متحف العطور بحي ديور الصابون في مراكش ‏ بين وهج الروائح و رحيق التراث

محـمــد الـقـنـور :‏
‏ ‏
يشكل متحف العطور الموجودة في مراكش 2 درب الشريف، بحي ديور الصابون، مراكش المدينة فضاء ثقافيا ‏مخصصا للفن والتاريخ المتعلق بالعطور في المغرب حيث يعمد المشرفين عليه إلى عرض مختلف أدوات وأليات ‏تقطير عبق الأزهار من خلال استخراج النباتية والزيوت العطرية قصد تقديم باقات من العطور التي تختزل عبق ‏روائح مسارات وإحتفاليات وتراث الوطن وفرصة لاكتشاف ثروة حاسة الشم المنطلقة من مدينة مراكش .‏
‏ ويقدم متحف العطور بمدينة مراكش مجموعة من النباتات الطبية والعطرية وطرق استخداماتها التقليدية والحديثة ‏المختلفة بشكل يكتنفه فن التصميم المغربي للقارورات والأكياس العطرية ، بالإضافة إلى وصفات علاجات للجسم ‏وطرق متباينة لإمتلاكــ العافية وفن العيش ، تنفتح عن جمهور عريض من ساكنة المدينة وزوارها من المغاربة ‏والسياح الأجانب لاكتشاف العالم عبر إستعمال كل الحواس من شم وبصر ولمس غيرها ، ومن خلال صناعة ‏العطور المنطلقة من مجموعة من المكونات النادرة الطبيعية.‏
كما يشتمل المتحف على “ورشة صناعة العطور” التي تعمل على صناعة العطر المخصص للزوار، مما يجعل لكل ‏شخص عطره الإستثنائي ببصمته الخاصة، كتوقيع إستشرافي يطبع كينونته .‏


في ذات السياق، يؤكد عبد الرزاق بنشعبان، مدير المتحف، والخبير في صناعة العطور ‏‎ Ethnobotanist‏ لــ ‏‏”هاسبريس” أن مبادرة إنشاء متحف العطور في مراكش وفي قلب المدينة القديمة برياض يعود لفترة القرن التاسع ‏عشر، يشكل إستعادة لنوع من الثقافة المغربية الصناعية ، و إستحضار لقواعدها وطقوسها ولمكانة العطور والبخور ‏والروائح العبقة في فن العيش المغربي، حيث يتوفر المتحف يضيف بنشعبان على حديقة معلقة كخزانة للنباتات ‏الطبية والعطرية تعطي لمحة عامة عن ثقافة استخدام النباتات المغربية في فن العطور.‏
في ذات السياق، يؤكد بنشعبان على أهمية إنفتاح المتحف على الناشئة من المتعلمين وملامح البيئة المدرسية، التي ‏تسعى إلى تعليم الأجيال ثقافة إستكناه العبق والروائح العطرة وتذوق ملامح التراث العطري للمملكة ، مشيرا إلى ‏أن المواد الأروماتية ذات المنشأ الطبيعي سبقت مــن الناحية التاريخية إلي المعرفة الوطنية والعالمية قبل المواد ‏العطرية ذات المنشأ الكيميائي الصناعي .‏
‏ هذا، وقد شكل تواجد العطور ونكهات الشم في الثقافة المغربية حيزا مهما ترجمته تفاصيل التاريخ، ومظاهر ‏الفلكلور ومراسيم الإحتفالات، ومما جعل صناعة العطور وخلطات البخور والحلويات والوجبات المطبخية،تأخذ ‏حيزا كبيرا في المعيش اليومي للمغارب، عبر مختلف الحقب التاريخية ، سواء على مستوى تقطيرها الطبيعي ، أو ‏على مستوى أهمية وجود المواد الكيميائية العطرية من كل الأنواع وبشكل خاص تلك المستخدمة في العطور و ‏الخلاصات الأروماتية ، مع مراعاة مدى ثباتها و عمق قوتها .‏
