على خـــطــى الجــوكـــاندا

كان صديقي العزيـز الإستاذ عبد الرزاق الحيحي، قد علق على صورة تركيبية حول الجوكاندا، بصورة أخرى، أدمج فيها شخصي المتواضع، وهي تنتظر مع المُنتظرات والمنتظرين على الرصيف للولوج لمتحف اللوڤـر في باريس، لتزور لوحتها وتتملى بأسرارها اللونية ورموزها العجائبية، وإشارتها التي طبعت تاريخ الفن التشكيلي العالمي، منذ أن شرع في إعدادها ليوناردو دافنشي سنة 1500 وأتمها على أكثر تقدير في سنة 1504 للميلاد، حسب ما يجمع عليه مؤرخو الفنون، ونقاد نظريات الفن.

وكما تعرفن الصديقات الجليلات، وكما تعرفون أصدقائي الكرام، وكلكن وكلكم يعرف بالطبع، أن عظمة ليوناردو دافنشي، لا تكمن فقط في لوحة الجوكاندا، وإنما في لوحات أخرى له، وفي تلك التصاميم الهندسية والمخترعات التي خطها، ولكن الجوكاندا إكتسبت هذه الشهرة، لكونها إحتفت بالإنسان، وقطعت مع الأساليب السابقة التي كانت تنصب على المواضيع الدينية وقصص العهد القديم، ومعجزات الأنبياء والمرسلين والنساك والصالحين، رسم ‏‏الملائكة والسيدة العذراء والسيد المسيح، عليهما أفضل السلام ، والقديسين، والباباوات، والقساوسة، والتي كان يبدعها رسامون كبار سبقوا دافنشي، أو عاصروه على غرار جوتو، وتشني، أوركينا، و انجليكو، لبي، وبوتيتشلي ثم تشيمابو وغيرهم، ممن يُعرفون برواد مدرسة فلورانسا.

فقد عاش دافنشي ما بين ميلاده سنة 1452 ووفاته ‎سنة 1519 للميلاد، في عصر انتقال أوروبا عموما ومن ضمنها ممالك إيطاليا، من القرون الوسطى إلى العصور الحديثة، وما عرفه ذلكــ من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية و الإقتصادية وحتى الفكرية التي أصابت الناس، فقد سقطت القسطنطينية المدينة المسيحية المقدسة، والتي كانت تحرصها الملائكة في إعتقادهم، على يد المسلمين من الأتراك العثمانيين، وسقطت غرناطة آخر معاقل المسلمين الأندلسية في يد المسيحيين الكاثوليكــ القشتاليين، وإرتفعت وثيرة الإكتشافات الجغرافية الكبرى مع ماجلان وفاسكو دي ڴــاما ، ووصل كريستوف كولمب إلى أميركا صُدفة، إذ كان يريد الهند، هروبا من المغاربة ممن كانوا يسيطرون على بعض مسارات الملاحة بالمحيط الأطلسي، وتخوض سُفنهم الأجزاء الغربية من الأبيض المتوسط، ضمن ما عرف في التاريخ بحركات الجهاد البحري، وإبتعادًا من الأتراك ممن أغلقوا المنافذ البحرية المؤدية للهند بلد التوابل والبهارات والحرير والأخشاب الثمينة والماس والعطور، ولكن الله أراد أن يصل إلى عالم جديد، لم يكن معروفا لدى الناس فيما قبل سنة 1492،- وإن كان معروفا بطبيعة الحال، لدى الذين إستوطنوه من القبائل والشعوب، منذ عصور ما قبل التاريخ والهجرات البشرية الكبرى – ، ثم ثورة الراهب مارثن لوثر ضد الكنيسة الباباوية في الفاتيكان، وظهور المذهب البروتستاني، وانتشار كتب وفلسفة إبي الوليد إبن رشد على يد تلامذته من المسيحيين الأوروبيين، ممن درسوا على يديه في قرطبة وفي مراكش، أو إطلعوا على فكره وفلسفته فيما بعد وفاته يرحمه الله …

