تحت عنوان ” التراث المغربي بين التعدد والتثمين” نظم مركز القاضي عياض للتنمية C-CAD وماستر السياسات الحضرية والهندسة المجالية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية جامعة القاضي عياض مراكش، يوم السبت 16 دجنبر الحالي ، ندوة علمية بقاعة الاجتماعات الكبرى للمجلس الجماعي بذات المدينة، حيث جاءت الندوة اعتبارا لثراء التراث الوطني وتنوعه، سواء كان تراثا ثقافيا ماديا أو غير مادي أو تراثا مزدوجا ؛وللدور الأساسي الذي يضطلع به في الحفاظ على الهوية الوطنية وتحقيق التنمية المستدامة ؛ونطرا لكون هذا التراث ثروة وطنية وجزء لا يتجزأ من تراث الإنسانية جمعاء،واعترافا بتنوع روافد المملكة المغربية ومساهمتها في إثراء وتثمين الثقافة الوطنية ؛ وتماشيا وتأكيدا لإعتراف المملكة المغربية دستوريا بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، وتذكيرا بالإرادة الدولية الرامية إلى إقامة نظام لحماية التراث الثقافي بمختلف أشكاله وصيانته وحفظه والمحافظة، وفصد فتح نقاش حول إقتراح مجمل التدابير الوقائية لمواجهة كافة مخاطر أشكال التغيير والتدهور، وكل ما من شأنه أن ينال من التراث أو يؤدي إلى تهديده أو إندثاره ، وتقريرا لأهمية دور المصلحة العامة المنوط بالدولة وامتداداتها في حماية التراث الثقافي والحضاري المغربي، واستحضارا للتطور المتعارف عليه دوليا لمفهوم التراث الثقافي المادي واللامادي والطبيعي ونظرا للترابط العميق بينهما وللأهمية التي يكتسيها نقلهما إلى الأجيال القادمة من الناشئة ، ونظرا كذلكــ للأهمية الأساسية للتوفر على أدوات قانونية ملائمة ومناسبة لصيانة هذا التراث الحضاري، وتناغما مع الالتزامات الدولية للمملكة المغربية في مجال حماية التراث التي تمت المصادقة عليها ؛ وبناء على الدستور وخاصة ديباجته.
وافتتحت الندوة بآيات من الذكر الحكيم ثم النشيد الوطني، قبل أن يتناول الكلمة الأستاذ محمد بجاحا رئيس مركز القاضي عياض للتنمية كلمة شكر للشركاء لكل من مؤسسة هابريس الإعلامية والمجلس الجماعي لمدينة مراكش ومجلس مقاطعة جليز، ومعبرا عن اهتمام المركز العميق بموضوع التراث إلى جانب مواضيع علمية أخرى كالديمقراطية التشاركية، التنمية المستدامة. كما وجه الدعوة لادماج التراث الثقافي في السياسات العمومية، وكذا توفير الامكانات المادية والبشرية للمحافظة على التراث الثقافي. فيما ألقت الأستاذة سليمة شكيعو مديرة المركز، قصيدة تناولت فيها الموروث الثقافي بمدينة مراكش. وانطلقت أشغال الندوة العلمية بتيسير الصحافي محمد القنور ، مدير نشر الجريدة “هاسبريس” حيث قدم نبذة عن مركز القاضي عياض للتنمية وأهمية موضوع التراث بتعدد روافده ليعطي الكلمة للدكتور محمد الغالي أستاذ القانون الدستوري والسياسات العامة بكلية الحقوق جامعة القاضي عياض مراكش والذي تحدث فيها عن ضرورة تعزيز الحماية القانونية للتراث الثقافي المادي واللامادي من اجل صيانته ضد جميع اشكال الدمار والتدهور والتخريب والتهريب، والسهر على توفير اعلى مستوى من الصيانة له. كما أكد الدكتور الغالي، أن التراث الثقافي لايمكن اختزاله في البعد الجمالي والرمزي فقط بل هو اساس قوي لبناء اقتصاد متميز، وآلية من آليات التنمية المستدامة .
ومن هذا المنطلق ،أضاف الغالي أن المغرب كان صائبا في اختياره الإستراتيجي لما أقدم على التوقيع على اتفاقية الشراكة مع الإتحاد الأوربي ليكون شريكا متميزا مع ثاني قوة اقتصادية بعد الولايات المتحدة الأمريكية ويعمل على بعث الروح والدينامية في الإندماج الإفريقي وانخراط المغرب في هاتين الجبهتين من شأنه أن يعزز مكانته على الصعيد الدولي ويوفر له الشروط للإندماج بتراثه وغناه الحضاري في النظام العالمي بأقل تكلفة.. ومن جهة ثانية، أوضحت الإعلامية سعاد تقيف ، رئيسة تحرير جريدة “هاسبريس” الوطنية الإليكترونية، ومديرة نشر “مجلة الأنتمل المبدعة” سابقا، أن المغرب بلدُ غنيٌّ بتراثه الثقافي المتنوع الذي يستحق التعريف به وحمايته من الضياع والاندثار بل وتثمين مكوناته باعتباره رافدا من أهم روافد الهوية الحضارية والثقافية المغربية الذي يستوجب الحفاظ عليه وإدماجه ليتفاعل ويستمر، ويعتبر التراث المغربي بكل مكوناته العروبية والأمازيغية والأندلسية الموريسكية والحسانية، وبكل روافده الإفريقية والعبرية نموذجا ثقافيا متميزا يجسد هذا الغنى الثقافي المتنوع ،ويهدف إلى تحقيق التواصل الثقافي محليا وجهويا ووطنيا ودوليا .