كما سعى العطارون المغاربة منذ القرون السالفة على خلط العديد من المواد الأروماتية من عود الصندل والحبق ‏والورود المغربية الأصيلة والخزامى والعنبر والرانانج وغيرها بهدف الحصول على روائح عطرية أكثر فرادة و ‏بهجة عند شمها ، مما حولها إلى مركبات مغربية تحظى بخصوصيات عالمية ،وتشكل منافسة متواجدة للعطور ‏الباريسية نفسها، إذ كانت صناعة العطور لدى المغاربة منذ القدم تعتبر من التقنيات العلمية والمخبرية، وترتبط ‏بالفنون المغربية القديمة المتعلقة بصناعة العطور.‏


‏ ويعود أصل و منشأ كلمة العطور ‏Perfumes‏ الإنجليزية إلى الأصل اللاتيني ‏Per fumes‏ بمعنى الدخان ‏المنبعث، مما يؤكد أن هذه العبارة، ترتبط بحرق بعض المواد المُعَطرة بهدف الحصول على روائحها الذكية من ‏خلال الدخان المتصاعد منها لأهداف ومعاني عاطفية وصوفية وجمالية وكمَلمَحٍ أصيلٍ من ملامح فنون العيش ‏المغربي.‏
‏ ومهما يكن فإن إستعمال العطور في الثقافات العريقة لدى الشعوب الأخرى، يظل اتجاها موغلا في القدم ، إذ يرجع ‏إستعمال العطر بمعناه المتداول إلي الفترة ما بين القرن السابع إلي القرن الحادي عشر قبل الميلاد في بلاد الصين، ‏وإن كان العديد من الباحثين يربطونه بفترة أقدم تعود إلى فترات الحضارة الهندية والفرعونية، وجارة الفنيقيين ‏وإزدهار أثينا وروما، في حين يؤكد آخرون على وجود أدلة تُفيد استخدام العطور منذ فترات موغلة في القدم ، ‏إعتمادا على بعض الرسومات التي رسمت بالألوان في بعض الكهوف القديمة و التي أكتشفها ‏Henery Lhote‏ في ‏عام 1963 م عند استكشاف بعض المناطق بجبل تيسيلي في شمال إفريقيا، حيث تُظهر الرسومات داخل هذه ‏الكهوف صورة امرأة تتحلى بباقة كبيرة من الزهور المعروفة بالمغرب والشمال الإفريقي من ذوات الرائحة الزكية، ‏حيث كان قدماء الأفارقة الشماليون يستحضرون العطور من خلال غلي النباتات الأروماتية في الماء ، أو بنقعها في ‏الزيت، وإن كانت الطريقة السابقة تعطي كميات من العطر أكثر من طريقة الماء المغلي ، حيث أن الزيت الجوهري ‏يتطاير مع بخار الماء . ‏
والحقيقة أن طريقة التقطير كانت قد توقفت خلال عصور تاريخية ، كما فُــقدت المعلومات الخاصة بها ، حيث مرت ‏أكثر من أربعة قرون قبل أن يقوم العالم أبن سينا بأحياء طريقة التقطير البخاري للحصول على المكونات العطرية ‏الزكية في عام 1150 م ، ثم تبعها أتساع نطاق العملية للمواد المحتوية على الكحول بهدف تركيزه من المحاليل ‏المحتوية عليه مثل العنب والليمون والحامض و غيره من الفواكه الغنية بالسكر . ‏
ولقد كان هذا الاختراع المنبثق من غلي المواد العطرية النباتية لدى المغاربة ذا أهمية كبرى في تطور صناعة ‏العطور ، غير أن سنة 1370 ميلادية شهدت مولد الحصول على الكحول الذي أستخدم كمادة مذيبة، في حين ‏إستمر تقطير الزيوت الجوهرية في فرنسا خصوصا ومجموعة من الدول الغربية على غرار النمسا وروسيا ‏القيصرية منذ القرن السادس عشر والتي كانت تستخدم في الأغراض الصناعية . ‏
ولقد كانت عملية تقطير الزيوت العطرية من أهم الخطوات التي أمكن عن طريقها الحصول على المكونات العطرية ‏من مصادر طبيعية وبشكل مركز، مما مكنها في تصير الوسيلة المتاحة للاستعمال في العطور.‏


