مـحـمـد الـقـنـور :
عــدســة : مـحـمـد أيـت يـحـي :
في إطار برنامجها السنوي، وإنفتاحها عن محيطها الخارجي ، نظمت جمعية منية مراكش لإحياء التراث بشراكة مع مؤسسة فريد بلكاهية ومتحف محمد السادس لحضارة الماء بالمغرب، “أمان” الدورة السابعة لـــ “زهرية مراكش”، برئاسة الأستاذ جعفر الكنسوسي، الباحث في قضايا الثقافة التراث المغربي، ورئيس جمعية منية مراكش، وجاءت فعاليات التظاهرة الثقافية الحضارية المعنية استحضارا من المنظمين لطقس ثقافي يرتبط بأنماط العيش المغربية العريقة، ويتعلق بتقطير ماء ورحيق عبق زهرة “النارنج” المنتشرة في عموم بساتين وضيعات وحدائق مدينة مراكش ، حيث حضر فعاليات إنطلاق مراسم “تقطير الزهر” كل من محمد صبري والي جهة مراكش آسفي ، وأحمد أخشيشن رئيس مجلس جهة مراكش آسفي، وعدد من مسؤولي الإدارة الترابية وبعض ممثلي المصالح الخارجية للوزارات ومختلف الأطياف الثقافية والإبداعية والباحثين في قضايا التراث والأكاديميين ونخبة من الفعاليات الجمعوية بالمدينة الحمراء، بالإضافة إلى ممثلي بعض المنابر الإعلامية الوطنية والدولية والوجوه الفنية التشكيلية والتعبيرية بالمدينة الحمراء.
هــذا، وإذا كان فصل الربيع كأحد فصول السنة الأربعة يتميز في عموم جهات المملكة ، ودول البحر الأبيض المتوسط بمناخ معتدل، تتفتح فيه الأزهار وتعتدل في أيامه الأجواء بين الحرارة والبرودة. إذ يمثل المرحلة الانتقالية من موسم الشتاء إلى موسم الصيف، إبتداء من21 مارس لينتهي في 22 يونيو ، فإن فصل الربيع في مراكش، الذي طالما تغنت به المعزوفات المغربية والأهازيج الشعبية، وتضمنت ملامحه القصائد والروايات واللوحات التشكيلية والإنتاجات السينمائية والأشرطة الوثائقية، يكتسي طعما فريدا ومميزا ، عرفت جمعية منية مراكش لإحياء التراث من خلال أطرها وخبرائها في أن تحوله لمهرجان للتجدد ومحطة للإحتفاء بالتراث المغربي في علاقاته بالزمن والمكان ، وفي تعبيره عن مباهج الحياة المغربية في أسمى تعابيرها المتعلقة بفصل الخُضرة وبأفراح الجمال،وأبهة الأناقة، وفي أن تجعل من “مراسم تقطير الزهر” عنوانا لرسائل إيكولوجية بيئية وأعراسا تتوحد مع أرض المدينة الحمراء إثناء إرتداء ثوب زهورها ورياحينها لتظهر بأجمل حلةٍ لها وكأنها عروسٌ أفاقت من نومها الصقيعي العميق، على إيقاعات رَبيع ينضح بالإخضرار والخصوبة التي تترجمها ينوعا مزهرا، للأشجار عموما، وشجرة النارنج “الزنبوع” خصوصا، معلنة أسمى مظاهر التكريم للإنسان وللطبيعة من خلال طقوس “زهرية مراكش” ، في أبهة من التقاليد الربيعية وتحت عبق وشذى عطر التراث المغربي.