وشددت تقيف على أن التراث المغربي الإنساني، لا يقتصرُ على الثقافة اللامادية الشفاهية والفلكلور بكل تقاليده وتجلياته الفنية والجمالية فقط، وإنما يتجاوز ذلك، ليتعلق بمختلف الأنماط الحضارية والعلمية والهندسية والمعمارية المغربية،وأنماط فنون العيش التي تترجمها الأعراس والإحتفالات والمواسم والأعياد والعادات الجماعية والتقاليد الموروثة ، والتي تزدهي بها مراكش كحاضرة متعددة الثقافات، ومختلف المدن المغربية العتيقة، من رياضات وسقايات وحمامات وحارات وأسواق ودور ودويريات ومساجد وقلاع وممرات حضرية، بساتين وصهاريج، ومزارات وأسوار وزوايا، وأضرحة ومدارس عتيقة وخانات وفنادق ظلت تشكل مجمعات حرفية وتجارية، وتخزن العديد من الحرف وفنون الصنائع المغربية التقليدية وغيرها وإنما يتعلق بإمكانية المحافظة عليه، وإستثماره إقتصاديا وإجتماعيا وتثمينه وتدبيره ، ومناهضة سوء فهم رمزيته و دلالاته الحضارية الثقافية و الاجتماعية والجمالية والنفسية، ومدى علاقاته الوطيدة بالهوية والشخصية المغربية الذي يشكل أحد دعائمها الأساسية . وأشارت تقيف أن توظيف التراث المادي واللامادي بالمغرب بمختلف مكوناته التصنيفية والرمزية يشكل قيمةً إقتصادية سياحية وإستثمارية مضافة ومستدامة لما يختزله من أنماط تفكير وحياة وعيش تُبرزُها الحلي والأزياء والمطبخ والفنون التعبيرية من ملحون وطرب آلة وأهازيج شعبية وأغاني متوارثة وحكايات وأقاصيص والفنون التشكيلية من تصاميم وزخارف وعمران ، ومن تراث هندسي متميز أعطى خصوصيات عالمية للمغرب.
وخلصت الزميلة تقيف إلى أن التراث المغربي يشكل فضاءً غنيا ومتنوعا ، بكل معتقداته ومعارفه الشعبية، وتصوراته وأفكاره حول الحياة الصوفية، حول الطب الشعبي ، حول الجسم الإنساني ، حول الحيوان ، حول النباتات ، حول الأحجار والأتربة والمعادن ، حول الأماكن والمواسم ، حول الإنسان المغربي نفسه في علاقاته مع الزمن وعلاقته مع الأوائل والأواخر ، ومع الاتجاهات والألوان والأرقام والروح و الطهارة والعواطف والأحلام والنظرة إلى العالم ، والسلوك الفردي والجماعي للمجتمع المغربي في المناسبات المختلفة وفي العادات والتقاليد الشعبية التي تترجمها الممارسات والأفراح والأحزان والطقوس والاحتفالات وغيرها كفعل اجتماعي مرتبط بالجماعة متوارث ومرتكز على التنوع الذي تكشف عنه شتى أنواع الأدب الشعبي المغربي من أمثال وألغاز وأحجيات ونوادر وأشخاص وسِيَر وأغاني تخص الميلاد والختان والزفاف ومن بكائيات وأهازيج وأعراف مواسم تتعلق بالحصاد أو بالرعي، بالسقي أو جني المحاصيل، بالفصول والشهور ، بالأساطير والخرافات ، بالثقافة المادية وفنون الصنائع المتعلقة بالملابس والحلي وإعداد الطعام وصيد الأسماك أو الحيوانات وطُرق حفظ وتخزين الأغذية من “خليع” و”مخللات” وعسل وزيتون، وحوامض وبواكر، وكيفيات صنع المعدات والأدوات والأثواب ، وموسيقى شعبية ومدائح وابتهالات وأناشيد ورقصات فردية وجماعية ، ومن تظاهرات فنية جماعية ، على غرار الفروسية “التبوريدة” والرقصات الجماعية كأحواش و”الــكَدرة “وأحيدوس وغيرها. : من جهته، أكد الأستاذ عبد الرحمان الملحوني ، الكاتب والباحث في قضايا التراث والثقافة المغربية الأصيلة، والمدير المسؤول عن مجلة التراث المغربي، أن تعريف التراث يقوم على مجمل ما خلَفته الأجيال السالفة من خلال تعاقب فترات الحضارة للأجيال الحالية ، حيث أصبحت الدراسات التي تتعلق بتثمين التراث من الناحية العلمية،علما قائما بذاته يختص بقطاعات إقتصادية وإجتماعية وثقافية وجمالية ونفسانية ويلقي الضوء عليها ، ويستهدفُ إستثمارها وربطها بالحاضر وإستشراف المستقبل من خلالها .
