قصة قصيرة ـــــــ اللـَّيـلـةُ لَـيْلـتان ـــــــ

اللــَّــيـلـةُ لَـيْــلــَــتَـان

 

 

 

 

 

 

ظلت السيدة ثريا التي لم تزدها عقود عمرها الخمسة إلا جمالا، وشموخا، أبهة، وأناقة، تفيض شباباً، تتحرك بحيوية، تتأنق بنشاط، تتكلم بثقة في النفس وتبتسم في أدب يَنِمُّ عن تجاربَ وحكمةٍ، وتَعُبُّ الحياة عَـبَّاً، كأنها تمخر عُباب محيط من الأحلام وعلى أشرعة من الطموحات، كانت ولا تزال تلكـ السيدة الموسُومةُ في قلوب وأذهان وعلى ألسنة أوساطها المخملية، بجُلْنَار “زهرة الرمان”،لقد تنفست الصعداء أخيرا بعد لَُأيٍّ، قبلَ موعد حلول ليلة خُطوبة كريمتها ماجدولين، وبنظرات متأنية إستطلعت فضاء صالون الضيوف الباذخ، ها، قد أصبح كل شيء جاهزا، بقيت ثَملى بفرحٍ غامرٍ، وسرور يُحْيِ الأرواحَ، فرح لطالما انتظرته، تضوعتْ رِحابَهُ بعبق دفء أنفاسها العنبرية، المسافرة بين ثنايا خُصُلات شعرها القُرنفلي، الطويل والمنسدل في تناغم رائق مع قوامها الممشوق، تحول الصالون إلى رواق قادم من زمن ذكريات أساطير الخيال ومفاتن الحسن، تتألق فيه كل قطع الأثاث الجميلة، يزيدُها التأمل جمالا، ومتعة تُصبغ عليها مسحة من الكمال، كأنها تستبق اللحظات نحو محطات فوق خيال الوصف، أنوار الصالون هادئة حالمة، تنعكس على أسطح تلكـ التحف النادرة، والمقتنيات الباذخة، تُنمنم عوالمها، لتتوحد مع جداريات فسيفسائية هائمة في عشق مبدعها، الذي ليس سوى ذاك الصانعُ المغربيُّ المسكونُ بتراب الوطن وفتنة الوحي وجنون الإلهام، والمتوحد مع أشعة فنون الحرف والصنائع اللانهائية، أينما وجدت، وكيفما كانت.

 

كانت المسالك والممرات المُلتوية والمُبلطة، المُؤدية إلى ڤيلا Villa السيدة ثريا، والمُتماهية مع رونق واحات النخيل بالضاحية الشرقية لمراكش، المدينة الحمراء، تلكـ الحاضرة المتجددة، المؤثرة في كل الآفاق، على إمتداد دنيا الله، وكانت جنبات الڤيلا المجاورة لضفاف الجداول المُنسابة بين مشاتل الشجيرات، والزيتون، والأعشاب الطرية، قد زينت بفوانيس من طين مُتحجر أجوري بُني صارخ اللون،تؤثثه شموعٌ بألوان الطيف، يتراقص ضياؤها الجُمَانيُّ، مُرحبا بالضيوف الوافدين عن بُعد، ضيوف ليلة الخطوبة، فكل ترتيبات المناسبة جاهزة، الأضواء والأرائكـ ،الموائد والمزهريات، المنضدات والوسائد، الشموع والابتسامات، الزرابي والشراشف، توحدت في نسق بديع ألوانها مع العطور والمراسيم الهدوء و الإشراقات.

