انتظر نبيل إبراهيم بشوق دافق حلول الواحد و العشرين من شهر مارس، لقضاء عطلة بينية مؤجلة طالما تمناها بمنتجع اوريكا. كانت حقيبة ملابسه مُهيأة مسبقا، بما فيها عطره الشامي الأثير لديه، وأدوات حلاقة ذقنه، وفرشاة معجون أسنانه، وقصائد مختارة لشارل بودلير وكتاب النبي لجبران خليل جبران، ومعطفه من الصوف الناعم، عملا بنصيحة صديقه تاجر التحف الذي أيقظ انتباهه، أن أجواء الربيع في الجبل يتقلب طقسُها على حين غرة.
استيقظ باكرا،لاشيءَ يشغل باله سوى رحلة الجبل. ارتدى سرواله الجينز ذي الخدوش السطحية، وقميصا أزرق اللون لايزال يُذكره بسنوات باريس في جامعة السوربون. وقف أمام مرآة جدارية، زُيِّنت بالخزر والصدف، متعرشا كأنه أخيل يستعد لطروادة جديدة، وقبل أن يغادر شقته. تفحص بفضول زواياها التي توارت في عمقها بقع دقيقة سوداء، كأنه يريد أن يتحرر من عبء الأيام الفارطة، وخواطر الليالي. تساءل وهو يتأمل مظهره، تُرى،هل الإحساس بالزمن هو الذي يغير من شكل الإنسان…؟ أم فقط المظاهر الخارجية ما توهم بذلك…؟ ولم لا يكونان معا…؟ ترك تساؤلاته العابرة جانبا، إذ طالما استفزته تساؤلات لاتعنيه، الآن. توجه إلى مرآب سيارته العسلية، ذات الموديل الكلاسيكي العريق، وضع حقيبة ملابسه في صندوقها أوصده، فأحكم إغلاقه. أزال برفق ماعلق بهيكل السيارة من ذرات نقع تائهة، هاجم ذاكرته بيت بشار،”كأن مثار النقع فوق رؤوسنا”، هذه المرة،النقع فوق السيارة، مسح لوحة القيادة بإسفنجة ناعمة،بدت أرقامُها جذابة لامعة، انعكست عليها ظلال الأشياء المتوارية في المرآب، والمتمددة في حذر شديد على أديم واجهتها الزجاجية، يا للروعة، بدت السيارة كيخت ثري باذخ، يمخر عباب البحر، يعانق الجزر والمرافئ، إذ تتربع فوق أعمدته تلك النوارس الرشيقة، يا لها من كائنات المسافرة الفضولية. تأمل سيارته من جديد، اعترته دفقة إشراقات غير مألوفة لديه. أخد يرقص ويدندن كطفل تغمره سعادة الإحتفال بشموع عيد ميلاده وفرحة هداياه.تيقن من تاريخ صلاحية وثائق السيارة، شهادة الفحص التقني. جذب المقبض الآلي لمقعد السائق قليلا إلى الوراء، عدل من وضع المرآة العاكسة،”لا نساء تصعد لسيارته، حتى يتغير وضع هذه المرآة”، أومأ برأسه نحو المرآة، أحكم حزام الأمان، رمق ساعة معصمه، مماثلة لتوقيت ساعة لوحة القيادة، الساعة في تمام الثامنة صباحا. كانت له رغبة جامحة أن يصل إلى منتجع اوريكا قبل غروب الشمس، وتحسبا لأي طارئ. ضغط برفق على دواسة البنزين، أدار زر الراديو، حرك إبرته على عدة محطات إذاعية،باحثا عن ألحان موسيقى هادئة، صدح صوت جهوري “صباح الخير مستمعينا الكرام ومستمعاتنا الكريمات، هنا إذاعة مراكش الجهوية”. ثم انبعثت أنغام حالمة صامتة