قصة قصيرة …  المنديـــل النـــاعم

المنديـــل النـــاعـــم

 

وقف إدريس أمام مرآة خزانة ملابسه، تأمل بدلته ذات اللون الأزرق الليلي، إستهوته نرجسيته ،فيما يبدو كانت حالة غامضة، أما قلبه فظل صندوقا مغلقا، صعب أن تتملكه إمرأة، سمع هاتفا قادما من بحار أعماقه، تصفد جبينه عرقا، تخلص بسرعة من إغراء كاد يوقعه في شراكه،إعترف في حوار ذاتي،أن لعبة الأنا رهان خاسر، موظف هو، لا يزال تائها بين متاهات انتظارات معلقه بين السماء والأرض،تعانق السحب، وتسمر مع النجوم، حيث السديم واللانهاية، إنتظار آخر الشهر … إنتظار زمن المرأة ، حورية الجزر البلورية، سيدة المحار وزبد الأمواج، …انتظار ما ليس في الحسبان؟ راوده خوف مباغث أربك حساباته ، جعلها تمشي على رأسها، اكتشف بألمعية واردة ومفاجئة، كانت قد رحلت عنه لمدة غير وجيزة، أيقظت ذاكرته، جعلته لبرهة من الزمن، يغادر شقته ذات الغرفة الواحدة ، بأثاثها المحتضر الذي يقاوم من أجل البقاء، زنزانة إنفرادية هي هذه الشقة، و”كم من سجين على شاكلتي مغصوب عليه إلى حين” تساءل إدريس همسا، مع نهيدة بركانية  .

 أجل إدريس إحياء تداعيات خواطره المهجورة خوفا أن تتوالد متاعبه في صباح لا يشبه الصباحات، غادر الشقة ، ترك نافذتها الوحيدة مفتوحة للشمس والهواء ، حزمة الملفات والمستندات تنتظره منتصبة على مكتبه المركون في زاوية حادة على مدخل قبو أرضي، يذكره بدهاليز تخزين البضائع .

كانت الساعة قد تجاوزت بثوان الثامنة صباحا،ولج مقهى على بعد أمتار من إقامته، جلس الى طاولته الروتينية، في إنتظار فطوره المعتاد، شظية الخبز المُحمص، وقطعة الزبدة الغامضة التي لايعرف لها لا تاريخا ولاجغرافية، فاجأته صورة وجهه تترنح على أديم مرآة قريبة منه، نط من مكانه في حذر، إقترب من المرآة،طلائع تجاعيد على محياه،مثل أشباح الظلام تحمل رايات العجز والشيخوخة،وتنذر باللامنتظر،رفع عينيه الى السماء قائلا :”الله يخرَّج هاد الصباح بخير” .

أصلح ما أصاب بدلته من إنكماش،بفعل أخشاب أريكة الكرسي الناتئة،ترجل نحو موقف الأتوبيس،إنتظر هناك كما ينتظر الآخرون،تحسس جيوب بدلته أخرج قطعا نقدية ، لم يكلف نفسه عدها ، قال متهكما : من يصدق أن موظفا بهذا المظهر لا يتوفر حتى على ثمن سداد أجرة طاكسي يقله إلى مقر عمله …؟

ظل الكل يترقب بزوغ الأتوبيس،نجم طوطمي منتظر، حل أخيرا في غفلة من الجميع على ايقاع ذوي فراميل وصدى ارتطام عجلاته بمطبات إسمنتية منبطحة قرب رصيف الوقوف ، كما لو أن الأمر يتعلق بإنذار عن بداية غارة حربية إرتدادية تستنفر المارة الى الاحتماء في المخابئ والأقبية ، تزاحم الركاب أمام باب الأتوبيس، تدافعوا ، تشاجروا ، لم يقو إدريس على مسايرتهم ،ظل ينتظر إلى حين إنتهاء معركة الصعود ، كان هو آخر من أدى ثمن تذكرته،إرتفعت وتيرة الصخب داخل فضاء الأتوبيس الذي تحول الى مشبه كتلة بركانية نشطة،تهدد من بمحيطه، وتؤجج انفعالات من بداخله،تابع إدريس ما يجري ،كأنه يتفرج على مشاهد من فيلم هندي قصير من الدرجة الثالثة بالأبيض والأسود ،كان السائق يلجأ الى الضغط على الفراميل، تحسبا منه أن يصطدم بعربة مجرورة ،و دراجات نارية وهوائية،يا للهول، لا يأبه أصحابها بعلامات التشوير،أو بهذه الحفر التي تتسع في غفلة من البلدية، كل ما كان يخشاه السائق حدث داخل الأتوبيس ،إحتكاك أجسام ببعضها ،تشابك أيادي دون إرادتها ، أنين وآهات تنكسر بين شفاه تائهة، وجد إدريس نفسه في حصار مضروب عليه ، حاول فكه ، لم يفلح في اختراقه ، خيم سكون مفاجئ ، انقلب فضاء الأتوبيس إلى حمام سونا ، تمكن إدريس أخيرا من التقدم الى الأمام دون عناء ، لكن يعتقد أن شيئا ما حدث ، إنه على الأرض خارج الحصار ، كان آخر الموقعين على لائحة دخول الموظفين،أضفت عليه بدلته بلونها الأزرق الليلي ، صفة الموظف المحترم ، إجتاز البهو الزجاجي المؤدي الى مكتبه ، الذي تقبع عليه أكوام من الفواتير والملفات الملونة تنتظره كالعادة ، بادل زملاءه تحية الصباح ، لكن عيونهم بقيت شاخصة تلاحقه ، لم يكترث بما يجري، التحقت به إحدى زميلاته وهي أقربهن إليه، همست في أذنه ، ناولته منديلا ناعما ، قفل راجعا الى الحمام بالطابق السفلي ، اقتحمه دون استئذان ، وجد نفسه في مواجهة مرآة تذكره بمرآة خزانة ملابسه، بدت له بقع متناثرة على مؤخرة بدلته ، إحمرت وجنتاه خجلا، أصلح ما أفسده الأتوبيس،عاد يعبر البهو من جديد ،توقف في منتصفه ، تأمل حاله وحال زملائه ، هم في الهم سواء ، عيناه تتسعان وتضيقان،كما لو أنه إكتشف أخيرا الحقيقة الضائعة، قال متسائلا، وكأنه يثير فضول زملائه : كم هو عدد المناديل التي سيحتاجونها، سواء كانوا داخل الأتوبيس أو خارجه وراء تلك المكاتب التي يتوارون خلفها .

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.