تَوَقَّعَ إحساسُ السيدة ثُريا المزيد من الفرح، وسَرَت بين جوانحها مواكب من الوجل وقوافل الأمل، استشعرت وكأن القدر سيُفاجئُها، دون سابقِ إنذارٍ، محيط أزرق عميق هو قلب المرأة، بكل تجلياته وأسراره، تُرى من يدري سرّ المفاجأة التي يُخبئها لها القدر هذه المرة .وقفت أمام مدخل باب الڤيلا المرمري،محفوفة بوصيفاتها،مثل لؤلؤة لامعة في عقد زُمُرُّدٍ،تُرحب بأصهارها الجُدد، إنحنى السيد آدم أمام حَمَاة إبنه نوفل،قال بعدما تقلصت المسافة بينه وبينها : شكرا سيدتي، فكم أنا محظوظٌ وسعيدٌ بهذه المُصاهرة،أكثر من إبني.عدَّل من ياقته ذات اللون الأحمر القاني،ثم إستطرد : وهذه الدار الكبيرة،والأصل الطيب،والله يرحم الحاج التهامي،إذ أنجبتُما جوهرةً قلّما يجود بمثلها الزمان،ثم من خلَّفَ هذا الغصن الطيب،لايموت ولن يموت،لامس حياء طارئ السيدة ثريا،أحمرت وجنتيها فزادتها حُسنا،ونجوميةً، وإرتعشت شَفتيْها،صافحتهُ،قالت متأثرةً،بصوت خافتٍ،كم كنتُ أتمنى لو كانت بيننا المرحومة العزيزة أم نوفل،ولكن،لله ما أعطى،ولله ما أخذ،والدوام له سبحانه،أومأ السيد آدم برأسه،ونظر في أفق غُصينات متدلية من بوكانفيليا خضراء نضرة،تتخللها أزاهير زرقاء،ثم حركـ رأسه في ببطء وأناة،كأنه يقدم أسمى دواعي الإحترام لروح زوجته،أم إبنه،إسترجع نفسه، وقال : أي والله، أقدارُنا ليست بأيدينا،وإن كانت تضعنا أمام مرايانا،تدفعنا لتجربة الإختيار،هي الحياة سيدتي،لابد أن تستمر.التفتت السيدة ثريا نحو نوفل، طلبت منه أن يرافقها،اقتفى أثرها دون أن ينبس بكلمة واحدة، تلبَّسَهُ أثناء عبوره الممر الرئيسي نحو داخل الڤيلا،صراع طفيف،إستغرب لم لا يتَحررُ من خجله؟فكل شيء هنا فرح في فرح،اقتربت منه،أخذته من مرفقه،بحنو وأمومة،قالت : هذه ليلتك،يا نوفل،ابتسمت واستطردت،وخطيبتكـَ يا ولدي في قصر محروس، فالمرأة منا تنتظر مثل هذه الليلة بكل جوارحها، تسافر إليها في جميع أحلامها،طأطأ نوفل رأسه، انتشل من الجيب الداخلي لمعطف بذلته الزرقاء الداكنة،منديلا أبيض بخطين أحمرين ثم مسح عرقاً شفيفًا مُتصببا من جبينه،رمقته حماته مبتسمة،ربتت على كتفه الأيسر،كطفل ذعر إثر سماعه لحكاية مُذهلة عن الأشباح،مسحت بحركة خاطفة من أناملها ما تبقى من ذرات عرقٍ ظلت عالقةً بين مُلتقى حاجبيْهِ،همست في أذنه : دعْ عنكَ التوثر والخجلَ جانبا، ها قد صرتَ من الليلة فارسَ أحلام،ورجلَ مواقفٍ بإمتياز،أيها الجَنْتِلمان الواعد.ضمَّخت شحمتي أذنيه، بأريج عطر باريسي، إسترسلت في همسها له،دون أن تترك الفرصة لمن سيسترق السمع،كان بوحا لذيذا منها،إمتزجت فيه عبارات الإعجاب بالتشجيع،وتوحد تحت ألفاظه الحنان مع المودة،ثم إنبرت بصوت لطيف،لاتبخل على خطيبتك بقبلة بين عينيها،وقم بإهدائها وردة حمراء،من هذه المزهرية،فالمرأة الراقية تعشقُ الورود،فقد تعتبرونها أنتم الرجال ليست من الأهمية بمكان،ولكنها تجِدُ في داخلها رغبةً ماسَّةً إليها،الورود إشعاع،وطاقة من الجمال،وهالة من رسائل العشق والتأنق والعفاف.

 

