أمينة المهدي تشكيلية مغربية ترصُدُ موسيقى الألوان وإيحاءات التجريد على إيقاعات الدلالات
محمــد القـــنــــور :
تقدم اللوحات التجريدية للفنانة التشكيلية المغربية، أمينة المهدي، ، إختزالا مميزا لكل الإنشاءات الأدبية والمقاطع التعبيرية من خلال مكنوناتها المتعددة الجوانب، وتبدو لوحات تجريدية تكتنفها كل ألوان الحياة وجميع إيقاعات الدلالة ، فكأنها الضياء إذ يتراقص مع الأطياف، وكأنها الشخوص تتوحد مع الشكل الهندسي، لتختبئ وراء الأطياف التي يغشاها الزمن ممتزجة مع الحركة ، في دقة عوالم متماوجة من القيم التعبيرية والدلالات الرمزية.
تلكــ هي لوحات الفنانة التشكيلية المغربية أمينة المهدي، الكاشفة عن الطبيعة الحية واللانهائية المكانية التي تتفتق إحساسا وأفكارا، وتنضح مشاعر وظرفيات تكاد تتحول إلى أصوات وأنغام وكلمات، في تفاعل هارموني منتظم مع كل فضاء اللوحات ، مما يثير لدى الملتقي مختلف مشاعر التأمل والدهشة ومفاتن الإعجاب .
وتتدرج لوحات التشكيلية أمينة المهدي، من خلال خلفيات تتسم مواضيعها بشكل تصاعدي في إتجاه الزمن والمكان اللانهائي، لتعبر عن طموح تشكيلي جريء يهدف بشكل رائق نحو تشخيص كينونة الإنسان في جميع مواقفه وظرفياته ، وفي إختزال شيق لمختلف الحالات الشعورية التي تعتري الفنانة أمينة المهدي، ، والتي تترجم مواقفها من الآخر ومن الطبيعة ومن الحياة ومن الموجودات ، لتقدم تجربتها كفن تشريحي للمكان والزمان، و لحركات كينونة نسائية مغربية، تؤكد على النعومة وتترجم مختلف قسمات الأنوثة ، ولتكشف عن مدى إلتصاق الفنانة المهدي، بعوالمها البصرية الإجتماعية والثقافية والعاطفية، وهو الإلتصاق الذي تعكسه شفافية الألوان في الأمكنة والأجساد والمسارب والفضاءات ، حيث تظهر معظم أطياف وخطوط وظلال وشخوص التشكيلية أمينة المهدي، مستقلة ومتوجسة، وواجمة ومرتقبة للذي قد يأتي أو الذي لا يأتي .
هذا، وقد ارتبطت الفنانة التشكيلية أمينة المهدي،المنحدرة من مدينة العرائش، والأم لثلاثة أبناء، والحاصلة على الإجازة في علوم الارض من جامعة القاضي عياض بمراكش، بفضاءات التجريد ذات الأبعاد المتعددة، والمتعلقة بالضوء الممزوج بالظلال الوارفة الواضحة ضمن تصميم بنائي شيق لأعمالها وعبر صيغة تركيبات أفقية وعمودية متلاحمة ، وفي سياق جمال آخاد من اللون والقيم وتراتبية الضوء والظل الذي يغشي عوالم لوحاتها.
ولا تقتصر المشاهد التجريدة الفنانة التشكيلية أمينة المهدي، على الشكل الثابت للأجسام التشكيلية الحقيقية أو الدلالات التجريدية ، بل تتجاوزه إلى رسم شخوص وأجسام وأطياف ضوء تتحرك عبر سياقات تركيبية في فضاء لوحاتها. شخوص، وبحيرات ، حقول وسماوات، أنوار وعتمات بألوان حية، تتحرك على إيقاعات راقصة، وتراتبيات تلقائية، لتكسر رتابة المشاهد البنائية الثابتة ، وهو مايضع تجربة التشكيلية أمينة المهدي، في بوثقة الحداثة التشكيلية بكل مقاييسها وشروطها ، وبجميع تطلعاتها البنائية وتقاليدها، التي تقوم أساسا على إستثمار نسيج المتحرك والثابت بشكل يوحي بقيام هذه كل لوحاتها على أسس المفارقات الجميلة والمعبرة.
إلى ذلك، تأخذ الخطوط والشخوص في لوحات الفنانة التشكيلية أمينة المهدي، منحى يقترب من يكون تجريديا ، وهو ما يضفي على أعمالها طابع التميز والإستكانة ، خصوصا ، وأن لوحاتها الفنية تتحول بواسطة التأمل من منحى عادي وواقعي، إلى فضاء قابل لكل القراءات والتأويلات ، ويدفع المتلقي إلى الدخول في دوائر نقاش مع مكنونات لوحات الفنانة التشكيلية ، وكأن أمينة المهدي، ترمي إلى التعبير بالتجريد عن الحقيقة، و بالمجاز عن الواقع ، كأن لفنانة ترسم بالموسيقى، وتحت تأثير الأنغام ، لتعبر نحو مسافات لونية لامتناهية ..
