عباس صلادي : 1950 – 1992
: مـحـمـد الـقـنـور:
عـدسـة : محمد أيت يحي :
دعتني للحديث عن الفنان التشكيلي الراحل عباس صلادي الزميلة الإذاعية أسماء الشرقاوي لبرنامجها الشيق والممتع “المنسيون” الذي سيبث قريبا ضمن حلقات خلال الفترة المقبلة على أثير إذاعة مراكش الجهوية، ولأني كنت أعرف عباس صلادي يرحمه الله، وأعرف ذويه ومن هم من أرحامه، فقد سررتُ بالدعوة وبلقاء الزميلة المحترمة ، التي طالما أثثت المشهد السمعي الجهوي والوطني بما تبدعه من بواكير إعلامية جادة ورفيعة.

والحق، أن الفنان التشكيلي الراحل والكبير عباس صلادي، لم ينل حظه من الدنيا، وما تمنحه للناس من صحة وعافية ، ومن خيرات ومال وبنين ومن إستقرار وعيش وشهرة، فكأني به ولد حزينا وعاش حزينا ومات حزينا، فقد ولد في حي “قبور الشو” بالزاوية العباسية في مراكش، في عائلة فقيرة لا تكد تجد ما تسد به رمقها في سنة 1950 ، و ماكاد يفتح عينيه على الدنيا حتى توفي والده، فدفعت به والدته إلى دكاكين أولائكـ الحرفيين ممن كانوا يؤثتون فضاء حي الزاوية العباسية وأحياء روض العروس وباب تاغزوت، وغيرها من أزقة وأسواق مراكش العريقة، حتى يستطيع إستكمال لوازم دراسته من دفاتر وكراسات وثياب، ثم إنتقل في مقتبل عمره إلى الدار البيضاء، ليشتغل بمقاهيها ومطاعمها ، كغاسل صحون مياوم، حيث إلتحق بجامعة محمد الخامس في الرباط ليدرس الفلسفة، وليجد في عوالمها المتنوعة وأفكارها الفياضة ما كان يتلاءم مع حسه الرائع وبواكير فنه المستلهم من صنوف البحث والغرائبية الوجودية، ومن تماهي مع تلكـ الحكايات التي طالما سمعها في طفولته بمراكش على وجه الخصوص قبل أن يدخل في سلسلة من المآسي لتتقاذفه أمواج الأسى وعتمات الحاجة، ولتصاحبه المحن التي وضعته على سكة اضطرابات نفسانية وانكسارات عصبية حادة، وعلى حافة تنكر المجتمع له ولإبداعاته ، ووسط ظلم من الناس والزمن قاده إلى دخول مستشفى الرازي للأمراض العقلية مرارا متعددة..
ولقد قضى عباس صلادي، معظم أيام حياته القصيرة وسنواته الإثني والأربعين فقيرا وحزينا صامتا ومضطربا ، لكنه كان فنانا مرهفَ الحس، حاد البصيرة، متوقد الذكاء ، قليل الكلام، قلقا وكظيما مِمَّا كان يجدهُ من مرارة الوحدة ومن الجحود والإهمال، فكان لا يملك من متاع الدنيا شيئا، ولكنه مع ذلكـ فقد كان عباس غنيا بالأحاسيس وثريا بتلكـ التدفقات العاطفية، والكرامة والنبوغ، وإن كان قد عاش حياته مهمشا، وخجولا وبعيدا عن الأضواء زاهدا فيها ، إذ لم يحظ بالشهرة التي كان يستحقها إلى أن وافته المنية في سنة 1992.

ولــــولا الأوساط الأكاديمية الأجنبية ، والمهتمين من الدارسين ومن نقاد الفن التشكيلي المغاربة والعالميين ممن اكتشفوا تجربتـه الغنيـــة والمتفردة والغريبـــة، لظل عباس صلادي نسيا منسيا كما كان خلال سنوات الثمانينات، ولتعرضت لوحاته للإستنساخ، والضياع، فقد رأيتُ عباس صلادي ذات يوم ماطر وبارد يعرض هذه اللوحات عرضا على قارعة طريق شارع الأمراء بمراكش،وكانت شقيقته تلكـ السيدة الطيبة التي تعتني به ترافقه،والتي فقدت بصرها حاليا، وأقعدها المرض عن الحركة، وقد سكنه الصمت الشفـيف ، وكانت الحسرات المنبعثة من عينيه تكاد تخنقه من لامبالاة المارة، إذ كان صامتا في حياته، ومتكلما في فنه، وقد حدث أن زرتُه مرات في مستشفى الرازي بمراكش، وقد رأيت ما كان يغدق عليه الدكتور العدوي وبعض الممرضات والممرضين من عناية ومن إهتمام بشفائه .
ومهما يكن فقد أغنت لوحات الراحل التشكيلي عباس صلادي الساحة التشكيلية الوطنية، والعالمية وأظفت إضافات نوعية على مدارسها، سواء من حيث القيم التشكيلية المطروحة أو على مستوى الهم والتألق والمعاناة المستدامة التي ارتبطت بالتجربة التشكيلية للفنان صلادي كجزء من مآسيه المتعددة والمترامية كسلسلة من لهيب نار وخطوط رمل على مسافة حياته القصيرة ، فاقت كل التصورات، رغم أن معظم لوحاته لاتزال موزعة مابين شقيقته الصغرى التي تقطن في مدينة آسفي، ومابين بعــض العائــلات الثرية من عشاق الفن التشكيلي في الدار البيضـاء وفي مراكش ومدن أخرى ممن إمتلكوا هذه اللوحات بشكل من الأشكال .
ومن الطريف وغرائب الأقدار، أن لوحة للفنان الراحل عباس صلادي بيعت مؤخرا بمبلغ تجاوز خمسة ملايين درهم، خلال عملية بيع بالمزاد العلني لعدد من تحف الفن التشكيلي المغربي المعاصر، فقد أفاد بلاغ لدار المزادات “مليون” بباريس ودار “مزارت ” “مزاد أند آرت” بطنجة، أن العملية التي جرت مؤخرا “بتقنية الدوبليكس” بالتزامن، في كل من الدار البيضاء وباريس، أسفرت عن بيع لوحة “تاراكت” أو “الهدية” للرسام الراحل عباس صلادي بما يعادل 5 ملايين و 83 ألف و 847 درهم، فيما يشكل سعرا قياسيا بالنسبة لأعمال هذا التشكيلي الذي ظل منسيا .
والجدير بالذكر، أن المعهد الفرنسي في مراكش سبق له أن نظم بتعاون مع جمعية شمس تانسيفت للصحة الذهنية، مؤخرا معرضا للفنان التشكيلي المغربي الراحل، عباس صلادي، كأحد أبرز الوجوه الإبداعية المراكشية والمغربية والعالمية المثيرة للجدل.
