يظل الرقص من أقدم الفنون ، وأعمق مايمكن أن يصفه العلم بتفاعلات الجسد الحي مع الطبيعة،فهو موجز جميل لتاريخ بلاغة الحركات وروعة الأبدان في الكائنات الحية التي يعلو سلم ترتيبيها الإنسان.
والرقص أقدم من اللغة نفسها، وأذكى من التاريخ، وأصدق من أقوال الحكماء، وأقدر من الجغرافيا على رسم ملامح المسرات والتأوهات، بل الرقص أحيانا أعنف من المكائد والأعاصير والبراكين، وقد يكون أكثر دموية من الغزو نفسه والسطو على الممتلكات،وأرق نعومة من إبتسامة الرضيع ونظرة الأم الحنون، وأشد جاذبية من الأمطار والجواهر والأبطال وفنادق الخمسة نجوم ، وحكايات الجدات، لأنه ليس سوى الشعر في الحالة المتحركة والمجسدة، ينبث في الموسيقى ، ويسقى بأنغامها،وألحانها، ليعطي صياغة جديدة للأعضاء، صياغة أخرى، ترتفع بها عن مهامها المخصصة لها كأعضاء، لتصبح تكلات يانعة للحركات، تتماوج مع الضياء والأضواء والظلال ومختلف العناصر المؤثرة في الحياة.
وفن الرقص قديم قدم الإنسان نفسه حيث استطاع عبره تأمين حاجياته من مأكل ومأوى ووجد فيه المتعة والمتنفس لانفعالاته، والمعبر عن فهمه المتواضع لحالة ما، او حدث وقع له، انه المتعة الأولى التي يمارسها عمليا بوعي قاصر تطور مع مرور الزمن بتطور وسائله، وأصبح بأدواته الجديدة أكثر تعبيرا واكثر فاعلية في حياة الشعوب حتى وقتنا هذا، واذا كانت الطبيعة حوله تتحرك وتحرك معها الماء والرياح والأشجار والأعاصير والبروق وتضرم النيران وتخيف الحيوانات والإنسان، إلا أنها في النهاية مجرد حركات إيقاعية، فكان من الطبيعي أن يبتكر الإنسان حركته الإيقاعية لتعبر عن شعوره، لقد رقص تعبيرا عن الفرح وتعبيرا عن الطقوس، تحدث مع جماعته بالرقص ومع الحيوانات على مختلف أنواعها بالرقص، ومع آلهته بالرقص وصلى لها بالرقص وشكرها بالرقص.
في حين تؤكد البحوث العلمية على أن الرقص ينشط الذاكرة ويساعد الجسد في بناء عضلات متناسقة إضافة الى إسهامه في تعزيز الثقة بالنفس، إلى درجة قررت فيها بعض البلدان الإسكندنافية كالسويد وفلندا إدراج الرقص كمادة إجبارية في برامج المدارس الابتدائية والمتوسطة.
وأجمل الراقصين والراقصات ، نحلات العسل، و”سالومي” وهي تقدم للحاكم رأس النبي يحي المعمدان، أو على الأقل كما هي في لوحات التشكيليين النهضاويين، مثل “رافائيل” و”دافنشي” و”بليني” و”كرافادجيـــو” وذكر الحمام في حالة الهيام بأنثاه، والشعب المغربي إذ يفرح بالملاحم والإنتصارات،من الكروية حتى التاريخية ، ومدراء الدواوين، والقمر إذ يتسلل من بين ثقوب السحاب الخفيف الشفيف،والفائزين في اليانصيب، والفنانة نبيلة عبيد في فيلم الراقصة والطبال ، أمام الممثل الراحل أحمد زكي، والمبدعة المغربية “حكيما” العروسي، والفنانة المتميزة فامة الزهراء العمراني،والجدة عندما تستقبل أول حفيد لها،وهدافي الدوريات الكروية في العالم، وراقصات الباليه في أوج الإندماج التعبيري، وقرود ساحة جامع الفنا،وطيور الكركي على صفحات مياه البحيرات الشمالية،،والموظف الساعي إلى قلب المدير، والمايسترو شيخ أحيدوس، الفقيد موحا أشيبان يرحمه الله في إستعراضات أحيدوس، وزملائه في الفنون الشعبية كراقصي “أڭـلڭــال”، ومحمد القرطاوي رائد رقصة الركبة، ومدربي المنتخبات الكروية أمام شباك الخصوم ، ورقصات السياسيين وقت المواسم الإنتخابية،و”تشينويت” رائدة الأغنية الأمازيغية، والنجمة “سامية جمال” والمعلمة “نجوى فؤاد” بأرض الكنانة وعلى مسارح وأفلام القاهرة، والملكـ مايكل جاكسون ذو الرقصة الفريدة و السحرية، والولد الناجح ، و”التسونامي” وأخريات بدينات يعصفن حاليا بالأجساد قبل العقول والقلوب.