دافئة تنساب من الراديو مثل قطرات الندى وأحلام العذارى في أعياد مواسم الحصاد. وعبر الطريق، كانت إشارات تحديد السرعة تنتصب مثل تماثيل فرعونية شامخة تؤثث المسافات وتحدد قوانين الطريق نحو الجبل، من اڭادير إلى منتجع اوريكا مرورا بمراكش، ظلت إيقاعات سرعتها تتواثر بذهنه في تناغم مُسترسل ناعم مع انسيابية محرك السيارة. زاغت نظرة خاطفة من عينيه، استقرت على المقعد المجاور له، ارتعشت فرائصه، من لعنة الوحدة، انتبه أن بوادر شيب غزا ناصيته ومقدمة شاربه، “يا ألله، لاشيء يبقى ويدوم، تذكر أغنية عبد الهادي بلخياط، بالفعل، هو قطار الحياة، الشباب سيذهب ويزول، هاله الأمر، إسترجع قليلا من مسلسل الظروف القاسية التي مرت عليه، كانت لا تزال مطبوعة في ذاكرته مثل وشم أمازيغي غائر. نظر إلى المقعد الفارغ من جديد، تساءل بمرارة، ماذا سيبقى لرجل فى نهاية عقده الخامس…؟ تنهد من أعماقه : العمر لا يتكرر مرتين، والزمن لايعود إلى الوراء، بل يتقدم، بلا هوادة ولا رحمة،لم يستطع أن يرقأ دمعتين انسابتا من عينيه. استحضر في ذهنه الحكمة اليونانية في كون “الطبيعة لا تقبل الفراغ”، انتشلته من خواطره المكتومة، أسراب السنونوات وأمواج من الخطاطيف، جميلة هي تلكـ الطيور المسكونة بالسفر والمفتونة بالهجرة، كانت تحلق وراء قوافل من غيوم غير ممطرة تركض في الآفاق، كأنها تخشى أن تضل طريقها في ما وراء الجبل. لم يتمالك نفسه، وهو يشرف على أول تل من تلال المنتجع.ركن سيارته جانب الطريق ترجل قليلا، اتكأ على صخرة عريضة، تحمل نقوش قلوب متيمة،وذكريات عشاق، ماينقش على الصخر يبقى. فاجأه المنتجع الجميل، البهي الساكن، وتلك المواويل التي ترتفع من عقيرات فَتِيةٍ قادمةٍ من أعماق الوادي يتردد صداها من السفوح حتى القمم،وعلى سطوح منازل الدواوير المتناثرة بين أشجار الزيتون والصنوبر والصفصاف. تخلص من نظارته الشمسية، أغمض عينيه ثم فتحهما، لم يصدق ما يحدث، همس في قرارة نفسه:الأحلام الخالدة لا يراها المرء إلا مرة واحدة في عمره. هذه هي الحقيقة …! ملأ المنتجع روحه بأمل جديد … بداية رائعة،لرحلة أروع. صعد من جديد إلى السيارة،تركها تداعب ما تبقى من منعرجات الجبل،وكأنها محمولة على بساط طائر خرج للتو من حكايات ألف ليلة وليلة،حطت السيارة رحالها أمام مبنى أنيق،هندسته فخمة تلائم المكان،وترتمي بين أكناف الأزمنة،صعب هو البناء في الجبل، تعلوه لوحة مرمرية كتب عليها بلغات عالمية :”فندق تيفاوين”أكيد، أنه أخد اسمه من :”أوليات أنوار شروق الشمس أعلى الجبل”غمرته سعادة،إذ يُدَوِّنُ معلوماته الشخصية: شيء رائع كوني هنا،في هذا العالم الفردوسي،دنيا الله، المتألقة والمفتوحة على الطبيعة والحياة وكل مكامن الوجود.