إلى ذلكــ ، وحسب كلمة الأستاذ جعفر الكنسوسي رئيس جمعية منية مراكش فإذا كان فصل الرَبيع في أغلب بلدان العالم يمثل حالةً من الفرح بين الفصول، فهو في مراكش صار يشكل محطة لأكثر الفصول بهجةً، تشهد بإيقونات الخصب وبتجدد الحياة الثقافية والتراثية المغربية، على ترانيم تغاريد الطيور،وأناشيد التقاليد المراكشية التليدة، التي تجمع ولا تفرق، وتزيد ولا تنقص، وتجعل العقل والقلب ينفضان عنهما غبار التغريب والتجهيل وعتمات التطرف والإنحلال ، ولتناهض مختلف أشكال الجفاف والذبول.
كما أبرز الكنسوسي أن الربيع في مراكش، ظل عبر مختلف العقود وعلى مر الأزمنة يتميز بأنه أكثر الفصول إلهاماً للشعراء والزجالين ونُظَّام الملحون والأدباء والفنانين التشكيليين من المغاربة والأجانب، ليس فقط لكونه فصلا طبعته مراكش بتعددها الحضاري وتنوعاتها الثقافية فقط ، مما إحتفت به قصائد الشعراء، ونصوص الأدباء، تزامنا مع زقزقات العصافير وتغريدات البلابل وحفيف الشجر،وعلو النخيل وخرير مياه الجداول، وتراتبية الحياة في الصهاريج والخطارات، وإنما لكون الربيع في مراكش إرتبط بالنزاهات والمراتع الفيحاء وحمل على الدوام رسائل تنبثق من عمق الحضارة المغربية ومن وهج التراتيل الزمانية الشعبية المرتبطة بالأمكنة وبتراث الأجداد، الذي يبرز في مواسم “تقطير الزهر” وفي الأفراح وأجندات الأعراس والملتقيات باتجاه كل ما هو رائع وجميل وبتثمين الخصوبة والورود والثمار، حيث أكد الكنسوسي أنه على الرغم من أن لكل فصل من فصول العام خصوصية يتميز بها داخل الثقافة وأنماط العيش المغربي، إلا أن خصوصية فصل الربيع في مراكش تكتسي منحى ثقافيا وتراثيا، ومحطة لتلاقح الأفكار والإبداعات.
في ذات السياق، تخللت إحتفالية “زهرية مراكش” القائمة على طقس تقطير ماء الزهر”،والتي نظمتها جمعية منية مراكش بشراكة مع مؤسسة فريد بلكاهية ومتحف محمد السادس لحضارة الماء بالمغرب، “أمان” الدورة السابعة لـــ “زهرية مراكش”،وصلات غنائية من طرب الآلة الأندلسية أدتها “مجموعة مولاي عبد الله الوزاني” برئاسة الحاج محمد عز الدين ومجموعة شباب “منية مراكش” ومداخلة فكرية للأستااذ جليل بلكامل، الباحث الجامعي، والخبير في علم الأحباق وروح الأزهار، تناولت أهمية شجرة النارنج “الزنبوع” ومكانتها الروحية وأبعادها السوسيو ثقافية والدلالية في الثقافة المغربية،ودورها العملي والجملي من خلال ما يستخرج من أزاهيرها في الأعراف والمراسم ومختلف المناسبات الاجتماعية والدينية.
وخلال الشروحات التي قدمتها الأستاذة حليمة بوصديق ، نائبة رئيس جمعية “منية مراكش” أمام محمد صبري والي جهة مراكش آسفي وأنظار الحضور حول العملية التطبيقية المتعلقة بطريقة تقطير الزهر، ومختلف مراحلها.
حيث أشارت بوصديق أن قطارة الزهر المصنوعة من النحاس الأحمر، تتألف من البرمة الأنية الرئيسية ذات الشكل المقعر، والمحتوية على الماء، ثم الكسكاس كآنية مقعرة بدورها بأسفلها ثقوب صغيرة وتوضع بها أزاهير “الزهر”، بالإضافة إلى الراس وهي آنية وسطها مقبب الشكل ، يوجه الفراغ منه إلى الأسفل وبه أنبوبان، احدهما لتغيير الماء البارد حتى لا تؤثر حرارة البخار في القطارة والأنبوب الثاني أسفله بمحاداة الكسكاس، و يجود بقطرات الزهر المترتبة عن تبخره القوي في الكسكاس.