وعلى كل حال، فلم يتطور استخدام الكحول كمادة مذيبة إلا في عام 1450 م ، وهو ماتوضحه الكتابات التي كان ‏يكتبها أحد الكيميائيين باسم مستعار حيث كان يوقع ببازيل فالانتاين ‏Basil Valentine‏ ، تيمنا بالقديس شفيع ‏العشاق في الثقافة المسيحية الغربية . ‏
وسواء أكان الصينيون أو الأفارقة الشماليون هم أول من حضر العطور أم غيرهم ، فإن الثابت يقيناً أن شعوب شمال ‏إفريقيا من الأمازيغ وكذا قدماء المصريين بفعل عامل المثاقفة ‏La culturation‏ كانوا أول من حضر الزيوت ‏العطرية الجوهرية بسحق وعصر البذور و الثمار مع استخدام الزيوت الباردة أو الساخنة في عملية الاستخلاص ‏،قبل أن تنتقل هذه المنتوجات إلى شبه الجزيرة العربية وأروبا الشمالية وإفريقيا ، والقائمة على تحويل جزء من ‏المكونات العطرية إلي زيوت لاستخدامها في أغراض دينية أو غيرها من الاغراض العلاجية والترفيهية والجمالية ‏‏.‏
ومع الحصول على المركزات و الخلاصات العطرية الحديثة ، تطورت المبادئ الأساسية للمواد العطرية الزكية في ‏مطلع القرن التاسع عشر، وهو ما نتج عن خلق مواد راتنجية فواحة وعالية الجودة ، ساهمت في تعميقها مستجدات ‏الثورة الصناعية، وتطور علوم الكيمياء ، وتقنيات التنقية للمواد الخام . ‏
وكان لإدخال الكيماويات العطرة في صناعة العطور نتيجة مباشرة لتطور الدراسات و التحسن المتزايد في المعرفة ‏الكيميائية ، بالإضافة إلي تطور التقنيات في كل من الكيمياء التحليلية و التركيبية ، حيث أصبح من الممكن عزل ‏بعض المكونات الفردية و التعرف على المصادر الطبيعية للرائحة ، و تحضير المواد الموازية و المكافئة لها ‏صناعياً ،و تخليق المواد الكيميائية التي ظلت إلى عهد قريب غير معروفة في الطبيعة.‏
‏ ولقد كان “النيتروبنزين” أول مادة كيميائية أمكن استخدامها في مجال العطور والتي تتميز برائحة الليمون المر ، ‏و التي لم تكن معروفة في الطبيعة، إذ تم إكتشاف هذه المادة في عام 1834 م ، والتي استخدمت كعامل تلطيف ‏للعطور ذات الروائح الغير مقبولة ، أكثر من كونها مادة مستخدمة في مجال العطور، ونظراً لسمية هذه المادة و ‏احتمال سريانها إلي الدم من خلال الجلد ، وخوفا من تأثيراتها الضارة تم منع استعمال “النيتروبنزين” في مجال ‏العطور، وتعويضها بمادة “البنزالدهيد” ‏Benzaldehyde ‎‏ ذات التركيبة الكيماوية ‏C6H5CHO‏ ، كمركّبٍ ‏عضوي يتكون من حلقة بنزين ومجموعة فورميل معوضة، وهو أبسط المكونات أو ما يعرف بـ”الألديهيدات” ‏العطرية وأكثرها فائدة في المجالات الصناعية ، وكمادة كيميائية مأمونة الاستخدام ، قريبة من رائحة الليمون بشكل ‏أقوى و أفضل .‏
وعبر مسارات التطور الكيميائي والتصنيعي للعطور، فقد تم إستنباط العديد من المواد الكيميائية العضوية العطرية ‏خلال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر . مثل الكومارين و الخزامى و الهليوتروبين و التربينول . ‏
و شهد عام 1888 ميلادية مولد إنتاج المسك الصناعي المعروف بــ ‏Busc Baur‏ تخليداً لذكرى مكتشف أول مادة ‏كيميائية أروماتيكية غير معروفة في الطبيعة ، تقترب من رائحة مسك الغزال، حيث استخدمت ضمن مكونات ‏العطور ، ثم تبعها بعد ذلكـ عدد أخر من المواد الكيميائية الأروماتية مثل “ميثيل أيونون” ، و”أيزو أميل ‏ساليسيلات” ، و”هيدروكسي سيترونيلا” ، و العديد من منتجات الأسيتال .‏
