قصة قصيرة ـــــــ لعبة كراسي مثيرة ـــــــ

لـُعـبة كــَراسي مُـثيـرة

غمرت شمس صباح ربيعي بارد، فضاء شقتها المُتماهية بين أشجار الجكراندا العنقاء، ذات الأفنان البنفسجية المتعرشة، المرابطة بالحي الشتوي، في حمى مضارب جبال الأطلس الكبير، الحارس الأمين على فردوس المدينة الحمراء، تلكـ الحاضرة المتجددة،عبر الأزمنة والعصور، تفاعلت بين متاهات فضاء الشقة الفسيحة الباذخة، ذكريات تغالب النسيان لإحتفاليات بقيت تلوح مثل نجوم براقة وأطياف من مدى بعيد،حطت رحالها رغم علقم مُرِّها، ونزر النزر من حُلوها، كأنها قطرات ندى تصافح رمال صحراء عطشانة، ساعة الفجر، ثم تنمحي وتضمحل مع أول شعاع للضحى. ظلت سعاد تتابع من شرفة صالون شقتها الفخمة، ويستمر طيران أسراب طيور السنونو، تتمايل بين مد وجزر ، أغمضت عينيها لبرهة،كأنها تود التحليق معها،إلى أرض الله وسمائه الواسعة،كان نسيم عليل ينسل من الشرفة نحوها، يداعب خصلات من جدائل شعرها الأسيل، برفق وحنان. إنجلت أمامها كل الإشراقات،وبرزت المسافات، سمعت صوتا رخيما منكسرا بحشرجات، ينبعث من أعماقها، يتساقط على أديم مراياها، يعيد في أعمق أعماقها ترانيم الوفاء والحب والسكينة وحتى كل تفاصيل الغدر، يبحر بها نحو شطآن الأمل القادم، ترى هل يأتي أم لا يأتي؟ تعاقبت في قرارة نفسها البدايات والنهايات، حبلا ممدودا، يُساءل أزلية المصير، وألغاز المتاهات، إستشعرت كأنها في حلم، كانت كل الأشياء التي تحيط بها في ذاكـ الصباح الطري، تعيد ترتيب الذكريات، التمثال البرونزي لعروس البحر على المنضدة، خزانة الكتب النفيسة هناكـ، في عمق الصالة، التذكارات البلورية من السفريات، الشمعدان النحاسي الكبير، لوحات التشكيل المعاصر، مزهرية الفخار الصيني العملاقة،البُسُط المغربية العريقة والأرائكـ ،كل قطعة أثاث لها معها حكاية،لا زالت أسراب السنونو تلوح من الشرفة، لوحات مذهلة هي الأخرى في طيرانها، تزدهي في زرقة الأفق، المضمخة بالسحب الخفيفة المتناثرة، على خلاف من يضرب جرس الشقة من أهل وصديقات، إنبعثت هذه المرة، رنات جرس الباب متقطعة، و واجلة، لاشكـ أنها من أصابع ضاغطة، محتشمة ومرتعشة، أخرجتها الرنات من التأمل في محتويات الشقة إلى واقعها، نزلت بها من أعالي السنونو. لم تبارح مكان جلوسها،وبضغطة زر، فتحت باب الشقة الأوتوماتيكي، فأصبحت وجها لوجه معه، يا للغرابة، هذا عمر زوجها الذي غادر، منذ سنوات، ها قد عاد ، وظنته أنه لن يعود، نعم، غادر بعد العام الأول فقط من زواجهما، مقابلة بطعم المرارة ولعنات التيه، ياه! لِمَ الآن؟ ولِمَ هو؟ ، رباه، هذا عمر، فلا وقت لدي للألم والعتاب، ولا متسع لتقليب المواجع، كانت سنوات الوحدة قد حقنت سعاد بالعزم والقوة، علمتها كيف تقاوم الأسى، وتألف التصدي، فقد تركـ فراقه المفاجئ لها، جرحا غائرا في قلبها، ومرغ كبرياءها في الوحل، نظرت سعاد إليه مثل زائر عابر، إخترقته عيناها، بينما وقفت فطومة الخادمة في زاوية الممر تنظر وتنتظر، مرحبا، تفضل، سنجلس في الصالون البنفسجي، هيئي الشاي الأسود فطومة كما تفعلين، أشارت في لباقة إلى عمر بالجلوس، وإن كان يرغب في مشروب آخر، كانت أريكة قصب البامبو،المزدانة بالمخدات المزركشة والمتناسقة،توحي أن التكعيبية ليست فقط في لوحات بيكاسو وبراكـ، وكانت المدفأة تودع أخر جمراتها، المدفأة أحيانا تدعو إلى الإعتراف قبل الإرتياح، وضعت فطومة طاقم الشاي ،أمام سعاد على طاولة المرمر الأخضر، المطعمة بأغصان مورقة من نحاس غامق،ودافئ، حركت سعاد في هدوء عجلتي كرسيها المتحركـ وبأناقة باهرة،أربكته،قلبت موازينه، ظهر عرق شفيف على جبينه، أتراه الحياء أم الخجل ، أم هو الندم من فعلته ؟ أحست سعاد بعمر تتملكه الهواجس، حدس المرأة يكشف خبايا الرجل، يعلن أسرار خرائطه ويسبر غور مكنوناته،حاولت أن تحرره من واقعه،أن تنتشله من مخاوفه،رفع فنجان الشاي العابق بنكهة الليمون إلى شفتيه مترددا، بخار الشاي يرسم أعمدة متصاعدة ، طفقت عينا عمر تسترق النظر في محيا سعاد الجذاب والجميل، سكون مريع في المكان، وصمت حكيم من سعاد يختزل الكثير من الإشارات والمعاني في قرارة عمر، كانت المفاجأة، إقترحت سعاد ماذا لو تبادله الجلوس على الكرسي المتحرك بدل الأريكة ؟ طمئنته أنها فقط لعبة كراسي، قد تكون مسلية ومثيرة، لم تترك لعمر مساحة للتخمين، طلبت سعاد من فطومة ، التي لم تكن مجرد خادمة، وإنما أمينة أسرار ورفيقة دروب وحدتها،حزنها وفرحها، أن تهيئ للضيف، كرسيا متحركا آخر،أكيد، الكرسي بالشقة منذ أمد على وجه الإحتياط .