إذ تمر طريقة التقطير عبر الآنيات الثلاث، حيث يتم وضع البرمة المملوءة ماء يتم تسخينه على نار هادئة ويتم ملء الكسكاس بالزهر وإحكام إقفاله مع البرمة بوضع قطعة من قماش عادة ماطلق عليها “القفال” مطلية بالماء والدقيق ليشتد تماسكها مع جنبات الإناء ، فصد الحيلولة دون تسرب البخار ، بعد ذلكـ يتم استبدال الماء البارد في كل مرة، بعد ذلكـ تبدأ قطرات الزهر في “الهطول” بالتواثر لتعبأ بها القنينات البلورية ، و”المِرشَّات ” الفضية .
ومهما يكن، فإذا كانت “قلعة مكونة” تحتفي بورودها، وإيموزار تَـعْرِسُ لفاكهة “حب الملوكـ” المنتشرة بأرجاء بساتنيها، فإن مراكش بإحيائها لموسم “الزهرية” تحي عادة كادت أن تطوى بين ثنايا النسيان، من خلال إعادة إحياء جمعية “المنية” لإحتفالية “تقطير الزهر” الضاربة في عمق التاريخ المغربي، حيث تعود حسب بعض الدراسات التاريخية الأكاديمية المغربية والأجنبية إلى فترات تفاعل المغاربة مع كل من المشارقة والأندلسيين خاصة خلال عهدي المرينيين والوطاسيين في القرن الثامن والتاسع والعاشر للهجرة، حيث باتت عمليا غرس أشجار النارنج “الزنبوع” في الحدائق والبساتين بمراكش وعلى أرصفة الشوارع وداخل المؤسسات التعليمية وبوسط الدور العتيقة وساحات مقرات الإدارات ورعايتها متأصلة في المجتمع المراكشي، كجملة من العادات الاجتماعية المتنوعة التي تميز المجتمع المراكشي التقليدي خصوصا والمغربي عموما .
وتجمع معظم الدراسات التاريخية، أن أهمية إستعمال “زهرة النارنج” ظهرت عند الصينيين القدماء ونقلها العرب من الشام إلى الأندلس ومنها انتقلت إلى المغرب عبر عدة موجات بشرية وهجرات، حيث إزدهرت في مراكش وفي مجمل المدن المغربية العتيقة .
وعلى كل حال، فتقطير ماء الزهر بطقوسه المرفوقة بتعشيقات “النكافات” وتهليلاتهن مما يؤكد الطابع الإحتفالي له، وكأنه حفل زفاف للطبيعة مع الإنسان ، تكتنف مراسمه تفاصيل صُبحيات ، يُشكل تراثا رمزيا وحضاريا مغربيا جد متميزا .
هذا، ولقد اشتهرت مجموعة من الأسر المراكشية بعادة التقطير الورد والزهر والزعتر و”إكليل الجبل” منذ قديم الزمن،حيث توارثتها النساء المراكشيات خلف عن سلف، سبروا أغوار أسرارها جيلا بعد جيل ضمن طقوس وتقاليد مضبوطة ، حيث عادة ما تتفتح زهور أشجار النارنج “الزنبوع” كما يطلق عليه في اللهجة المغربية الدارجة، زمن فصل الربيع من كل سنة، ويصل علو الشجرة الواحدة منها إلى مترين، إد تنتج هذه الشجرة تنتج بشكل متواز نبات النارنج الليمون البالغ المرارة وزهيرات الزهر معا، حيث يستعمل “الزنبوع” المنتمي لفصيلة الحوامض، عصيرا أو يصنع مربى ، وقد يستعمل لمعالجة بعض التقرحات والأمراض، في حين تفوح من زهيرات الزهر رائحة زكية ترسل أريجها من بعيد في معظم شوارع مراكش وتنبعث من أغلب رياضها و”عراصيها” ، لدرجة أن المراكشيين عمدوا إلى تحويل صناعة “ماء الزهر” إلى تجارة رائجة ، بل تحولت مع شيوع المبادرات المقاولاتية الحديثة إلى منتوجات تصنع في مجمل الوحدات الإنتاجية بالمدن المغربية.