غص صالون الإحتفال بفسيفساء من المدعوات والمدعويين،كان مهرجانا من الأزياء والعطور والأضواء والزينة والأحاديث الثنائية والثلاثية،أضفت عليها نوبات الطرب الأندلسي وميازينه الكثير من التفرد والجاذبية والبهاء،تقدمت كوكبة من اليافعات الحسناوات،لاتفارق الإبتسامات ثغورهن،طفقن ينثرن على أريكة المخطوبين أزاهير وورود بيضاء،صفراء،حمراء،وزرقاء،أكمامُها عذراءَ،ولَجَت طائفةٌ من النادلات الممشوقات القوام،فاتنات حسناوات، حوريات بحار قدمن على التو من جزر المرجان والمحار،أرداف راقصة،وخطوات مُتَّـئِدة،تحملن على وقعِها صينيات بلورية عليها كؤوس قزحية،وأطباق فَخَّارٍ صيني،لاتحلو المأكولات ويُسْتَلَّذُ المشروبُ إلا مع مثل هذه الساعات،وفي غمرة أروع اللحظات،في حين كان التمر والحليب، ومِرَشَّات زهر الأرنج تحتل كل مراكز الموائد المتناثرة في الممرات وعلى جوانب البهو ومحيط النافورة المتمركزة في وسط باحة الڤيلا،وقد طفت على صفحة مياهها المتماوجة شموع،تحولت بدورها إلى نجوم أرضية تُخاطب نجومَ السماءِ،بينما كانت السيدة ثُريا تلح إلحاحا جميلا باسما،على المدعويين والمدعوات تَذَوُّقَ ما في الأطباق من حلويات وكَعكـ ، وما في زجاجات البلور من مشروبات وعصائر،تُومئُ للنادلات ألا يغفلن عن أي ضيفٍ،مُبتسمون ومبتسمات،راقصون وراقصات،دعا السيد آدم حماة إبنه لرقصة على أنغام الموسيقى،رقصة،كُرْمَى للمخطوبين العزيزين،باغثها وهو يُراقصها،بصوت يكتنفه البوح الهامس الساحر: “أنت للا ثريا،سيدتي، أنبلُ إمرأة، أنت نجمة النجمات،وجميلة جميلات هذا الحفل،وريحانة كل حفل”،ابتسمت،داعبت خصلات شعرها القرنفلي،استأذنت وانسحبت لوهلة،عدَّلتِ من قُفطانها الأرجواني المطرز بالسندس الفاقع،حِزامها الذهبي،المُرصع بالأحجار الكريمة الخضراء،يزيدها نخوةً وبهاءً،همستْ في أذن وصيفةٍ،ثم عادت لتواصل الرقص بين يديه،إستدركت :”أظن أن الليلة سي أدم،هي ليلة الأبناء” أجاب بلغة الواثق،”ولِمَ لا ؟ليلتنا نحن أيضا سيدتي”،كان موشح من صنعة منسرح بالطرب الأندلسي، ينساب مثل نسائم وارفة تحركـ الأرواح والقلوب والأجساد معا: 

أحسنتَ ياليلُ في تَألُّفِـنــا …..بالله، ياليل طُلْ وزِدْ وزدِ

أسأتَ ياصُبحُ في تَفَرُّقِـنا ….. بالله ياصبح تُبْ ولاتـــعُدِ

أنغام ندية وكلمات طرية،ترتفع من عقيرات مُطربي الجوق،مثل بشارات تُلامس منتهى الأكوان،تكشف ما تُخبئه العُيون من أسرارٍ والنفوس من إرتياح، فكأنها تُفشي مكنونات القلبين.

 

تقدمت السيدة ثريا من ماجدولين إبنتها،ضمَّتها بحرارة إلى أحضانها،فتسللت دموعٌ في صمتٍ لم تُبارح أهداب مُقلتَيْها النجلاوتين،قالت بصوت مُتهدج،ماذا سيبقى لي بعد زفافكِـ يا مجدولين،عندما سترحلين،فحقيقي مايقولون”دار البنات خالية”،وما من شكـ،أن الوحدة ستقتُلُنِي،ستُؤرِّقُني،وستُحوِّل ليلي إلى نهار،إستعطفتِ دموعَها ألا تفضَحَها،ياه،دموعُ الفرح هي الأخرى تُفشي الأسرار،استشعرت في قرارة نفسها،أن ليلة خطوبة إبنتها،ليلتها كذلك،القلوب الخافقة بالصدق والنبل لاتُخطِئ الإحساس،إستيقظت على عناق ضُيوفِها،يُهنِّئُونَها،ثمةَ فرحتانِ،والليلة ليلتان،أخذ السيد آدم بيديها في حنو،ولطفٍ : للاثريا،ما نعيشُهُ الآن،حياتَنا الحقيقيةَ،الجديرةَ أن نحياها،بكل ما فيها من حُب وتفاهم،ما يكتنفها من ارتباط وألفة ومن وُدٍّ،فهذه الليلةُ،نهاية تاريخ ماض وبداية غد مُشترك من الأيام الجميلة والنجاحات الباهرة،رحلة وفاء نحو مغامرات الحب الجامحة…

ابتسمت ماجدولين،داعبت بأناملها الرقيقة خاتم خطوبتها الزمردي،تحسست الحُجَيرات الكريمة النفيسة في فصه الذهبي المسبوكـ،ثم شرعت تبتسم،وتَسْتَرِقُ النظر في مُحيا خطيبِها الوسيم …

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.