تقدم موظف الاستقبال والضيافة، وقال بلطف : أنت محق سيدي،منتجع اوريكا فضاء جذاب،يجمع الناس والسكينة توحدهم، إلتحق نبيل بالغرفة المحجوزة بإسمه،فتح نوافذها على مصارعها، كان خرير مياه النهر الخافت ينساب هادئا،كأنه يتحاشى إيقاظ الجبل، يردد أغنيات الصخور، ويحمل رسائل الخصوبة والنماء من ثلوج القمم،وكانت وريقات أشجار الصفصاف تتراقص على وقع هذا الخرير،وصفحة المياه لجين يعيد ترانيم الحياة.لم يتمالك نبيل نفسه،وهو يردد بأعلى صوته : أي سحر هذا الذي تتحوزه أيها الوافد المبجل…؟ إندفعت مواكب من ضياء ملأت غرفته بشمس المساء حاملة معها نسائم الظهيرة. عاتب الظروف التي حجبت عنه كل ما يتملى به من بهاء،”يا ألله، لاوقت حتى للعتاب والملامة الآن،عليه أن يكون متفائلا،المستقبل الواعد دائما مايكون على الأبواب،يكفي أن يراه الإنسان.رن جرس هاتف الغرفة،تسَلّم دعوةً خاصةً لحضور حفل عشاء ترحيبي دأبت إدارة المنتجع على تنظيمه تكريما لنزلائه الجدد، قال مبتهجا، دعوة كريمة، من إدارة كريمة، فمرحبا بضيافتك أيها المنتجع السخي، يا زمردة وردية الحجارة في عقد إخضرار سفوح الجبل،اطمأن على أناقة البذلة التي إختارها لحضور دعوة العشاء،قبل مغادرته للغرفة،تحسبا منه لأي مفاجأة. شذب شعيرات زائغة من شاربه، رش العطر الشامي المفضل لديه على لمتيه،تذكر نصيحة صديقه تاجر التحف،أن الطقس في فصل الربيع يتقلب فجأة من حين لآخر. اكتفى بوضع معطفه الصوفي على كتفيه، تدافعت في أعماقه مشاعر حبلى بالأمل.أثارت إعجابه مختارات من المنحوتات واللوحات،بعدما دلف الرواق المؤدي إلى قاعة الإستقبال،التي تزدان على جدارات ممراته وبكل الزوايا.تأمل سحر ألوانها العامرة بالخيال المتألق،غزته مواكبُ حب رفعت روحه بعشق الحياة. كان عند مدخل القاعة مدير الفندق يرحب بضيوفه الجدد، قال لنبيل : يمكنك سيدي أن تختار الطاولة التي ترغب في الجلوس إليها،استطرد : فالمنتجع علمنا أن الأشياء التي نختارها عن حب،هي التي تثري الذوق، وتشْعِر بجمال اللحظة وحميمية الملتقى.تخلص نبيل من معطفه الصوفي الذي طالما ظل يُذكره بسماء باريس الرمادية الملبدة بغيوم الشتاء والمبشرة ببداية ربيع مزهر ويانع.علقه على مشجب بديع الصنع من الخيزران قرب المدخل الرئيسي للمطعم.جال بنظراته فضاءَ المكان يمينا و شمالا.اختار طاولة مستديرة تجاور مدفأة مصنوعة من الجرانيت.ثم ما لبثت أن التحقت عائلة من ثلاثة أفراد بنفس الطاولة. تحلق الجميع حولها على الطريقة المغربية،الطعام المشترك محبة و فضيلة،أليس الملح أديم الأخوة والطهارة ؟ملح الأرض هو،عنوان الدم المشترك.تواثرت حركة المدعوين والزبناء داخل المطعم،أصبحت موائده مؤثثة بأطباق من مأكولات أهالي الجبل،لم يُخف نبيل وجلساؤه إعجابهم بنكهة الطاجين الأمازيغي بعدما دغدغ خياشيمهم بعبق التوابل القوي والزكي ونسمات أعشاب الجبل العطرية،وضع النادل الطاجين فوق حصير من سعف النخيل صغير ومزركش أمامهم.طلبوا منه أن يطلعهم على سر مكوناته،فلم يتخلف النادل،طبع إبتسامة محتشمة على محياه البشوش:إن نكهة مذاق الطاجين،ليست في عناصره فحسب،بل في ذاكـ الإحساس الفياض الذي يشعر به من تحلق حوله.أعاد إنتاج ابتسامة إضافية،ثم انصرف بهدوء.