ومن أكثر أنواع الرقص إحالة على الدموية رقصة “عيشة الكونـــتيســـــا” التي نسميها بالمغربية الفصيحة “قنديشة”، وإن كانت فتاة جميلة حسناء، وسليلة أسرة نبيلة،ولكن الحكاية الشعبية، تؤكد أنها كانت تغوي العابرين والغزاة من جحافل البرتغاليين بـ”مازڭــان”،خلال القرن الوسيط ، وتستدرجهم من حصونهم المستوطنة على سواحل عبدة ودكالة نحو حتفهم، طبعا قبل أن تتحول حكاية “عيشة” الحسناء الجميلة إلى حكاية مخيفة،مرعبة،وخيال جامح جعل لها قوائم بقرة وقرني معزة، ورقصة العنكبوت الأرملة، أو بالأحرى، رقصة الثأر عند الهنود الحمر.
ويدخل في سياق الرقص ، ترقيص مراسلي الصحف على الإيقاع الجشع لبعض رؤساء التحرير،ومدلليهم في المراكز الرئيسية للجرائد، ممن هم وهن محسوبات على مهنة المتاعب دون علم من النقابة الوطنية للصحافة المغربية، ولا حتى من زملائهم وزميلاتهم ممن يكدون طول النهار وأناء الليل، ثم رقصة ذكر النحل قبيل فراقه القاتل لملكة الخلية، والتهديد بالترقيص في المحاكم ومصالح الضرائب، ومخافر الشرطة، والرقص مع بعض الكلاب والثعابين. وإذا كان الرقص في عمومه إستجابة لرغبة داخلية، وتفاعل قوي وباطني، يتوافق مع عوامل خارجية تشتعل مع النغم،ويحدوها الإيقاع واللحن، فإن الترقيص يتم بإستثارة خارجية، وبدون رغبة من الراقص أو الراقصة.
أما الكثير الرقص، فهو الرقاص، كالعقارب الموجودة في الساعة، والتي يسميها المغاربة بالرقاص تفننا وبلاغة، إذ ليس بينها وبين العقارب ،سوى الخير والإحسان، لتسارع إيقاعاتها الراقصة،في ضبط الزمن، وإن كان البعض يلاحظون تباطئها بعد الخامسة مساء في كل شهر رمضان من فصول الصيف،خصوصا عندما يتوازى شهر الصيام المباركـ مع شهر غشت الساخن،
كما أن الرقاص إسم إختص به ساعي البريد في مغرب السلاطين خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ربما لأنه كان له مدار بين القبائل والمدن يعتاد على المرور منه ، ولايخرج عنه مثل رقاص الساعة،كما يطلق الرقاص على حامل رسائل العاشق الولهان إلى ملكة الأحلام ، كما “رقاص” عويشة في حكايات حراز “عويشة” ومسرحية المبدع الفقيد الطيب الصديقي، والساعي بالوشاية بين الناس،والحملة الصغار لفناجين القهوة والمشروبات والسندويتشات من المقاهي إلى المكاتب والمصالح المجاورة، وكتبة الشكايات المُغرضة والطلبات أمام مقرات البريد المركزي، والمشعوذين والمتاجرين في الشعارات.
ورغم أن أغلب الشرائح في المجتمعات العربية لاتزال تتحفظ في وعيها الجمعي اللاشعوري عن الرقص،لكونه حركات الجسد المنلق نحو إشراقات التحرر ورفض القيود، فإن الرقص رغم ذلكــ يظل المحظور المرغوب فيه، عند الكثير من الناس خصوصا، الشبان والشابات، ممن يتابعن بشغف فنون الراقصات والراقصين على خشبات المسارح والأندية وفي المهرجانات والإحتفالات.
وعلى خلاف الرقص الشرقي، الذي يعتمد على الحركة المتسارعة، والإلتواءات الضامرة، فإن الرقص المغربي بمختلف تلاوينه الأندلسية والعروبية والأمازيغية والحسانية والعبرية،يتدرج من الحركات الهادئة التي يستحوذ عليها الايقاع والنغمة المسترسلة على الاجساد إلى “الجدبة” التي تكشفها آواخر الكثير من مقطوعات “العيطة” بكل أنواعها، وبعض أنماط الفلكلور المغربي الأمازيغي، كرقصة الركبة المنحدرة من واحات زاڭــورة، ورقصة”إڭــلڭــال”.