كما تكتنف تجربة الفنانة التشكيلية المغربية أمينة المهدي، مظاهر فنية تروم الاحتفاء الغير المباشر على مستوى الرؤية الأولى للوحاتها التجريدية بالحياة خصوصا والإنسان عموما، ولعل إيمانها بأهمية التواصل من خلال ترؤسها لقسم التحرير بمجلة “الانامل المبدعة” سنة 2007، وهي مجلة ثقافية وفنية إهتمت بقضايا التربية الإبداعية والإبتكار الفني، وهو ما مكن الفنانة المهدي من معرفة قوة العمل المشترك والإطلاع على أهمية العمل المنظم ضمن المجموعة، وساعد على إستلهاماتها الفنية أثناء لقاءاتها مع العديد من رواد الفن التشكيلي المغاربة والأجانب حيث اقامت خلال مسيرتها التشكيلية الكثير من المعارض الفنية الفردية والجماعية، مما جعلها ترتشف من العديد من المدارس الفنية والإتجاهات التشكيلية وتلك الثقافة الشعبية المغربية المزدانة بروائح عبق التراب المغربي.
وأغلب الظن عندي، فإن الأحداث التى مرت بالفن التشكيلي العالمي فى العصر الحديث ، ومن ضمنه الفن التشكيلي المغربي النسائي إن صح هذا التعبير، قد أدت الى ايجاد أفكار و مفاهيم واتجاهات فنية حديثة مرتبطة بالعلم و التكنولوجيا ،وبعوالم أليات الحاسوب وبرامجه المدمجة، مما هيأ لبروز تنوع هذه الأتجاهات الفنية الحديثة و تعدد مصادرها إلا أنها لم تقتصر على تمثيل العالم المرئى فقط ، و لكنها بحثت عن أفكار و نظريات فنية جديدة تتمشى مع روح العصر و مع ملامح تقدمه، ومن ضمن هذه الاتجاهات الفنية الحديثة الإتجاة الهندسى الذي ظهر منذ بداية القرن العشرين كأتجاه متميز بين المسالك التشكيلية الفنية المختلفة، والذي يبرز جليا في لوحة “مالك الحزين” للفنانة التشكيلية المغربية أمينة المهدي.
والحق، أن الفنانة التشكيلية المغربية أمينة المهدي، من خلال تجربتها ، تؤمن أن الفن التشكيلي يمتلك منطلقات ومفاهيم تختلف عن المفاهيم والمنطلقات العلمية والأدبية التي نجدها في المختبرات والمعاهد ومراكز العلم وفي الروايات والقصائد والمقالات الأدبية، والسير والأقاصيص والمقامات .
ومهما يكن فإن هذا الإتجاه التجريدي الهندسي الذي يكتنف بعض لوحات تجريد الفنانة أمينة المهدي، يستبعد الصور الظاهرية لأشكال الطبيعة ويعتمد على مفردات تشكيلية تستحضر الطبيعة ولكن عبر خلفيات هندسية تتمثل فى الخطوط و المساحات و تراتبية الألوان..
كما تقوم التجربة التجريدية للفنانة مهدي على إستثمار تكوينها العلمي في علوم الأرض، وإستعمال مجسمات الهندسة، وما يصاحبها من إستحداث لوحدات زخرفية هندسية تلقائية ومبتكرة ، تتيح الوصول الى صياغات تشكيلية متنوعة بأسلوب جديد من خلال الأدوات التى توفرها البرامج كما يساعدها على أنجاز الأعمال الفنية بدقة كبيرة ، حيث تبرز المفردة التشكيلية كعنصر أساسى تقوم عليه اللوحة من خلال خصائص ودلالات ذاتية تستوحيها الفنانة التشكيلية أمينة مهدي وتوظفها فى صياغات متعددة ، وتستخدمها فى التعبير عن أفكارها وعن أهدافها الفنية .
وعلى كل حال، فإن المتأمل في أعمال الفنانة أمينة المهدي،لايسعه إلا أن ينبهر من عمق ثقافتها الذوقية وإيمانها بقوة وتعبيرية هذه الألوان الصامتة الخجولة والمضيئة والواخزة أحيانا، والتي مكنتها من إضفاء مختلف قسمات الرونق اللوني ، في بساطة ممتعة وممتنعة، ولتظل اللوحات التجريدية للتشكيلية أمينة المهدي المنجزة بتقنيات الرسم الزيتي مثالا حيا يقدّم سينوغرافية القيم والشخوص وما يحيطها على نحوٍ جليّ، مما يضفي عليها نوعا من التشويق والكثير من خاصيّات التدرج الضّوئي ومراكمة الطبقات اللونيّة.