رحلة زرياب تصدح بالألحان والشذى من فحل الزفريتي في مراكش

مـحـمـد الـقـنــور :

كأنه رجع الصدى لأهازيج تصدح بين الفجاج وعلى ممرات العوالي من الجبال، كأنه وقع المطر إذ ينهمر بين التلال وعلى وريقات البنفسج المتواضع على الأرض، كأنه الحنين يسافر بين القلوب محملا برسائل الذكرى وعبق الأشواق والأماني، صدح صوت المطربة الفنانة عبير العابد، مزاوجا بين إنسيابية الغناء المغربي الأصيل، وتراتبية نقرات الفلامينغو الإسباني،على الأرض وعلى أوتار القيتارة ومفاتيح البيانو، المعيدة لأشجان الفلاح المفجوع، القادم من ظلمة سقوط غرناطة وإدانات محاكم التفتيش .

كان صوتُ المغنية عبير العابد، صوتا رخيما عذبا سلسا، إهتز له الجمهور الذي حضر في باحة رياض الكبير، في حي فحل الزفريتي بمراكش، رفقة الموسيقي الإسباني سيرجيو دو لوب، عازف الناي،والموسيقي خوسيه كارا على البيانو، وخافيير رابادان، على القيثارة، وذلك خلال الأمسية التي نظمها تحت عنوان “سفريات زرياب” قبل قليل المعهد الإسباني سيرفانتيس مراكش، في إطار المحفل العالمي للفلامنكو، وبمناسبة الذكرى الثلاثين لتأسيس المعهد المذكور في مدينة الرجال السبعة..

ولاشكــ ، أن فن الفلامنكو، يعود لأصول عربية نتيجة وجود العرب المسلمين في الأندلس لقرابة ثمانية قرون؛ فقد جلب العرب معهم من الشرق، من الحجاز ومن الشام ومن العراق على التوالي ألحاناً ومقامات وإيقاعات وآلات، وجلبوا كذلكــ موسيقاهم وأشعارهم وصورهم البلاغية المعبرة عن آمالهم وآلامهم، عن عشقهم ولوعتهم، عن مدى حنينهم للرصافة والمدينة والكرخ ودمشق وحلب وحران ، كما جلب زرياب نفسه بعدما تخوف على نفسه، من كيد أستاذه الموصلي، فتركـ حظوة الخليفة الرشيد، وفضل العبور إلى غرب الدنيا، حيث كانت تنتظره الزهراء والزاهرة وقرطبة وكل حواضر الأندلس الأموية.

كان الفلامنكو فنا يجاوز بين الموسيقى والرقص غناء من الحنجرة إلى الوجود وإلى الفجيعة والأسى، وإلى كل الجراحات التي تثخن قلب الذاكرة، إلى القيثارة الخارجة من رحم عود زرياب وتلاميذة زرياب، والرابطة بين المدن المغربية الشمالية كتطوان، وطنجة وشفشاون ومدن الجنوب الإسباني كغرناطة وإشبيلية والمرية، هناكـــ، حيث الشمال المغربي يشبه الجنوب الإسباني كثيرا في الثقافة والتضاريس والمناخ وفي الحياة اليومية وأغلب فنون العيش وفي الهندسة المعمارية، وبعض الألقاب والعادات والأعراف .

هذا، وتعني كلمة الفلامنكو، بمعنى الفلاح الموريسكي المنكوب الذي أصبح بلا أرض،ولا بيت،ومن دون هوية، أو مواطنة فإندمج مع الغجر، من الآفاقين، فصار يطوف المداشر والقرى محملا بغنائه المفعم بمختلف مظاهر الألم والحسرة على ثقافته وهويته، وعلى ماضيه ومستقبله، ومكلوما على حاضره الذي تمت إبادته،دون أن يتخلى عما تركه زرياب أبو الحسن علي بن نافع الموصلي، المزداد سنة 789 والمتوفى سنة 857، والذي كان عمدة للموسيقى الأندلسية، شكلا ومضمونا، ومدرسة تخرج على يديه العديد من الموسيقيين والعازفين على مر عصور الأندلس الباذخة .


وما من شكــ، فالكتابات الأدبية والمصنفات التاريخية، التي تابعت تطور الشعر الغنائي العربي والإسباني،كثيرة ووفيرة، وأنها تُجْمِع على أن الفلامنكو تأثر كثيرا بالإيقاع الشرقي وبالأغنية الأندلسية والأغنية المغربية الشعبية، وأنه ظهر أول الأمر، في غرناطة وفي محيطها بالقرى التي هُجر منها المورسكيون، وهو ماحاولت أن تترجمه الفنانة المغربية عبير العابد، مستثمرة في ذلكــ، إتقانها للغتين العربية والإسبانية، فتوفقت أحسن توفيق والفرقة المصاحبة لها في الصوت واللإلقاء والحركات الدلالية والتفاعل من فضاء رياض “فحل الزفريتي” وفي الانفعال العاطفي،والتماهي مع الألحان، وفي إظهار مدى التشابه الكبير بين الأغنية المغربية الأندلسية وبين الفلامنكو، ضمن رحلة ملؤها الشجن والإبداع والتثاقف والتضرع للحياة، والنجوى والأمل والصبابة والشكوى والفرح والإنشراح، رحلة ليست سوى رحلة زرياب .

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.