كلاهما تجاوز عقده السادس الآن، الحبيب البهجي وكمال الزيني، حيث يجمعهما مراكش كمجال حضاري وجغرافي واحد، نظم حياتهما مابين الطفولة حتى الشيخوخة كعقد متراص من الذكريات والمواقف والإشراقات، في مسار تفاعلي متباين حافل ، بالأنشطة الموازية وتقاسم مستجدات وأطوار التنمية الثقافية و الاجتماعية، عندما انهيا دراستهما الجامعية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، أوائل سبعينيات القرن العشرين، خرجا للدنيا، وفرقت السبل بينهما، اختار الحبيب البهجي محور الدار البيضاء الرباط، كاستاذ لمادة الفلسفة، بينما قادت منحة دراسية تخصص لغات شرقية كمال الزيني إلىمدينة فلورنسا بإيطاليا ،التي لم تكن في حسبانه. هما الآن متقاعدان في كل من الدار البيضاء و فلورنسا، لكنهما بقيا وفيين لنوستالجيا مسقط الرأس، وذكريات الحياة الطلابية و الجامعية.
لم يخطر على بال الحبيب البهجي أن هواجس طارئة ستكتسح جوارحه، وأن حزنا وأملا سيتابعانه بشغف وحزن، ضمن ذكرى دراما دامية سرقت من عينيه كل قطرات الإشراق وكأنها شريط أحمر من نار ومن رمال، سيظل يسرف في تغذية هواجسه، بعدما توصل برسالة من رفيقه كمال عبر البريد الإلكتروني، ذيلها بتساؤل مباشر عن مصير تلكــ الساعة اين إنتهى ؟ ومتى كان ؟ وكيف إنفلتت من ربقة الذاكرة المجالية لمدينة الرجال السبعة؟ ويطلب منه جوابا حاسما عن تساؤله. لما تأمل سؤال الرسالة، وكذلك حينما أعاد ترتيب أدوات الاستفهام المرتبطة بالمصير و بالساعة، احتار من أين سيبدأ، حيث ظل لسنوات يعتقد أن غموضا مصحوبا الدهشة والحيرة يكتنف التساؤل عن ماهية تلكــ الساعة، طلب حينها من زوجته مريم، التي غالبا ما كان يناديها في الأوقات الحرجة، بـ”مرام”، ترخيما مدللا لإسمها ملؤه المحبة وذاك الوجد الوثير والسكينة المصحوبة بالرفق ، أن تهيء له فنجان قهوة من البن الطري المحمص ليعيد به مؤشر هدوئه،وبوصلة شروده عساه أن يبدد حيرته بنكهته العنفوانية لفك لغز ذاكـ الطلسم بسؤال عن “تلكــ الساعة” ، الذي ذيل به رفيقه رسالته، بالسؤال عنها، وتقليب مواجعها، فكان السؤال كأنه زوبعة حملت معها كل مآسي الزمان، وسلال الإهمال، مثل نعي متجدد في كل شوارع مراكش، يقلب مواجع الذي ذهب ولم يعد، رشف رشفة ورشفة ، ثم رشفات متتالية من فنجان قهوته بلا سكر، قبل أن يحس بدبدبات تتلبسه، تسري في أوصاله، وبأسى ينط تحت فروة رأسي، رمق زوجته التي جلست على مقربة منه،كانت لا تزال تتلذذ بطعم وقع ندائه “مرام” المدلل على إسمها، وبترجيعات صوته التي طالما راقتها و دغدغت احاسيسها،وملكت عنها لحظاتها غير حافلة بما يشغل باله، قال في خاطره وهو يتأمل السؤال عن تلكــ الساعة؛ فيما إذا كان رفيقه كمال ، ربما حن إلى الفلسفة ويريد من تساؤله أن يفلسف الموضوع، ويواكب الساعة عبر تطور مفهومها، لدى فلاسفة الميتافيزيقا،ومنظري الوجودية ،وأقطاب الصوفية ،وفتاوى الفقهاء وآراء علماء المستقبليات وأجندات رجال المال والأعمال ، وبرامج رواد السياسة…
