“كورونا” تعيد وهج النوافذ و الشرفات المغربية، وتحولها لمنصات تعبير عن الوطنية والإنتماء

مـحـمـد الــقـنـور  :

اليوم وفي ظل الحظر الصحي الذي يعيشه المغرب كما مختلف دول العالم، أعاد المغاربة اكتشاف النوافذ عموماوالشرفات خصوصا كمتنفس بديل عن الخروج من المنزل، وكمساحة اجتماعية للتواصل، وكفسحة لتعزيز الاحساس بالانتماء الوطني بين أفراد المجتمع.

وتنوعت النوافذ والشرفات في المعمار المغربي، من “النبــــح” إلى ” لبهو” وصولا إلى المدوز – بفتح الميم وتسكين الدال – وهو الممر الرابط بين الغرف العلوية في الدار المغربية، كما سمى المغاربة الشرفات الضخمة والشاسعة بــ “المنزه”، ولعل أشهر الشرفات المغربية ، تلك التي لاتزال تزدان بها المدارس العريقة والرياض الفسيحة والقصور الفخمة حيث كان يشرف السلاطين والملوك على المنتظرين لطلعتهم وطلتهم من أجل البيعة والتبريك، ثم الشرفات في القلاع والدشور والتلاع والصقالات المترامية على حد البصر في السهول المغربية مابين مرافئ المحيط وأبواب الصحراء.

هذا، وصممت الشرفات في المعمار المغربي منذ العصور القديمة لتأسر الإنسان وتلهمه، حيث شكلت الشرفات بالمنازل المغربية عنصرا أساسيا في الهندسة المعمارية الوطنية منذ آلاف السنين، وتطورت أدوارها للتكيف مع الثقافات والعادات المحلية، ومع التعدد الثقافي الذي طبع الحضارة المغربية على مر القرون، كما إرتبطت الشرفات في اللغة العربية بمصدر الإستشراف، وما يشتق عنه من فعل ومن صفة ونعوت،وإن كانت الشرفات المغربية تختلف عن باقي الشرفات في العالم شكلا ومضمونا، إذ عادة ما كانت تغطى هذه الشرفات المغربية بالدرابيز الخشبية المصنوعة على نمط الأرابيسك العربي التي تكشف مهارة وإبداع الصانع التقليدي المغربي .

كما إرتبطت الشرفات في المغرب بالحاضر، كشرفة مجلس النواب بالرباط ، وشرفة قصر بلدية مراكش المعلنة لوحدة الدول المغاربية، كما كانت الشرفات ولاتزال تدل على رمزية الوثوق في المستقبل،وعلى الآني المنتظر، حتى أن  المغاربة أطلقوا على العجوز الكهل” عبارة “الشارف” من الشرفة، لكونه يشرف على الموت، وإن كان كم من يافع وشاب قد ضمته ظلمة القبور، في حين طالت أعمار “الشارفين” إلى حين من الدهر، ذلكــ ، لأن الأعمار بيد الله.

وتحظى شرفة قبة المنارة،التي أسسها السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله، والمطلة على صهريجها التاريخي الذي يعود لعهد الموحدين،بالكثير من الرفاهية والآصالة والتميز، فهي ملموسة حضاريا ولاتزال مستعملة وشهيرة ،حتى أكثر من شرفة قصر في فيرونا الإيطالية والخيالية التي أطلت منها “جولييت” على حبيبها “روميو” في مسرحية الكاتب الإنجليزي الشهير وليام شكسبير، وأشد دلالة على عمق حضارة المغرب، بشكل أشهر من شرفة “كيب تاون” التي لوح منها الراحل نيلسون مانديلا للجماهير واعدا بفصل جديد يقطع مع العنصرية و”الأبارتايد” في تاريخ جنوب إفريقيا.

إلى ذلكــ ، فقد عاد للشرفات المغربية في المنازل والشقق مراكش وفي فاس والدار البيضاء والرباط والعيون ووجدة وطنجة والداخلة أهميتها من جديد خلال زمن جائحة كورونا كوفيد 19، فمنذ الإعلان عن الحظر الصحي وإعمال قانون الطوارئ والتدابير الإحترازية ضد الوباء، وإغلاق كل المطارات والموانئ والمنافد البرية في المغرب، تفاديا لإنتشار الفيروس، أعاد  المغاربة اكتشاف ما للشرفات من أهمية كحلقة وصل فسيحة الرؤية نحو العالم الخارجي ومصدر أمل واتصال في وقت العزلة الصحية، ولجأ المئات من المغاربة إلى الشرفات  للترنم بالنشيد الوطني في منبث “الأحرار ومشرق الأنوار” الذي ليس سوى المغرب بتفرده المشهود له عالميا في تدبير الجائحة.

يرجع تاريخ الشرفات في المغرب إلى ماقبل الفتوح الإسلامية، حيث تفيد الكثير من الدراسات المحلية والأجنبية ، أن المغاربة القدماء أسسوا حواجز متدلية لزيادة الضوء الطبيعي في المنازل وقصد التهوية ومن أجل تظليل الشوارع والأسواق من الشمس الحارقة، في سجلماسة واللوكوس وسلا وزرهون وغيرها من المدن المغربية القديمة ، التي كانت مأهولة ونشيطة قبل فاس ومراكش .

ومع تطور الشرفات في المغرب الحديث، أصبحت تصميماتها أكثر تفصيلاً، فابتداءً من بداية القرن المنصرم، تم بناء شرفات مشربية مغلقة بتصاميم شبكية مزخرفة بالنقوش الجصية والخشبية في معظم مدن المغرب، للسماح للمقيمين بالاستمتاع بالفسحة مع الالتزام بقوانين الخصوصية المغربية الإسلامية وما تقتضيه من تكريس للحشمة وإبتعاد عن التلصص وإستراق النظر على الخصوصيات، حيث زودت الشرفات بحواف الدرابز الخشبية والحديدية وحتى النحاسية والزجاجية في العديد من المباني السياحية والثقافية بمختلف جهات المملكة.

واشتهرت مدينتي مراكش وفاس فضلا عن الرباط وسلا ومكناس على وجه الخصوص بشرفاتها الخشبية المغلقة العديدة، حيث بحث المهندسون المعماريون عن طرق لتوفير الوصول إلى الهواء النقي، مع الحفاظ على حرمات أصحاب البيوت من نظرات المارة بالأزقة والباعة من التجار حول الدكاكين، قبل أن يعرف المغرب موجات الحداثة المتسارعة لتصبح الشرفات خلالها رمزاً لنمط الحياة الحضري الحديث، ولتتحول إلى ملهمة للعديد من الكتاب والشعراء والفنانين.

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.