اللغة الفصحى واللسان العامي،والصراع المفتعل

محمد المباركي :

تنبني اللغة الفصحى أو اللغة الراشدة على قواعد نحوية و نسق لغوي منسجم ابتكاري و متطور و منفتح مما يعطيها القدرة على استيعاب الظواهر النفسية و الروحية و المادية تسمح للعقل رسم مفاهيم فكرية نظرية و علية شاملة. خلافا لذا اللغات البدائية أو اللهجات لا تنفلت من نطاقها الحسي عبر تعبير قاصر لا يرتقي بعد للمستوى الذي يؤهلها لتكون لغة الحضارة و الثقافة و العلوم . اللغات الفصحى لا ترتقي لمستوى الكينونة بقدرة قادر أو بشكل ارادي و اغتباطي كما يظهر للبعض. هناك صيرورة تاريخية طويلة و معقدة يخللها مد و جز ع و صراعات يضل الحاسم فيها قدرة اللغات الفصحى انتاج ثقافة رائقة و جمالية تعبيرية عالية عبر أسلوب سلس و سهل المنال .

ومقارنة مع اللغات الكونية الراشدة المهيمنة عبر التاريخ و في حاضرنا الراهن ،فمن نافلة القول أن اللغة العربية أدق شكلا و أبسط تعبيرا و أعمق تفكيرا. فهي خلافا لباقي اللغات لها القدرة على احتواء كل الألفاظ فنية كانت فلسفية أو تقنية ، لأنها خلافا لباقي اللغات الراشدة أو الفصحى الأخرى عرفت عند التدوين ، أي لما ارتقت من لغة خاصة بمنطقة و قوم معينين الى لغة حضارية كونية تخص عموم البشر ، حيث تأخذ من ثقافتهم و تلقحهم بثقافتها بشكل فعال ، وضع لها النحويون علما من أروع وأبدع العلوم. ألأمر الذي لا نجده عند اللغة الصينية الفصحى مثلا رغم قدمها و التى كانت في البداية خاصة برجال الذين لتصبح رغم تعقيدها و رغم وجود المئات من اللهجات الى جانبها فان لا أحد يجرأ وضعها في قفص الاتهام كما يحلو للبعض اتجاه اللغة العربية . فاللغة الصينية ” الماندران” ، لم يتهمها أحد بالعقم و أنها السبب في تقهقر الحضارة الصينية لعدة قرون . بل تشبثت الشعوب الصينية العديدة بالكنز الثمين الذي هو لغتهم الفصحى التي حافظت على تراثهم و ثقافتهم و حصانتهم من الاستلاب الفكري و الضياع الحضاري. و اللغة الهندية ” الهندي ” نفسها معقدة و صعبة المنال ، لكن شعوب بلاد الهند رغم استعمالهم للانجليزية و وجود المئات من اللهجات يحتفظون باعتزاز و أنفة بلغة حضارتهم ، لأنها الاسمنت في بناء نفسيتهم و النسغ الثمين للحفاظ على كيانهم الثقافي.

و قريبا منا اللغات الحية الحديثة من انجليزية و فرنسية و اسبانية. فقواعدهم اللغوية رغم حداثتها أكثر تعقيدا من اللغة العربية ، و اسلوبها أقل سلاسة و فصاحة و غنى من العربية. ثم ان هذه اللغات الحية لم تكن في البداية من نتاج و ابتكار البلدان التي تسود فيها. فالفرنسية ، هي لغة فبائل جرمانية هجرت لشمال فرنسا بداية القرن الوسيط لتكون لغة الدولة الناشئة . و لا أحد نسمعه يتهمها أنها لغة دخيلة على الشعوب التي كونت الأمة الفرنسية، لأن أصلها جرماني. و نفس الأمر بالنسبة لللغة الانجليزية التي هي في البداية خليط من الدنمركية القديمة و لهجة منطقة انجلترا أحدى الشعوب المكونة للأمة البريطانية . هذا دون الحديث عن البلدان التي تبنت الانجليزية . لا أحد يطالب بتعويضها لأنها ليست انتاج محلي . و نفس الأمر يسري على الاسبانية ، لغة منطقة الكاستيان و التي تعممت . كل هذه اللغات لم تعمم الا خلال القرن العشرين حين تم تعميم التعليم و رقيه ، ثم تطورها عبر الوسائل المكتوبة و السمعية البصرية ، فتطورت بذا لغة الشارع التي هي اللهجات العامية ، و التي لم تلجأ الى الحل السحري الذي يدعون اليه البعض لمقاومة لغتنا الراشدة لتجاوز الوضع الاجتماعي الفظيع و سيادة الاستبداد و تدهور كل المؤسسات و في مقدمتها التعليم و الصحة و الشغل و السكن اللائق .