وعندما نعود بذاكرة التاريخ الى الماضي البعيد وبالتحديد قبل الميلاد بألف عام، حيث كانت تسود وقتئذ عقائد وثنية متعددة في وادي النيل وبلاد الرافدين، وبدا من نقوش قدماء المصريين، ونقوش الاشوريين على جدران معابدهم، ان نوعا من الرقص كان يمارس ضمن الشعائر الدينية يشبه الى حد بعيد الرقص الشرقي في عصرنا هذا.
حيث كان الناس حينذاك يتقدمون الى الآلهة بأفضل ما لديهم للتقرب والتكفير عن الخطايا، وكانت الآلهة في طبيعتها رموزا لمواطن القوة والغنى والخصب والنماء في الطبيعة المحيطة بالانسان، وكانت هذه الالهة تختص في معتقد أتباعها بعناصر الخصوبة والنماء وحيث كانت وظيفة الخصوبة ترتبط رمزيا بالأنثى، فقد بدا من الطبيعي تقديم فتاة عذراء لتصير في خدمة الآلهة للتقرب إليها. كانت تقدم نوعا من الرقص في المناسبات والأعياد والشعائر الخاصة كطقس من طقوس العبادة والتقرب، وكان هذا النوع من الرقص يبرز الجزء الأدنى من البطن أو “الرحم” باعتباره مصدرا للخصوبة التي تمنحها الآلهة وهذه الصورة ظلت تقليدية لعدة عقود، وهي صورة الراقصة الآن التي تستأجر في حفلات الأعراس، وما تقوم به من حركات تشبه – حين نعود بذاكرتنا – رقص كاهنات عشتار وحاتور. بعد انكماش رقعة الوثنية في بلدان العالم الإسلامي، بفعل الفتوحات الإسلامية،انتقل الرقص من طقوس المعابد، الى حانات اللهو وصار طقسا من طقوس المتعة التي تقدم للعادي والبادي.
ولعل أشهر من قدم الرقص هم الغجر أو “الخيتانوس” الذين سرت هجراتهم عبر القرون الوسطى من الهند وفارس عابرة الشام ووادي النيل الى جنوب اوروبا وشمال افريقيا والاندلس القديمة، وهم أقوام يستمسكون بعادات وتقاليد خاصة لا يميزهم دين ولا تجمعهم امة، درجوا عبر الأزمنة على التجارة، واحترف كثير من نسائهم الرقص وتقديم المتعة للجنود والتجار والمرتحلين، وسمين في مراكش بــ ”الشاميـــات” حيث كن يتواجدن بمقاهي درب ضباشي وحي القنارية وروض الزيتون القديم.
وكانت هؤلاء الشاميات يتميزن عن الغجريات الأخريات بوفرة إطلاعهن على فنون الموسيقى والتمييز بين الألحان، وضروب الحركات الراقصة، بل منهن من كن يتقن العزف على العود ،والآلات الموسيقية الأخرى، وكانت هؤلاء الشاميات يرتدين جلابيب طويلة مُسبلة، مثل حوريات البحار، أو سيدات المرجان والمحار، ولا يزدن عليها إلا قطعة من القماش أو الحرير، يربِطنها حول خصورهن المتماوجة والخلابة .
ولعل أشهر من قدم الرقص هم الغجر أو “الخيتانوس” الذين سرت هجراتهم عبر القرون الوسطى من الهند وفارس عابرة الشام ووادي النيل الى جنوب اوروبا وشمال افريقيا والاندلس القديمة
وتحضرني حادثة في هذا الصدد، إذ بعد الربيع العربي الذي عصف بالكثير من الأنظمة العربية الديكتاتورية والعسكرية، وصعود التيارات الإسلاموية في أكثر من بلد عربي، فقد قـــالوا ذات مرة لفنانة راقصة وممثلة مصرية : أن ”الإخوان المسلمين” هم من أمسكـوا بالحكم في مصر.
فـــقالت: “ومالو نمثّل معهم ونرقص “.قالو لها: “كيف يكون ذلكــ ؟”قالت الراقصة : “أكيد أنهم سينتجون مسلسلات دينية،وسيحتاجون لمن يمثل دور الكُفـار”.