كل هذه العوامل، وعوامل أخرى، دفعت إلى التفكير، ودفعت إلى وضع العقل فوق النقل، وإلى إعمال الرأي فوق مُسَلَّمات العقيدة، وإلى نهج طرائق الشك مكان اليقين‎، وكلها عوامل هيئت لـــ “دافنشي” في أن يحيط بمستجدات عصره، بنبوغه المبكر وبعبقريته التي مكنته في أن يحيط بنصيب وافر من علوم وتقنيات وفنون عصره، ومن مختلف التجارب وشتى المعارف، فكان رسامًا وكان نحاتا، وكان عالمًا جيولوجيا أوليًّا، أدرك ذات مرة بذهنه ، وسجلها في رسائله، أن جبال الألب الفاصلة بين موطنه إيطاليا وباقي أوروبا كانت من قبلُ تحت الماء، وفَطِنَ وأصداءُ الكشوفاتِ الجغرافية تَصلُهُ، أن العالم لا يمكنه أن يكون إلا كروي الشكل ،ثم أنه كان يدرس الرياضيات درس الهاوي المُتعلق الشغوف بها، ثم أنه كان لا يكُف عن التجارب العلمية والتقنية الجديدة حتى صنع أنه صمم مرة غواصة ودبَّابة وطائرة ومظلة للنزول من الأعالي والكثير من آلات الحرب، ولم يمنعه من الاستمرار في تنفيذ اختراعاتها إلا تخوفه من حماسة تلاميذه ممن خشي عليهم اقتحام هذا العالم، وما قد يجر عليهم ذلك من الشر والبأس، ثم أنه كان موسيقيٍّا ماهرًا، وعاشقا لحركة أجسام البشر والحيوان ،ووظائف الأعضاء الحيوية، إذ وضع في هذا الصدد، كتابا ظل يعتبر أحسن مرجع في زمنه عن التشريح، إلى غاية القرن الثامن عشر للميلاد .

إذن، فالجوكاندا، جاءت لتحتفي بإحدى النساء من أيها الناس، ولتقطع مع ما كان يدرجه في بداياته الفنية مع أستاذه “فرشيو” ولتقطع مع ما كان الرسامون من قبله يدرجونه في أعمالهم من مواضيع دينية ومن أعراف للتقديس ، ومن وضع الهالات النورانية على رؤوس الشخصيات الدينية في هذه اللوحات، وتذهيب لوجوههم، وحضور للملائكة فوقهم أو إلى جانبهم، في معظم اللوحات.

وحتى لا أطيل على القراء الكرام والقارئات المحترمات، فإن الجوكاندا سيدة من عائلة جوكاندو، أضيفت لها الفتحة للتأنيث، فالإيطاليون يفعلون كما نفعل نحن المغاربة عندما نستلطف سيدة من السيدات أو بنتا من البنات، فــيُضيفون تاء التأنيث على إسمها العائلي، ثم أنها “المونا ” دي ليزا” وليزا هذه بلدة سيدة اللوحة، إلى غير ذلكــ من التفاسير فيما يدرجه المؤرخين والنقاد، والباحثين، فقد قضى “دافنشي” في إبداعها أكثر من ثلاث سنوات، وقد برع في إدماج كل عواطف الراحة والسكينة والغضب والحزن على قسمات وجهها، وكأني به كان يجد في كل يوم في هذه السيدة معنى جديدًا يريد أن يضعه في اللوحة …..

ثم أنني أستبعدُ ما كان قد ذكره بعض الباحثين، في كون هذا الفنان الكبير، قد أحب هذه السيدة، وفي أنه كان يتَعللُ بالتأخير في إنجاز لوحتها، لأنها كانت تأتيه كل يوم ، وأنه كان يخشى إذا أكمل الصورة أن يمنعَها زوجها من الذهاب إلى مرسمه، وأية ذلكــ عندي، أن دافنشي حمل معه اللوحة إلى فرنسا، ثم أهداها إلى الملك فرنسيس ملك فرنسا الذي أحبه واحترمه، فقد زاره الملك في مرضه الذي مات به، وحمل رأسه بين يديه، ‏‏وكان دافنشي في غيبوبة، فلما أفاق ووجد هذه الرعاية الملكية، ووجد الملك يهتم به، ويحنو عليه ويعطفُ عنه، فتأثر لذلكــ أبلغ الأثر، ثم مات‎.‎ وإلا ما معنى وجود لوحة لسيدة إيطالية من فنان إيطالي في اللوفر بباريس.

وإذ أجدد شكري، للصديق الحيحي، على هذه الصورة التركيبية، التي تَكرَّم إذ وضعني إزاء سيدة الجوكاندا، التي خرجت من لوحتها، ووقفت على رصيف اللوفر، فإني أتمنى للجميع بالغ السعادة والسكينة وموفور الصحة والنجاح .

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.