مشاهد الفنانة التشكيلية خديجة بن التاجر على الشكل الثابت للأجسام التشكيلية الحقيقية أو الدلالات الرمزية، بل تتجاوزه إلى رسم شخوص وأجسام وأطياف ضوء تتحرك عبر سياقات تركيبية في فضاء لوحاتها، شخوص، وقباب ، أسوار وباحات منازل فضاءات ومرافئ للروح والجسد والنفس معا، وسماوات تزدان بأنوار التوهجات وترفض العتمة …
ثم ، أن ألوان الفنانة بن التاجر هي ألوان حية، كأني بهذه الألوان تتحرك على إيقاعات راقصة، وتراتبيات تلقائية، لتكسر رتابة المشاهد البنائية الثابتة المعهودة في بعض التجارب التشكيلية المغايرة والأخرى، وهو ما يضع تجربة التشكيلية خديجة بنت التاجر في بوثقة الحداثة التشكيلية بكل مقاييسها وشروطها ، وبجميع تطلعاتها البنائية وتقاليدها، والتي تقوم أساسا على إستثمار نسيج المتحرك والثابت بشكل يوحي بقيام هذه كل لوحاتها على أسس المفارقات الجميلة والمعبرة.
إلى ذلك، تأخذ الخطوط والشخوص والأطياف ومختلف عناصر الوجود في لوحات الفنانة التشكيلية خديجة بن التاجر منحى يقترب من يكون رمزيا ، وهو ما يضفي على أعمالها طابع التميز والجمال، خصوصا،وأن لوحاتها الفنية تتحول بواسطة التأمل من منحى عادي وواقعي، إلى فضاء قابل لكل القراءات والتأويلات ، يدفع المتلقي إلى الدخول في دوائر نقاش مع مكنونات لوحات الفنانة التشكيلية ، خصوصا وأن خديجة بنت التاجر تركز على التعبير بالألوان والحركات عن حقيقة الوجود المغربي، ومن خلاله كل الوجود الإنساني، بالمجاز عن الواقع ، وبالرمز عن الحقيقة، فكأن الفنانة ترسم بالموسيقى، وتحت تأثير الأنغام ، لتعبر جميع المسافات اللونية بالنغم، واضعة بذلك بصمات تنهل بلا إنتهاء من حياة فنية ملتهبة وصاخبة .
من جهة أخرى ، تقوم تجربة الفنانة التشكيلية المغربية خديجة بن التاجر على الاحتفاء الكبير بالمرأة خصوصا وبالإنسان عموما، مما مكنها من صقل رؤيتها للوجود والموجودات، كما ساعدتها دراستها الأكاديمية والجامعية والفنية على ترجمة العديد من الآمال الكبيرة في العيش الكريم والمساواة بين الجنسين، ومهد الطريق الإبداعي أمامها على صياغة قسمات وجوه وأجساد وأشكال صورية وطبيعة جدلانة عبقة وفي منتهى السرور وكل الحبور،تتلاقى مع وجدانيات المتلقي،ومع حدسه الفطري الذي ينساق في محور تأملات لتيمات النصوص المزدانة بروائح التراب المغربي،وبذاك اللون الضوئي الفضي النوراني، وهذا الأصفر الفاقع الصارخ ،وذاك الأزرق الذي يصنع كل مناحي الإمتدادات والتداخلات، كما في لوحتها عن ميناء الصويرة، وثم اللون الحجري واللونين الصلصالي الغامق والفاتح والأحمر القاني المتدرج والمختلط بالبنفسجي بالأخضر، مما يكشفُ تلوينا باذخا لنموذج التشكيل المغربي، ويعطي تعميرا دقيقا ومرتبا لفضاء تفصيلي لمجمل ما في لوحات هذه التشكيلية المغربية خديجة بن التاجر .
وأغلب الظن عندي، فإن الأحداث التى مرت بالفن التشكيلي العالمي فى العصر الحديث،ومن ضمنه الفن التشكيلي المغربي الشبابي إن صح هذا التعبير، قد أدت الى ايجاد أفكار و مفاهيم واتجاهات فنية حديثة مرتبطة بالوطن وبثقافة لوطن وبهويته الحضارية والإنسانية،مما هيأ لبروز تنوع هذه الإتجاهات الفنية الحديثة و تعدد مصادرها إلا أنها لم تقتصر على تمثيل العالم المرئى فقط ، و لكنها بحثت عن أفكار وعواطفَ ومنطلقاتٍ ونظرياتٍ فنيةٍ جديدةٍ تتماشى مع روح العصر و مع ملامحه و تقدمه…
ولعل معرفة التشكيلية خديجة بن التاجر بتعدد الجسوم وتنوعها ووضعياتها وبماهيات الألوان، وبما تتيحه هذه الألوان التي تختارها، والتي تجعلها ألوانا متكلمة ووفيرة وصريحة، مكنتها من إضفاء مختلف قسمات الوجود المغربي والإنساني على أعمالها.
والحق، أن الفنانة التشكيلية المغربية خديجة بن التاجر من خلال تجربتها، تؤمن أن الفن التشكيلي المعاصر المغربي بات يمتلك منطلقات ومفاهيمَ تختلف عن المفاهيم والمنطلقات الكلاسيكية التقليدية التي كنا نجدها في اللوحات السابقة.
ومهما يكن فإن هذا الإتجاه التعبيري الحداثي الذي يكتنف بعض لوحات خديجة بن التاجر يستبعد الصور الظاهرية لأشكال التراث المغربي والطبيعة الوطنية ويعتمد على مفردات تشكيلية جديدة تستحضر هذا التراث وهذه الطبيعة ولكن ضمن مساحات غنية بالتفاصيل ومفعمة بتراتبية الألوان، ووحدات زخرفية هندسية مدهشة ،تعكسها أرضية الزليج والفسيفساء ببعض اللوحات، وتتيح الوصول الى صياغات تشكيلية متنوعة بأسلوب جديد وبدقة كبيرة،حيث تبرز المفردة التشكيلية كعنصر أساسى تقوم عليه اللوحة من خلال خصائص ودلالات ذاتية تستوحيها الفنانة بن التاجر وتحسنُ توظيفها فى صياغات متعددة ، وتستخدمها فى التعبير عن أفكارها وأهدافها ، لتحقيق الأبعاد الوظيفية و الجمالية للوحاتها، بطريقة حديثة مبتكرة .
والواقع كذلكـ ، فإن المتأمل في أعمال خديجة بن التاجر، لا يسعه إلا أن ينبهر من عمق ثقافتها التراثية وإيمانها بوطنها، وبالمناصفة وبالحضور الضمني للنساء كحاملات أساسيات للثرات المغربي المادي وللامادي، وحتى للمناصفة في التعبير عن الذات بين الجنسين،كما في لوحة النساء الممارسات للفن الكناوي، وهي بذلكــ تشجب بشكل غير مباشر لعنف المبني عن النوع الذي يطال النساء والفتيات، ويحيل دونهن ودون تحقيقهن للمساواة والوصول إلى إثباث ذواتهن، كباقي فئات المجتمع .