حظيت الكسوة الجديدة لضريح الإمام الجزولي، أحد الأقطاب الصوفية بمراكش، وواحد من رجالاتها السبعة، ممن طبقت شهرتهم الآفاق، بإهتمام مكثف من طرف المثقفين والباحثين في قضايا التصوف والفكر ورائدات ورواد صنائع التطريز بالمغرب، والعديد من مصممات ومصممي الأزياء،وخبراء فنون العيش المغربي سواء على مستوى شكل الكسوة الجديدة وتصميمها، أو فيما يتعلق بكثافة “القشاني”والحرير الذي صنعت منه الكسوة، أو على مستوى التطريز، والدلالات اللونية والآيات القرآنية التي كللت قمتها ضمن خمسة طبقات في إشارة إلى أركان الإسلام الخمسة، وهي الآيات التي نسجت بالخيوط الذهبية المضادة للصدأ والتقادم، في ورشة الصانع التقليدي الحاج عبد الواحد بن جلون بفاس، وهو الحائك الذي تخصص في مثل هذه الكسوات المتعلقة بالمزارات وأضرحة الأعلام المغاربة من الأولياء والعلماء والمحدثين وكبار الفقهاء المصنفين لعلوم الشريعة والعلوم المرتبطة بها .
فقد ظلت كتب السير والتاريخ المغربي ومصنفات التصوف في المغرب ، تحتفي بتجديد كسوات دفيني المزارات والقباب من الأعلام رجالا ونساء، وظلت الرواية تتصدر مفاخر أول من كساها من الملوك المغاربة، وتعده من منجزاتهم ومفاخرهم وجليل أعمالهم .
ولقد جاءت مناسبة تجديد كسوة ضريح الإمام محمد بن سليمان الجزولي، أحد رجالات مدينة مراكش السبعة، من طرف الرابطة الوطنية للطريقة الجزولية، في سياق الملتقى السابع لأهل دلائل الخيرات بالمغرب، كحدث تاريخي متجدد، وقصد إستبدال الكسوة القديمة التي كانت قد تمت صناعتها سنة 1961 ، وإستقدامها لضريح الجزولي في موكب مهيب ، وتحت وهج موكب كللته الأذكار والأدعية والتراتيل الصوفية التي تضمنها كتاب القطب المحتفى به محمد بن سليمان الجزولي .
كما أعطى حضور كل من الحاجب الملكي ووالي جهة مراكش، ومجموعة من الشخصيات المدنية والعسكرية، ورؤساء بعض المصالح الخارجية لمختلف الوزارات، خلال تجديد كسوة ضريح الإمام الجزولي معان رسمية عميقة للحفل الذي ترأسه الشيخ عبد الرحمان الصويكي الأمين العام للرابطة الوطنية للطريقة الجزولية وأعضاء مكتب الرابطة الوطني، وممثلوها بمختلف أقاليم وجهات المملكة، خصوصا من منطقة تافيلالت، بالرشيدية وأرفود والريصاني، ومن مدن سلا ودمنات وفاس والقنيطرة وبني ملال ودمنات والدار البيضاء والجديدة أزمور والرباط والشاون وخنيفرة وتازة وتطوان والقصر الكبير، بالإضافة إلى العديد من الفعاليات الإقتصادية والإجتماعية و رجال الأعمال والمثقفين والمبدعين، ومختلف الفئات الإجتماعية لتتحول إلى تظاهرة ثقافية روحية وتواصلية .
هذا، ويحتفل المغاربة من أهل الثقافة العرفانية بتجديد كساء المزارات العريقة والأضرحة الموسومة بالبركات ، في سياق تفعيل الثقافة الصوفية والدفاع عن الأمجاد الروحية، وتيمنا بكساء الكعبة المشرفة، حيث تشير الروايات التاريخية إلى تفاصيل كساء الكعبة المشرفة، منذ فتح مكة حيث حرص النبي عليه أفضل الصلاة والسلام على إبقاء الكسوة القديمة التي كسيت بها في عهد المشركين ولم يستبدلها، وذلكــ إحتراما لقداسة البيت العتيق، حتى إذا ما إحترقت هذه الكسوة على يد سيدة، كانت تريد تبخيرها، فكساها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالثياب اليمانية، ثم كساها الخلفاء الراشدون من بعده ,ابو بكر وعمر رضي الله عنهما وكساها عثمان بن عفان رضي الله عنه بكسوتين أحدهما فوق الأخرى فكان هذا العمل الأول من نوعه في الاسلام , أما عن علي رضي الله عنه لم ترد روايات او اشارات مؤرخين أنه كسا الكعبة، نظرا لانشغاله بالفتن التي حدثت في عهده، وحروبه المتكررة مع أدعياء القبائل، وغوغائية الخارجين عن إجماع الأمة، فلم يهنأ له بال، إلى أن لقي وجه ربه شهيدا رضي الله عنه، ثم واصل من بعد هؤلاء الأربعة من الراشدين، كما بقي ملوك الاسلام والملوكـ السلاطين في شتى العصور الإسلامية يتعهدون الكعبة في كساءها والاهتمام بها ويرون في ذلك واجباً من الواجبات الدينية .