تدخل نبيل مبادرًا وقد اعتراه حياء عابر:الرجلُ مُحقٌ فيما قال،شيء رائع أن يكون المكان هو منتجع اوريكا،مكان مبارك ، وعالم هادئ،تنعم فيه المشاعر بالدفء،والآمان،بالاطمئنان والرقة والسعادة الغامرة.ارتسمت علامات الرضا واليمن في عيون الجميع.خيم صمت طارئ،سرعان ما بددته أنغام موسيقى وأهازيج محلية هادئة،همست بنت العائلة التي تتقاسم مع نبيل نفس المائدة في أدن أمها قائلة :”يبدو على الرجل وقار وهيبة، وسمو أخلاق،انظري إلى زاوية الرؤيا التي لا يتجاوزها في نقل نظراته.”قرأت الأم ما يُخالج ابنتها من أفكار،هذا شيء يفرحها كأم، فالحياة لابد أن تستمر، ثم أن فشل تجربة ليس بالضرورة نهاية العالم.كان نبيل بدوره تتجادبه مجموعة من الخواطر في نفس الوقت،وكأنه توارد خواطر ينتظر المآل،لقد أثارت كريمة العائلة فضوله،بعد أن أضفى عليها ضوء الفانوس المنبعث من كوة موازية للمدفأة لمسة من الجمال الباذخ،وبهاء الحوريات،فتحولت في عينيه إلى لوحة تفيض بالرقة والأنوثة والنعومة والأناقة،تذكره بفاتنات لوحات متاحف الفن التشكيلي الكلاسيكي، من السيدات المحترمات المتناثرات حول محيط برج إيفل.انتابته نوبة ذهول أعادته من ذكريات فاتنات لوحات المتاحف إلى حاضر حميمية المنتجع.استخلص أن دفء الحياة منبعه صدق المشاعر، وأن على الشخص أن يتعلم الحياة من حب الآخرين.تصبب عرق خفيف شفيف تصفد أرنبة أنفِهِ،انتشله ربُّ العائلة من نوازعه،دعاه إلى تناول كوب من الشاي،بادرت الأم بالترحيب به من جديد،بعد أن رأت توهجا اكتسح ملامح وجه ابنتها،الذي لم تُلاحظه مُنذ زمان، قائلةً وقد امتلأت نظراتها بالرضا : نحن أسرةٌ من ربوع الشمال،من تطوان،وهذا زوجي الحاج عاشور،وابنتنا ليلى.نعتذر منكَ إن لم نتبادل هذه المعلومات في حينها، أمس.تفهم نبيل موقف الأم،تابعت قائلة: جئنا إلى اوريكا لأول مرة، ابنتي ليلى هي صاحبة الرغبة،من أجل أن تنسى.حدجت ليلى أمها بنظرة حادة تعاتبها لكشفها سرا من أسرار العائلة. لم تبال الأم بالعتاب الصامت،إذ لديها حساباتها الخاصة.إلتقط نبيل إشارات الأم قائلا:إسمي نبيل إبراهيم من أڭادير بالجنوب،الجامعة هي ملاذي الآن،قضيت سنوات بفرنسا لنيل شهادة الدكتوراه،كان وقتا طويلا،لم أتمكن فيه من بناء أسرة،أنا الآن في نهاية عقدي الخامس،يمكن للإنسان أن يتدارك ما فات،فالحياة أمنا،ودائما ما تكون رحيمة وعطوفة معنا.لاح ارتياح واجل على أسارير ليلى،تلبسها حياءُ العذارى،نبض قلبها بالطهارة وتدفق بالروعة وسكنتها الأماني،فأشرقت أحاسيس على وجنتيها،لا شيء يمنع المرأة أن تحب مرة أخرى،إحساس سرمدي ومباغت هو الحب.وجدت نفسها مستلقية على سريرها، لم تعرف كيف اجتازت الرواق المؤدي إلى غرفة نومها،انخرطت على التو في بناء قصور أحلام واعدة ترنو إلى الفارس المنتظر.اندهش نبيل كيف غادرت ليلى بدون استئذان، انتبهت الأم إلى ما يفكر فيه نبيل بعد مغادرة ابنتها،قالت: وهي تصب كأس شاي ثان تعلوه حبيبات بيضاء، سيد نبيل،إن ابنتي تمر بتجربة قاسية،لهذا نحن في هذا المنتجع الجميل،إنسانة مرهفة الإحساس تستحق الرجل الذي يقدرها.فضَّل الحاج عاشور مراقبة الحوار الجاري في جلسة الشاي، مُكتفيا بمداعبة كأسه،تأمل قعره و كأنه يتهيأ لقراءة خباياه. التجارب علمته أن الحذر في الحكم على المواقف أفضل من الأسف،والحياة تحمل أسرارها التي تُفاجئُ بها الإنسان أينما حلَّ و ارتحل.
