قصة قصيرة ……….. نظرات صديقه!

لا يستريح من الحديث.. ويكره أن يضطر للإطالة عند مناقشته للبعض في موضوع ما. مناسبات اجتماعية عدة يحضرها، يحاول عدم الانغماس في نقاشاتها المفتوحة جدا..

أحيانا يُومئُ برأسه بالموافقة، أو يبدي انشغاله بشيء ما لتفادي التعبير عن اعتراضه على آراء لا يتفق معها. يعتبر الكثير منها مجرد أقاويل غير منطقية، يتم تداولها لملء فراغ صمت ثقيل يحل عند بداية مناسبات تنتهي بهرج كبير.

مناقشات جدية في غير مكانها، وفي أية ظروف، مع أناس تجالسهم لأول مرة وبالصدفة، حتى لو تم إلباسها بود مصطنع وابتسامات مزيفة أو تم تغليف اقتحامها برشفات شاي، تكون صعبة للغاية.

كيف سيقوم بتصحيح ما يراه خاطئا من أقوال ومعطيات يتم الإلقاء بها هكذا دون اكتراث؟
يكون ذلك بمثابة “اَلْقَوْل اَلْمُنَاسِبِ فِي اَلْمَكَانِ غَيْرِ اَلْمُنَاسِبِ، اَلَّذِي يُصْبِحُ غَيْرَ مُنَاسِبٍ جِدًّا”، كما قال له صديقه.

لتجاوز نقاشات فضفاضة وغير منظمة في مثل هذا الحفل، حثه على عدم مجاراتها:
– ماذا يحدث حين تكون أنت غير موجود… لا شيء، مجرد كلام.. ويمر.
– لكنه يسري مثل السم في أذهان مستمعين يصدقون خرافات ليس لها أساس…

بعد جدال بينهما، أقنعه أن الحاجة تكون ضرورية للصمت أكثر في مثل هذه المواقف.
* * *

بعض الضيوف غرباء عن بعضهم البعض، يبدؤون في تبادل كلمات في أي موضوع، وعلى دفعات، لتكسير رتابة السكون في انتظار وجبة العشاء.

أحد الأشخاص يتحدث في كل شيء.. صوته يرتفع تدريجيا يتعمد التشويق في حكاياته، لديه موهبة واضحة في إبهار المستمعين، يواصل حديثه، صوته يصل إلى الجميع تقريبا، ينتشي بنظرات جانب من الحضور إليه، يقول ما يريد، كأنه يتحكم في الحفل برمته.

تضايق مما يسمعه من هذا الشخص الذي وصفه بالمستفز، ألحت على ذهنه فكرة التعبير عن اختلافه معه.

تذكر أن مناقشة عينة من هؤلاء الأشخاص المستفزين بجدية تامة وإظهار الاعتراض على ما يصدر عنهم من أقوال شاردة، لا تليق بأجواء هذا الحفل.

لم يعرف كيف يتصرف. يحاول ضبط نفسه، يصارع دواخله: أحيانا لا يكون باستطاعتك الصمت، وفي نفس الآن لا تستطيع الدخول في نقاش مفتوح كهذا، وبهدوء.

قد يضطر للمغادرة لتفادي خلق جو من التوتر وسط الحضور.

عدم قدرته على تجاهل آراء وأخبار عارية من الصحة تماما، حسب رأيه، قد ينتج عنه بعض الإحراج لقريبه صاحب الحفل،… وللضيوف أيضا.

أغلب الغرباء عن بعضهم حين يلتقون في مثل هذه المناسبات واللقاءات في الحفلات والولائم والأعراس ومراسيم التأبين، في القطارات والحافلات وسيارات الأجرة وغرف الانتظار.. يتبادلون أطراف الحديث عن أحوال الطقس، وتأخر المطر، أو ندرة الماء، والكرة، وانتقاد برامج التلفزة، وتغير معايير الذوق العام والجمال، ومخاطر الإنترنيت، وانتشار التفاهة، ومشاكل النقل العمومي، وغرابة طباع الجيل الحالي، ومشاكل التعليم، ومشاكل الطرق، وتراجع التواصل داخل العائلة، وتلاشي الحميمية والتآزر بين الجيران. أو يستعيدون ماضيا جميلا جدا حتى لو لم يعشه أحدهم، والمشاكل العويصة للصحة، وأمراض العصر، أو يتباهون بما لديهم من نفوذ وعلاقات تسهل عليهم قضاء مصالحهم، أو يتذمرون من عدم تطبيق القانون، وغياب المحاسبة، وغياب المساواة، وتفشي الأنانية، والعنف، وعدم تكافؤ الفرص، والبطالة، والغلاء.. أو يفتحون هوامش أخرى، دون ترتيب.

لسوء أو حسن حظه، رن هاتفه رنتين قصيرتين، رسالة نصية من صديقه الجالس أمامه، يدعوه لتجنب مجادلة هذا الضيف الذي كاد يملأ الحفل صراخا:
-… الضيف مهم عندهم، ألا تعلم بذلك؟… ههههه

يجيبه، بنرفزة واضحة:
– ماذا تريد؟… قل ماذا تريد أن تقول؟…
– توقف عن الجدال فورا، من الأفضل في بدايته، الوليمة مقامة على شرفه في الأصل..
– ما معنى أن تقيمون الدنيا لمثل هذه الكائنات.. بِئس ما تصنعون..
– من الأفضل… ألا تجادله… ستتوتر أجواء الحفل!

وضع هاتفه جانبا، مد يديه المرتجفتين، كأنه يلقي القبض على قنينة الماء، سكب بعض الماء في الكأس القريب أمامه، وضع القنينة جانبا، شرب بشراهة، أعاد الكأس إلى مكانه، ونهض.

همهم بكلمات غير واضحة تماما، ثم أضاف:
– ……. اللعنة …!

مسح بنظراته غرفة الضيوف التقليدية المقابلة، في الجانب الآخر من المنزل الكبير، مدعوون يجلسون بأريحية، يبدو وضعهم أفضل من الجالسين على الكراسي في فناء منزل العائلة لوقت طويل، يتهامسون، يتناولون الشاي وقطع الحلوى، يبتسمون، غير مبالين تماما بما يقع….

استجاب لنصيحة ونظرات صديقه.. اضطر للجلوس مجددا.
ضم ذراعيه إلى صدره، وخلد للصمت.

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.