في خضم تكهنات الحبيب البهجي الافتراضية، عن إشكالية تلكـ الساعة والاحتمالات الممكنة كما تصورها وفي لجة الشكوكـ الواردة منها وعليها، حاول أن يتخلص من عبء لغز الساعة، لكن فضحته قسمات ملامح وجهه لدرجة تصبب من جبينه عرق خفيف شفيف، وإن كانت زوجته مريم لم تعره اهتماما لما يشغله، فقد حدجته فقط بنظرة جانبية فيها ما فيها من إشفاق، ومن مودة وتوسل، إذ أن وضعه الصحي لم يعد يتحمل مثل هذه المفاجئات، وكل هذه المستجدات، فهو لم يعد كما كان، كانا عقربا الساعة الجدارية المتبوئة لصدارة غرفة الجلوس، يشيران إلى تمام التاسعة مساءا ، لم ينتظر الحبيب البهجي طويلا، ليكتب إلى صديقه كمال رسالة جوابية على البريد الإلكتروني، يستفسره عن ماهية تلكــ الساعة المطلوبة ، التي تستقر في خاطره ،وتملك عنه ذكرياته، ثم بعد أن استعرض كل الاحتمالات التي اعتقدها … كان فنجان القهوة على منضدة من الخيزران ، ما يزال مشوما بشيء من الدفء، وقد حمله بين راحتي يديه، ليؤنسه في انتظار جواب محتمل على الأرجح، جواب ربما يأتي أو لا يأتي؛ ولكن مع ذلك لم يكن من سبيل أمامه سوى الانتظار، رشف الحبيب رشفة خاطفة من الفنجان، تزامنت في نفس الوقت مع نقرة صادرة من حاسوبه، نط من مكانه كأنه طفل مذعور من المجهول، خائف من شيء ما أربك مزاجه ، لملم أفكاره ، تفحص بتمعن شاشة الحاسوب؛ توجه إلى غرفة نومه على عجل، وديول الدهشة ترافقه، اقترب من وسادة زوجته بحذر، همس إليها بصوت خافت، تخللته بحة سجية وبذات الترخيم “مرام” ثم سألها عن أجمل تذكار أحدث ثورة في تاريخ حياتها، وأعطى طعما خاصا في تشكيل بداية البدايات لمسارها في الحياة، قالت “مرام” بدون تردد “ساعة جليز” فقد كانت التاريخ والجغرافيا وتفاصيل كل اللقاءات وجميع الوصالات ، قال : أجل، صدقت عزيزتي؛ كانت هي الساعة التي سأل عنها كمال الزيني،فهو لم يأبه بساعة الفلاسفة، ولا المتصوفة والفقهاء ورجال السياسة و المستقبليات كما اعتقدت، تابعت مريم : نعم، ألا تذكرُ؟ كانت تلكـ الساعة شاهدة على حبنا وبدايات زواجنا، وعن بواكير عشقنا، وأبواب أحلامنا، استطرد الحبيب : أي والله، لا يزال موقعها شاهد على اختفائها المأساوي والمفاجئ دون سابق إنذار، تاركة توأمها المكاني “مقهى التجار ” café les négociants, باكيا عن ذكراها، متأسفا حزينا عن فراق جوارها، باحثا متأسيا بذكرياتها الخالدة التي لطالما تتداولتها قصص و حكايات وأمثلة الأهالي من المراكشيـن…
رجع الحبيب البهجي على مهل إلى غرفة الجلوس، وقد طبع قبلة طائرة على جبين زوجته “مرام”، تاركا أياها تستمتع بلذة حلاوة ترخيم إسمها ، تنفس الصعداء، بعدما تبدد صداع فروة رأسه، وكادت مؤشرات بوصلته تعود نحو مرافئ الذكرى والآمان، قبل أن ينتابه صداع آخر كالزوبعة المفاجئة، لم يكن في الحسبان، إذ سرعان ما إعتراه الألم والم به الأسى، وتوالت على قرارة نفسه دفقات من مشاعر وافد حركت فيه رغبة البحث عن دوافع صديق طفولته،وجعلته يفتش في دفاتر ذكريات البهجة التي كانت، مهوى الفؤاد، ومسقط الرأس، ومنبث الروح، عن “تــلــكــ الساعة ” وذاكراتها ذات اللون الرصاصي، فطفق يمخر عباب بحار أزمنة مراكش المتراكمة، تُرى هل هي مدينة فلورنسا الغنية بمتاحفها ومعالمها التاريخية وهويتها الحضارية حيث تتنفس الأرجاء والضواحي عبير التاريخ، لتتعالى كمنابع ، لتسكن قرارة وجدانه هواجس إلهام وأفكار تدفع نحو البحث عن الساعة دفعا إنساب كدماء جامحة في كل جوارجه ؟ أم تراه استوعب أخيرا، ان الثروة اللامادية، هي مصدر من مصادر الهوية ، ومؤشر على ديمومة الذاكرة الجماعية وعن استمرارها ؛ أم هي فقط مجرد شرارات من نيران فارطة ولوعة حنين وأنين للنوستالجيا المسافرة نحو ستينيات القرن الماضي، عندما كان شارع محمد الخامس، جادة تزهو بحضور الزمن على أرصفته، وتفتخر ببوصلته الجليزية، التي كانت محج المراكشين، وقبلة زوار المدينة، وظلت علامتها الحضرية وإيقونتها الحضارية البارزة في مواكبة المواعيد واللقاءات والإشارات والتأملات على مدار كل أيام الأسبوع، وعلى مسارات الليالي وضحاها، ومنارة ملتقى العشاق الجدد ممن كانوا يتخذونها محطة فارقة للقاءاتهم بعيدا عن عيون الفضوليين وثرثرات الأدعياء، وتلصصات ممن لاحظ لهم من عشق ولا نصيب لديهم من هيام …
إسترجع الحبيب البهجي هدوءه، على حدود نهاية تأويلاته ، تنفس الصعداء، ليقرر مراسلة رفيقه في موضوع الساعة المفقودة، مستلقيا على أريكته الفيروزية اللون المفضلة لديه، التي طالما تابعت سكناته وجموحه، ورافقت إشراقاته وتساؤلاته، فكان يلجأ إليها كلما شعر بالحاجة إلى ترتيب تأملاته وسكينته على أنغام مقاطع موسيقية هادئة، غير أنه هذه المرة وفي خضم سفره الموسيقى، تساءل بدوره و بإلحاح متصاعد عن دوافع اختفاء تلكــ الساعة ، ومن كانت له المصلحة في إقتلاعها وعداوة الموروث وشن الحروب على كل الأزمنة ؟… وطفق يراجع ويفكر ويمني القلب والعقل والروح في كيف السبيل إلى إحيائها من جديد و استرجاعها ؟! … لم يتردد الحبيب، فكتب إلى رفيقه كمال، توصيفا عن الساعة المفقودة، باعتبارها كانت و لا تزال رغم اختفائها تشكل جزءا حيا من ذاكرة وتاريخ مدينة مراكش الحديث و ذاكرة جماعية للمراكشيين، وحتى لزوار المدينة، تذكرهم بالفترة العصيبة والنضالات المريرة، والفتوحات المذهلة المتعددة المنابع في وحدة رائقة عاشتها المدينة الحمراء إبان الحماية الفرنسية في أوائل القرن العشرين، نقر الحبيب نقرة رشيقة على زر لوحة الحاسوب، كانت نقرة كافية لبث الرسالة الجوابية إلى رفيقه كمال تلخص كل شيء عن الساعة، ثم رفع عينيه من جديد إلى الساعة الحائطية بعد أن تملص من هواجس تساؤل رفيقه كمال الزيني. كان عقرباها يشيران إلى العاشرة ليلا. استقام في وقفته، ترك اريكته الفيروزية تحلم في هدوء ، لم يكلف نفسه عناء البحث عن عكازته ، قدماه حملتاه إلى غرفة نومه، على الرغم من ألم داء المفاصل الذي يعاني منه؛ وهو يردد : مادام الأمر كذلك، ماعلينا سوى طرح سؤال تلكــ الساعة، من جديد، وإعادته ورسم خطوطه دون كلل ولا ملل من طرف كل شرفاء الحمراء والمطالبة لاسترجاع “تــلــكــ الساعة” لجليز “وإعادتها لتوطينها في مكانها الطبيعي بشارع محمد الخامس الذي لا يزال يتسع لها، لتبقى رمزيتها ايقونة للزمن الجميل،و مفخرة لتراث المدينة وأبناء وساكنة المدينة.
الله يعطيك الصحة سي العربي ماعندي مانقول