وإرتباطا بذات السياق، أكدت الأستاذة فاتحة الخلفاوي ، الكاتبة العامة لجمعية منية مراكش لإحياء التراث، أن طقوس الزهرية في مراكش تبدأ من مرحلة جني وتنقية الزهر لتنتهي إلى وضعه في القارورات في أفق استعماله،حيث تستغرق عادة عملية التقطير يوما كاملا، وتتطلب مجهودا دقيقا وشاقا لا تستطعنه إلا النساء العارفات المحترفات في التقطير.
وتضيف الخلفاوي أن تنظيم إحتفالية “زهرية مراكش” تدخل في إطار إهتمامات جمعية منية مراكش في إحياء هذا التراث اللامادي، والحفاظ على طقوسه الحضارية، والحيلولة دون إندثاره أمام رياح العولمة التي باتت تهدد الثقافات وأنماط فنون العيش بالمجتمعات البشرية العريقة، على غرار المغرب .
كما أبرزت الخلفاوي أن تنظيم الدورة السابعة لتقطير الزهر في إطار زهرية مراكش ، يؤكد أن فعاليات هذه الأخيرة، باتت تتوفر على تراكمات تنظيمية وثقافية، وعلى عشاق ومتتبعين، وأنها رسمت خط واضحا ضمن الأجندة الثقافية السنوية بمدينة مراكش، وفق حرص “جمعية منية مراكش لإحياء التراث” على المشاركة والاندماج في الدينامية الثقافية الوطنية والجهوية والمحلية ، والمساهمة في تفعيل الثقافة المغربية موازاة مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية .
لإلى ذلكــ ، يتجاوز ماء الزهر ، وظيفته التعطيرية في الأفراح كما في المآتم، والمناسبات الدينية على غرار ليلة القدر وعيد الفطر وعاشوراء وعيد المولد النبوي،ليدخل المطبخ المغربي بكل إقتدار حيث يستعمل في الحلويات المعطرة بماء الزهر مثل كعب غزال ” و” المحنشة “، وفي سلاطات الطعام الجزر المحكوك والبرتقال وأثناء تعطير بعض الفواكه الجافة كالتمر والتين والزبيب أو الخضر، كما يمزج ماء الزهر بالماء أو الحليب في المناسبات الخاصة بالخطوبة والزواج ،ومع ذلكـ يحضر ماء الزهر في مراسم الولادة وحفلات العقيقة، وفي الوفاة حيث يرش كفن الشخص المتوفى بماء الزهر، وإثر مرور ثلاثة أيام على رحيله، تهرق قنينات ماء الزهر فوق ثرى قبره قبل بناء القبر بشكل نهائي….
ويسود إعتقاد شعبي،حول عدم نجاعة ماء الزهر فيما إذا لم تعرض قنيناته المعبئة والمغطاة بقطع من قماش أبيض منه لأشعة الشمس، في إشارة إلى أن أشعة الشمس تحرص هذه القنينات من الفساد والتعفن، ومن تبعات ” العين” في حين أن أشعة الشمس تمتص الهواء الزائد في هذه القنينات المعبأة بماء الزهر، عبر عملية كيميائية وعلمية معروفة، بعد ذلكــ ، يحتفظ بماء الزهر في قارورات من زجاج مبخرة من الداخل بالعود والمسك ويحتفظ بها لمدة أربعين يوما مغطاة في مكان نظيف لا تصله أشعة الشمس وبعيدا عن الأضواء الكهربائية، وإن كان في وسط دائرة الأضواء الثقافية واللمعان الحضاري المغربي .