على ذات الواجهة، تأخذ كسوة الإمام الجزولي الجديدة ، ألوانها من اللونين الوطنيين، الأحمر والأخضر، في إشارة إلى عمق الهوية الدينية الوسطية المغربية، وإلى منابع الإسلام الحضارية القائمة على مبدأ لا إفراط في الدين ولا تفريط ، ويبدو أن لمعلم عبد الواحد بن جلون وعماله ، قد تجشموا صعوبة حبكـ الخيوط الذهبية (الصقلي) حيث تتم سباكة زخارفها ضمن تطريزات وخياطة مخلوطة وموزونة بنسب مئوية معينة في كثافة الخيوط ،وصولاً لضمان ثبات درجة التمايز في اللون الأحمر والأخضر والذهبي على قماشها الوبري والمحلى بالتوشيات القطنية الخاصة وتحت الطلب لكسوة ضريح الإمام الجزولي ثم بعد ذلك يتم تصميمها، كمكعب مربع الواجهات ومتعدد التوشيات اللونية، والآيات القرآنية الموشاة عليها.
وفي سياق متصل، أفاد الأستاذ الشيخ عبد الرحمان الصويكي الأمين العام للرابطة الوطنية للطريقة الجزولية، أن كسوة ضريح الإمام الجزولي تحمل براعة حرفية ملحوظة، إعتمادا على نظام الجاكارد ، الذي يتضمن تداخل الخيوط وقطع الأنسجة، بأحدث المكائن العالمية المتطورة ، حيث تدورعجلة الإنتاج على نسج الكسوات، وتطريز العبارات والآيات القرآنية المنسوجة.
كما أوضح الصوايكي، أن كسوة ضريح الجزولي، تعتبر تحفة من دُرَرِ الصناعة التقليدية المغربية، وتنم على تطور وإستمرارية براعة الصناع التقليديين، خصوصا في الشق المتعلق بالصنائع والحرف الفنية،مشيرة أن التوشيات التي تضمنتها الكسوة الجديدة والمعتمدة على أربعة ضلوع متقابلة، والتي يعلوها تابوت على خمسة طوابق متفاوتة العلو، والمشدود إلى هيكل خشبي متين،مطرز بدوره بالآيات القرآنية المذهبة يشكل إتقانا جديدا ومعاصرا في فنون المطرزات، وإعداد تراكيب المذهبات والفضيات والزخارف المغربية الإسلامية، برع خلالها الصانع في تجميع كل قطع الكسوة الجديدة، مع مراعاة طبيعة القماش الحريري بكل جنب من جوانب الكسوة الأربعة وتوصيلها ببعضها البعض , وتثبيت القطع المذهبة من حزام ومحارب مغربية على الثوب الأخضر الرئيسي، في شكل أخاذ يؤكد فرادة الصناعة التقليدية المغربية بما يوافق الأنظمة المستحدثة من خلال النقلة التطويرية المتقدمة في مجال صناعة كسوات أضرحة الأعلام المغاربة وأقطاب التصوف والصلاح .
هذا، وللإشارة فقد تم عرض الكسوة الجديدة لضريح الإمام الجزولي بمنزل الحاج عبد السلام الشرايبي أحد حكماء الرابطة الوطنية للطريقة الجزولية، وذلك إستعداد لنقلها إلى الضريح ضمن موكب متنوع من الدلالات الصوفية والأطياف العرفانية، كما جرت العادة في هذا الصدد .
ويظل القطب المتصوف محمد بن سليمان الجزولي، يحمل أكثر دلالات العالم المربي،والمغربي المدافع عن الثغور والمناهض للإحتلال، والإمام الذي غطت شهرته مختلف أقاليم وجهات المملكة، وتجاوزتها إلى أقطار العالمين العربي والإسلامي، ولعل شهرة الإمام العالم الصوفي الجزولي تتمحور حول كونه، ظل عبر مختلف محطات حياته من العلماء العاملين، ومن الأئمة المهتدين، ممن يربطون القول بالفعل، والفكر بالعمل وممن جمع بين شرف النسب وعلو الهمة، وقوة الشكيمة وحضور البديهة وسلامة الدين، وشرف العلم ونجاعة العمل، وإستطاع أن يوحد مابين أحواله الربانية المنبثقة من درى الزهد والتصوف، ومن تلكـ المقامات العالية السماوية، التي ترفع أصحابها إلى أسمى الأخلاق الزكية، وأرفع الطريقة السنية، وأصدق منابع العرفان بحقوق الله والعباد.