كانت الساعة قد اقتربت من العاشرة ليلا،بدأت قطرات من الندى تنزلق على زجاج نوافذ شرفة قاعة الشاي،ليالي الربيع لا تزال تحتفظ ببعض برودة الشتاء.ترجل نبيل إلى حيث علق معطفه على المشجب الخيزراني،ارتداه بعد أن عدل من ياقته،أحكم ازراره،استأذن الحاج عاشور و زوجته بالانصراف،شكرهما على دعوتهما له لتناول الشاي . لم يترك الحاج فرصة الوداع تمر دون أن يستثمرها: الحديث معك سي نبيل مُمتع وشيِّقٌ،والجلوس إليك لطيفٌ وأخاذٌ ، فالإنسان كلما ارتفعت ثقافته،ازداد إشعاعه ونضجت أحلامه.استطرد، وكأنه يتحوز مفتاح علاقة جديدة،مميزة،ومثمرة، بعدما بدد حديث الشاي حذر توجسه: أنت لا تزال ضيفي،وحتى الربيع الذي يجمعنا لا يزال في بدايته.غدا بحول الله،نلتقي على الفطور و فيكون للحديث حديث.تهللت ملامح وجه نبيل بابتسامة رقيقة. تضاءلت أضواء الفوانيس النحاسية المعلقة على مشاجبها، تكوم رماد المدفأة كأهرامات هلامية،تُخفي بداخلها ما تبقى من لحظات وجودية.تحول المنتجع إلى مشتل لزراعة الأحلام المفقودة.ارتفع القمر عاليا، يشع بنوره،أعاد توزيع مواكب نجومه المضيئة في سماء المنتجع كأنه يبشر بحدث ما. تسللت نجمة شاردة إلى غرفة نبيل،اندفع من مرقده منتصبا كعمود بركان تحرر من خموله،يهتف : وجدتها… وجدتها… كأنه أرخميدس جديد وجد لذة اللقيا، وسر الجاذبية، فجاذبية القلوب، أقوى من كل جاذبيات الكون.تمنى لو قطف باقة ورد من حديقة أحلامه الجديدة في آنية اللحظة وأهداها إلى ليلى، ما دام المنتجع يجمعهما. أخد يتنقل داخل غرفته بنظرات أكثر بصيرة،رمق على منضدة من خشب الصنوبر بجانب أريكة منبطحة عليها ديوان أزهار الألم لــ بودلير، كم كان شاعرا متمردا،وسيء الحظ،هذا البودلير، وكتاب النبي لجبران ، ملكـ المحبة، يا للصدفة، كتابين متجاورين، كأنهما في انتظاره لمآنسته كعادتهما والسفر به إلى متاهات عوالمهما السحيقة.أشاح بوجهه عنهما، لم يعد للألم ،الحزن،والعتاب مكانا في قلبه. الحياة لم تخلق للألم والحزن بل للسعادة،قال متحسرا: ما اتعس الإنسان أن يعيش وحيدا، إنها مأساة. أعاد شريط رحلته، إسترجع المقعد الفارغ، تذكر دعوة الحاج عاشور الصباحية، عزم على أن يكون متفائلا شهما، الآن،دقت ساعة الحقيقة،ولا وقت للإنتظار. تمنى صادقا، أن يكون المنتجع محطة إقلاع لقطار حياته، نحو الحب والمؤانسة والإستقرار. كل الأشياء الجميلة حاضرة،على مائدة الفطور، المشاعر،الأمل،الجمال،الحياء، والمستقبل، لم يتردد نبيل الجالس في كامل أناقته و تألقه بعد أن امتلأت نظراته بالزهو وروحه بالصفاء، عرض على الحاج عاشور أن يكون رابعهم. تحول منتجع اوريكا بكل ما حباه الله من روعة وهدوء إلى كرنفال متوهج بالأحلام والأماني، كانت ليلى أميرته،ونجمته الساطعة.
كتب نبيل إلى صديقه تاجر التحف : رحلتي إلى المنتجع هي رحلة باهرة، ووصيتكـ لي بالمعطف الصوفي، كانت ياصديقي، بداية الإحساس بدفء آخر، فبين ربوع المنتجع وجدت دفء المشاعر، دفء الحياة،دفء الحب، ودفء الوحدة بين الشمال والجنوب.