‏ وتجدر الإشارة إلي أن روائح هذه المجموعة من المواد الكيمائية لم توجد من قبل في الطبيعة، مما سمح بظهور ‏الكيماويات العطرية الجديدة ، والأنواع الممتازة من العطور التي لم تكن معروفة من قبل ، فتوفرت بالأسواق في ‏نهاية الحرب العالمية الأولى .‏
ومع ذلك، فقد استخدمت هذه المواد الكيميائية سواءا بمفردها ، أو بعد خلطها مع مواد عطرية ذات مصدر طبيعي ، ‏كما أتسع نطاق استعمالها بغرض تقليد العطور الطبيعية الممتازة والتي تستخلص من الأزهار والتوابل والأعشاب ‏والفواكه والرياحين ، فتتعددت مجالات استخدامها وطرائق إنتشارها وإشهارها.‏


وعلى هذا النحو، فإن المغاربة من الشعوب المتعطرة على المستوى العالمي والتاريخي، وممن يميلون إلى عشق ‏العطور، منذ المولى إدريس الأول 127 هـ/ 743م – 177هـ/793م ، والذي دفع حياته كثمن لإستكناه رائحة ‏قارورة عطر، فيما يتداوله الرواة ، وبعض المؤرخين قدمها له الجاسوس العباسي سليمان بن جرير الشماخ ، وعلى ‏هذا النحو كذلكــ ، فقد كانت العطور الغازية تحضر عن طريق البخور، والسائلة عن طريق المستحضرات ‏المقطرة، في كل المناسبات الدينية والإحتفالات العائلية والجماعية، ومختلف المواسم الفلاحية والطقوس الصوفية، ‏وقد دفعت عجلة التطور في مجال ابتكار مواد كيميائية عطرية جديدة العديد من الخبراء المغاربة في هذا المجال، ‏إلى إستحضار عطور في متناول الجميع من فئات الزبناء، قصد تقليص ارتفاع أسعار العطور الباريسية ، وتماشيا ‏مع آفاق تصنيع العطور وتسويقها على نطاق عالمي بات يستلزم توفر كميات هائلة من المواد العطرية تقدر ‏بالأطنان .‏
وبطبيعة الحال، فإن إنتاج المواد الكيميائية يعتمد على الجهات الموردة للمواد الكيميائية ، و على حجم الرصيد ‏المُخَزّن المطلوب،كما هو الحال في الكيماويات التربينية التي تعتمد على موردي المواد التربينية ، و المنتجات ‏الثانوية الناتجة عن تصنيع لب الخشب ، و التي تستلزم الاحتياج لكميات كبيرة من الخشب .‏
‏ والحقيقة أن اعتماد صناعة العطور لدى المغاربة من الخبراء المعاصرين بات يقوم على مدى أهمية التسويق ‏السائدة، وتكييف الأثمنة مع القدرة الشرائية العامة، وعلى نجاعة وقوة الصبغة الأروماتيكية للعطر، سواء على ‏مستوى سمته الطبيعية أو مناحيه التخليقية، وبالنظر إلى جـودة الرائحة التي يرتكز عليها العطر كله ، وقوة وسلامة ‏وإنسجام التركيب الكيميائـــي، ومدى توافـق المواد الكيميائية الأساسية ، ودرجة أمان مكوناتها وتكلفة العطر ‏النهائية حيث تعتبر هذه المتغيرات ذات أهمية كبيرة فيما يختص ‏ بالمواد الأروماتيكية ذات المصدر الطبيعي ‏بالإضافة إلى توافق كل المواد المستخدمة كمكونات للعطور ، مع خصائصها ومواصفاتها ورائحتها ، مما يضمن ‏المحافظة على سمعة العطر في الأسواق التجارية ولدى المستهلكين والمستهلكات له. ‏

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.