لما نتكلم عن اللغة العربية ، اللغة الفصحى الراشدة ، هذا لا يعني أننا نقصد لغة الأعراب البدو بالجزية العربية . ان لفظة اللغة العربية مثلها مثل اللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الاسبانية كما أشرنا اليه . لا علاقة لها بأي عرق بشري أو سكان بقعة معينة ، و ان ادعى داع ذلك . اللغة العربية الفصحى هي نتاج لامتزاج لغات و حضارات تاريخية عظيمة كالفارسية و البابلية و الأشورية و الفرعونية و الكردية و الأمازيغية و العبرية و النصرانية و الافريقة و الأندلسية و أالأسيوية …فواضعو قواعد النحو و مجمل العلوم التي نتجت عن عصر التدوين لا يوجد من بينهم سوى القليل الناذر من سكان الجزية العربية.

ووجهت العربية الفصحى منذ عهد التدوين ، و كل مرة يكون المدافعين عنها غير بدو الجزيرة. ضد شعوبية عهد التدوين قام علماء النحو و الفقه و الفلسفة و كلهم اما فرس أو سكان ما بين الرافضين أو الشام – سوريا فلسطين و الأردن حاليا – و أرض الكنانة و طبعا بلاد المغرب – تونس ، الجزائر ، المغرب الأقصى و الأندلس – . لا ننسى دور ألإمبراطوريات الأمازيغية المرابطية و الموحدية و المرينية في نشر اللغة العربية الفصحى و تعليمها و الحفاظ على منتوجها . لماذا تم الدفاع عن اللغة الفصحى في الشرق و الغرب منذ البداية و من أقوام خارج بدو الجزيرة ؟ لأنهم مثل من يتبني الانجليزية أو الفرنسية أو غيرهما من اللغات الراشدة ، كانوا يرون فيها السلاح الذي ما بعده سلاح لبناء صرح الكيان الحضاري و الثقافي الذي يتماشى وكيانهم الحضاري و الثقافي . و هو الذي حصل رغم مرحلة الاحباط و الانحطاط الذي عرفته الثقافة العربية خلال فترة طويلة . فكانت النهضة الموفقة خلال القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين لتستمر عبر النهوض الثقافي و الفني خلال القرن العشرين ،تمخض عنه نهضة سياسية تحررية بقيادة التيار الوطني القومي و التقدمي اليساري. أن هذه النهضة الأخيرة هي التي أدت الى استقلال البلدان العربية و سيادة الاتجاه القومي و اليساري . مما أزعج قوى الردة و التبعية الى جانب الامبريالية و الصهيونية و الرجعية المحلية . فلا غرابة أن نسجل أنه قبل حرب الابادة بزعامة أمريكا للعراق كمدخل لتفتيت الأنظمة الوطنية و اليسار ، سبقتها ما سمي بحرب الثقافات . حيث تم الزعم أن الحضارة العربية لا تساير الحداثة و الديمقراطية و أن هناك تعارض بين الثقافة الغربية و ما سموه بالإسلام. الهدف كان طبعا ايقاف الثورة الثقافية بزعامة القوى الوطنية و القومية و اليسارية التي سادت مند الخمسينات في المجتمعات العربية لحد أصبح الشارع العربي يتنفس نفس الهواء التحرري و الوحدوى و الوثاق دخول الحداثة من بابها الواسع . كان لا بد من جعل حد لهذه الثورة الثقافية الناشئة لأن عبرها ستتم وحدة الشعوب العربية و الديمقراطية. و الوحدة المصيرية لذه الشعوب في عصر التكتلات الكبيرة مسألة عيش أو ذوبان و منه التبعية و الانحلال .