وأوضح الملحوني أن تحديات العولمة تتجلى في ربح رهان المنافسة الدولية وتأهيل الإقتصاد وعصرنة المجتمع وتطوير أليات التوثيق والتعامل مع الثقافة والتراث في شموليتهما،مبرزا أن فن الملحون كفن مغربي قائم الذات ، يختزل العديد من نفائس التراث المغربي والكثير من المأثورات التراثية والتاريخية الوطنية ،والمواقف الشعبية والنواذر القصصية، ومختلف المعارف بشكلها ومضمونها الأصيل و المتجذر في وجدان الشعب المغربي بجميع فئاته وأطيافه، وأن ما ضمن الإستمرارية لفن الملحون ومختلف فروع التراث المغربي، هو أنها ظلت تتطور وتتوسع مع مرور الزمن وبنسب مختلفة ، نتيجة التراكم الثقافي والحضاري المغربي وتبادل التأثر والتأثير مع الثقافات والحضارات الأخرى ومع عناصر التغيير والحراك في الظروف الذاتية والموضوعية للمجتمع المغربي . : وأبرز الملحوني أنه لا مكان في هذا العالم الجديد للإنغلاق على الذات والتقوقع، فإن تثمين التراث المغربي وإبراز خصوصيته وتعدده، يعتبر استراتيجية تنموية أساسية ، يقتضي توفير ظروفٍ ملائمة لإعماله وإنجاحه ليتأقلم مع الوضع العالمي الجديد،ويتطلب البحث عن أنجع السبل للتخفيف من سلبيات العولمة، وما أكثرها، دون إحداث القطيعة معها، ومن هنا تتجلى أهميته . إلى ذلكــ ، عرفت فعاليات الندوة المعنية، التي حضرها العديد من الفعاليات الأكاديمية والأوساط الثقافية، وممثلي المنابر الإعلامية المسموعة والمكتوبة والإليكترونية، والمنتخبين والمنتخبات، وممثلين عن الدوائر المقاولاتية والاقتصادية، وبعض أطر وخبراء المتاحف ، إضافة إلى بعض الفنانين التشكيليين، والمسرحيين، وبعض رواد ورائدات المجتمع المدني بمراكش نقاشات إنصبت حول مفهوم التراث المغربي وتداعياته الثقافية ، ومناحيه، وأليات إستثماره على المستوى الإقتصادي السياحي والتعليمي التداولي ، وحول بسط مختلف مقومات التحسيس بمظاهره المنبثقة من الثقافة المادية واللامادية المغربية . وإتفق المحاضرون على أن التراث الثقافي الوطني يشمل جميع الممتلكات الثقافية المنقولة وغير المنقولة وغير المادية، بطبيعتها أو غايتها،وتلك الموجودة فوق عقارات الملك العمومي أو الخاص للدولة أو في ملكية الجماعات الإثنية تحت وصاية الدولة أو في ملكية أشخاص طبيعيين أو معنويين خاضعين للقانون الخاص أوفي باطن هاته العقارات، وتلك الموجودة في باطن الأرض والمغمورة بالمياه، في المياه الداخلية والمياه الإقليمية البحرية الوطنية، التي خلفتها الأجيال الماضية منذ عصور ما قبل التاريخ في المغرب إلى يومنا هذا، والتي تكتسي فائدة بالنسبة للحضارة الوطنية و الإنسانية.
وأجمع المتدخلون على أن التراث الطبيعي الوطني، ويراد به كل موقع أو آثار من المآثر التي خلفتها الطبيعة أو منطقة أو تشكيل طبيعي أو إنساني ، وكذا كل مكون من المكونات والمناظر الطبيعية والصنائع والحرف التقليدية والنفائس والتحف وأنماط الحياة المتوارثة عبر الأجيال والمواسم والإحتفالات والأعياد الوطنية والدينية والملاحم التاريخية والمجالات العمرانية والأزاء والحلي والأطعمة والعطور التي تكتسي طابعا مغربيا استثنائيا. اختتمت أشغال الندوة العلمية بتوزيع شواهد تقديرية على المتدخلين، من طرف مركز القاضي عياض للتنمية C-CAD وماستر السياسات الحضرية والهندسة المجالية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية جامعة القاضي عياض مراكش.