إعترى عمر خجل جائح،إضطراب خفي، تساؤل وإندهاش، قالت سعاد : لا عليكـ ، هي مجرد لعبة، لتلطيف الوقت،شبيهة بلعبة تلكـ العرائس المتحركة، أتذكر ؟

أحس عمر بجفاف طارئ في حنجرته، إمتدت يده في تردد إلى فنجان الشاي أمامه، بدأ بخار الفنجان يتلاشي، رشف منه ثلاث رشفات متتالية،كان من خلالها كأنه يشرب الدواء، تأمل مسترقا النظر،في ملامح سعاد ، زوجته التي هجرها، ظهر كأنه يعيد إكتشافها، تمنى لو إعترف لها بخذلانه،ونذالته،زادت القسمات المضطربة التي إرتسمت على وجهه في فضحه،وعمقت قتامتها من إنكسارات نظراته، شعر بالغثيان، هاجمه الخوف من المجهول،وسيطر على قلبه إحساس موحش،شعور بالرغبة في المقاومة، ما جدوى مقاومة الفريسة بعدما تلتف حولها المصيدة ؟ كانت آخر فلول الدخان تصعد من المدفئة، النار دائما تلد الرماد، والرماد إعلان مسبق على نهاية الدفء، ما لم يتغذى بحطب جديد، صار دبيب رعشات متفاقمة ينط أسفل قدمي عمر،يكتسح جسمه،يربك أفكاره،حاول دون نتيجة، أن يتخلص من كرسيه المتحرك اللعين،كانت صدمته مُهولة، لم يصدق أن العجزَ أصاب رجليه، شل حركتهما،أدركت سعاد أن شيئا ما وقع، إقتربت بكرسيها المتحرك ، تنظر لعمر، المُطأطئ الرأس، أصبح مصلوبا يرجو الخلاص، ينتظر من أجله في طابور طويل وبطيء التحرك من اللاجئين والثكالى، ضحايا الحروب ، فارس مهزوم، يجر خسائره،ألمحت سعاد لفطومة، أن تسدل ستائر الشرفة البيضاء الشفافة،أبحرت في عيني عمر بدون أشرعة،بلا مجاديف، طبعا، تعرفه، كانت نظراته مفعمة بالحسرة وبالغليان، مثل بركان عاوده نشاطه بغثة، قالت سعاد : ما كانت الحياة علينا يوما أقسى من أنفسنا،إستجمعت أنفاسها، لملمت قواها المبعثرة، تأملت زركشات ستائر النوافذ المطرزة، رفعت نظرها من جديد، كانت أسراب السنونو لاتزال محلقة، تتهادى في الفضاء الفسيح، عجيبة،هذه الطيور، لاتفارق سماء الحي الشتوي، في مثل هذه الأيام من السنة، حيث الشتاء يودع، والربيع يقرع الأبواب، ملامح دموع ضئيلة غزت عيني عمر، وضعت سعاد أمامه علبة خشب من العرعار، لمناديل الورق،الدموع أحيانا تغسل الخطايا،والإعتراف يبقى صكــ غفران، قالت : ألا ترى أسراب تلكـ الطيور، وهادي الأغصان المتشابكة للجكراندا، تصنع بالتآلف والحب المستحيل،أومأ برأسه بالإيجاب، داعبت فنجان الشاي من جديد بأناملها، حرارة لذيذة كأنها البلسم يعالج الجراحات، وتوحي بالحياة من جديد لسعاد، دماء جديدة تتدفق على خديها،قبل أن تنهض عن كرسيها المتحرك، تقلع عنه مثل طائر كركي يغادر مزهوا صفحة مياه بحيرة حالمة، صاحت فطومة، يا الله! كم أنت كريم يا رب، للا سعاد تقف، تقف على قدميها،معجزاتكـ إلهي، مياه نابضة بالراحة والشفاء تورد إليها الأخيار. لم تخف سعاد فرحتها العارمة،دهشتها اللامنتظرة، ما وقع حقيقة ملموسة، وليس حلما، إرتمت فطومة بين أحضانها تقبلها وتعانقها، تربث على كتفيها، تطيل النظر إليها، فرحة كبيرة هو الإنعتاق.


قالت سعاد : الإرادة والمروءة وحب الحياة،عملة الحياة الحقيقية،وحتى الخيانات والخذلان تظل صغيرة أمامها،نكس عمر رأسه، قصُر عُنقه، توارى بين كتفيه، أيقن أن رسالة سعاد، لم تكن مجرد لعبة كراسي مثيرة،بل تبادل مواقع، وتناوب أدوار، كانت رحيقا لأسرار صراع أزلي، بطلاه رجل و إمرأة، ليس سوى صراع الحياة.

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.