ذلك أن اللغة الدارجة التي يدعو لها البعض كحل لمشاكلنا الاجتماعية و السياسية و الثقافية هو ضرب من التلفيق و خلق الفرقة و التفرقة أكثر من حلها. انهم كالساحر يوهمك بشيء كأنه حقيقة و ما هو إلا وهم و سراب . هذا زيادة على الخلفية الشعوبية و الشعبوية التي تخاطب العواطف الآنية لتبرير مشروع تذويب الهوية الوطنية الأصلية و القومية الرفيعة و الكونية التي تدعو اليها اللغة الفصحى سلاح التحرر و السيادة و المصير. و لرفع ملابسات دعاة اعتماد العامية للتدريس و التدوين نوضح الأمور التالية :

أولا ، الدارجة هي عربية الشارع و هي بذالكـ لغة عامية للتداول ، تتغير حسب لهجات المناطق و حسب عادات الناس في أماكن تواجدهم . فلهجة أو دارجة المواطن الصحراوى تختلف عن دراجة المواطن الدكالي أو الشمالي . و اللهجة الفاسية غير المراكشية أو البيضاوية،ثم زن على مثل هذه الأمثلة ما شئت و زد ليظهر لك هراء ما يدعوا الية أصحاب أعجوبة تعويض اللغة الأم التى هي الفصحى بعشرات اللهجات المتفرعين عنها . أن وجود اللهجات و تعددها شرقا و غربا للبلدان التي تتبنى اللغة العربية هو بالضبط عنوان مثانة و قوة اللغة الفصحى التي تشكل الرابط الثقافي بين مجموع الأعضاء للكيان الحضاري الواحد.
ثانيا ، الأمازيغية ليست كالدارجات الموجودة في البلاد و التي أصلها العربية . الأمازيغية لغة لها نطقها الخاص و أبجديتها الخاصة و لا تطرح نفسها نقيضا للعربية ، بل تأتي كعضد و كدعامة لها . فمن نشر العربية في بلدان الغرب العربي عبر التاريخ كما أشرت ، هم أمازيغ . و في سدة أعلام التراث الثقافي العربي بالمغرب هم أمازيغ . و من وقف ضد الظهير البربري المشؤوم ، في مقدمتهم أمازيغ . اذن لا نقيس شيئا على غير مثيله .

ثالثا ، لو أن المشكل مشكل اللغة العربية قلنا آمين للمتطاولين على العلم و المعرفة . لكن العيب عيبهم و عيب من دفع البلاد و العباد الى مستوى التخلف و التبعية . أما اللغة العربية فبريئة كل البراءة مما يدعون. هي لغة الكمال و الجمال ، لغة المجد و نخوته ، لما يكون للمجد ناسه. و لغة الحضارة و النضارة لما يعمم التعليم الجيد و لما يقوم المثقفون قومة رجل واحد لا تردد للخوض الجدال و المباهلة و المناظرة و الابداع في كل الميادين دفاعا عن لغتهم الفصحى القابلة للتطور بشكل مذهل .
رابعا ، لو كان ما يقدم كبديل في المستوى لما بين أيدينا لقلنا أهلا و سهل لأننا لا نريد سوى الصلاح و الفلاح. لكن أن يبيعوا القرد و يضحكوا عمن اشتراه نقول لا يا سادة الفساد و الفتنة ، دعونا و بضاعتكم الراشية عندكم . نعم للهجات العامية و التي مع التطور الاجتماعي و الثقافي الرصين ستقترب من الفصحى لحد الذوبان فيها.
وختاما، فنحن بحاجة لثورة ثقافية جديدة و هي مسؤولية كل الرواد و المثقفين و المبدعين و في مقدمتهم مربي الأجيال الصاعدة. كيف يتم ذلك أمام التقهقر الذي تعرفه الشعوب التي تتبنى العربية ؟ خلال المد السبعيني كان الشعار المتداول ” على قدر أهل العزم تأتي العزائم “. العزيمة تفرض ثورة ثقافية كمدل للتغيير المجتمعي.
كما يقال الشعر ديوان اللغة العربية و ليس أصدق ما قاله حافظ ابراهيم العربي ، نسبة الى الحضارة و الثقافة العربية و ليس الى بدو الجزيرة :

فلا تكيلوني للزمان فإنني    ≡≡     أخاف عليكم أن تحين وفاتي

قال رائعته دفاعا عن اللغة العربية ذريعة للهوية الوطنية، لمواجهة الاستلاب الثقافي الذي بدأ المستعمر البريطاني يفرضه على مصر.

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.