بدايات الفنون التشكيلية الحديثة وإنطلاقات عصر النهضة

محمـد الـقـنـور :

بقي الرسم مدة العصور المظلمة بأوروبا يجري على عرف الكنيسة وتغلب عليه المنهجية البيزنطية، كطريقة لاتزال تشهد عليها الكنائس بأوروبا وفي بلدان الشرق الأوسط كفلسطين وسوريا، والعراق وفي مصر، حيث كانت الوجوه في اللوحات والإيقونات الخشبية والزجاجية والنحاسية تتشابه وتجمد الأجسام ويحيط بها كلها هالة القداسة، وكانت الصور ترسم على خلفيات مذهبة، تكريما لمواضيعها الدينية المسيحية وإستحضارا لقدسيتها، مما يصعب معه التمييز بين الوجوه والشخوص في هذه اللوحات ، والتفريق في الاختلافًات على مستوى المشاعر وطبائع الشخوص ومدى الأختلافات بينهم .


وطبيعي أن يكون ذلكــ ، قد كان الدين المسيحي الكاثوليكي أساس الحياة في القرون الوسطى ولذلك فإن الفن التشكيلي على هذه الحقبة، جمع من ناحية بين فلسفة الإغريق واللاهوت الكنسي، كما جمع بين النظر الديني وبين إخضاع هذه الفنون لهذا النظر الديني، وكما استعمل كتاب الكنيسة فلسفة أفلاطون وأرسطوطاليس، وأفلوطين، وتوما الإكويني للدفاع عن الدين، كذلك استعملوا الرسم لخدمة الدين، لدرجة أن موضوعات أي فنان تشكيلي في هذه الفترة لا تستطيع أن تخرج عن الدين المسيحي.
فقد رسم الفنانون التشكيليون ‏‏المسيح والعذراء والملائكة والقديسين،والشيطان أحيانا، لأن القواعد المسموح بها في التشكيل، لاتسمح سوى بذلكـ ، وعلى أي فنان ‏‏تشكيلي ألا يتخطاها.

ولكن مع إطلالة القرن الثالث عشر، بدأت أزاهير النهضة الأوروبية تتفتق في المواقف كما في الآراء، وشرعت دعوات ترك التقاليد ترتفع، وعمد أوائل المفكرين والمبدعين إلى إعلاء صوت العقل فوق قيود النقل،مما مهد لاحقا إلى بروز أعلام كبار في مختلف الآداب والعلوم والفنون،وتفتقت بذلكــ مشاريع النزعة الإنسية، وشرع الناس يفهمون من المسيحية أنها ديانة للحب،وليست ديانة محاكم للتفتيش، ونصب للمحرقات والمشانق، والمقصلات وأكسب هذا الاعتقاد الجديد صورة إنسانية للعذراء تمثل الحب بالأمومة‎.، وكان القديس فرانسيس،أول من مسح هذه المسحة على الدين، ليمهد الطريق لكالفان ومارثن لوثر، وللمذهب البروتستاني الذي حد من سلطة الفاتيكان، وجمع بين حب الطبيعة والإيمان بالدين، فكان يخاطب الطبيعة ويتآخى مع الأشجار ومع الطيور والسمك ويطرب في لذة الاجتماع بالخليقة والاشتراك معها في طرب صوفي تعترمه المحبة والوحدة، فنقل الدين المسيحي بذلك من جمود الكنائس وضيق الأعراف التي وضعها الباباوات، ونشرها القساوسة إلى رحابة الطبيعة وما فيها من وجود ومن موجودات وما يكتنفها من مظاهر ومن مجسمات ومن ضياء ومن ألوان .‎.‎


والواقع، أن “جوني تشني” وهو فنان مرموق فلورنسي، كان أول من نقح وإجتهد في المدرسة البيزنطية التشكيلية، فقد ولد “تشيني”قبيل النهضة الأوروبية في سنة 1240 ومات سنة 1302، وهو ما يزال في رسومه يتبع على وجه الإجمال قواعد بيزنطية ولكنه يمسح على رسومه مسحة إنسانية جديدة فيها معاني المشاعر والحب.
ومهما يكن ، فقد كلف “جوني تشني” بتزيين كنيسة القديس فرانسيس برسومه،فكان هذا القديس الشهير بصوفيته وبقوة إنفتاحه إلهامًا له يبعثه على اتخاذ التجديد بدلًا من التقليد .
كما كان “جوتو” الذي تتلمذ على “تشني”من مؤسسي نهضة الفنون التشكيلية، حيث إعتبر الفاصل الحقيقي بين وبين التقاليد البيزنطية التشكيلية، وبين بوادر النهضة .
ويروي مؤرخو النهضة الأوروبية، أن ” جوتو” كان طفلا يرعى الغنم، وحدث ذات مرة
أن رآه تشني وهو يرسم فأعجبه رسمه وطلب من أبيه أن يأذن للصبي بمرافقته لكي يتتلمذ له فأذن له الأب‎.‎
ولما كلف تشني بتزيين كنيسة القديس فرانسيس خص جوتو ببعض الرسوم التي تمثل حياة القديس فرانسيس نفسه، فأبدع “جوتو” فيها، وظهرت عبقرية التلميذ حتى تفوق في بعض اللوحات والجداريات على معلمه،بعدها توجه “جوتو” إلى روما وهناك كُلف بتزيين بعض الكنائس، فرسم لوحة”عيد ميلاد هيرودس” و لوحة” البكاء على القديس فرانسيس‎”‎ .

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.