تلقيت اتصالات عديدة بعد نشري للمقاولات السابقة ، الخاصة بِمخطوط الشيخ محمد دلال الحسيكة رحمه الله ، من مراكش وخارجها ، كما أنني وصلتني بعض التعليقات المصاحبة التي كانت مفيدة ، وتدل على فهم أصحابها وغيرتهم على شعر الملحون ، وتثبت أو تبين أهمية فعل دلال الحسيكة لو عُضِّد بإضافات وشروحات تساهم في الإشعاع الفكري والفني للإنجاز المذكور ، ولفن الملحون بصفة عامة .
ما يهمني الآن هو إصرار بعض المتصلين على ضرورة أن أسترسل بذكر أهمية مخطوط الشيخ الحسيكة العلمية ،ولو في وقفات خاطفة ، بعد أن ظنوا أنني تخليت عن الموضوع ،أونسيته ولكن الحقيقة هي غير ذلك ، فظروف العمل ، والارتباط ببعض التظاهرات والمواسم الثقافية ، ثم اتساع دائرة الاهتمام مع توالي الأيام ، والانشغال بالتحضير لبعض المنجزات المستقبلية هي التي جعلتني أغفو عن الموضوع فيما مضى من الوقت ، وأقول لكل غيور إن تعاملي مع مخطوط دلال الحسيكة رحمه الله هو مشروع فكري مفتوح على كل الأزمان ، وأتمنى أن ينعم الله تعالى علي بالصحة والوقت حتى أنجز ما أعتبره إنصافا وبرورا بالرجل بعدما تعرض له من التهميش والإقصاء الممنهج للأسف الشديد .
ما دونته فيما مضى لم أقل فيه كل ما جرى بيني وبين ضيفي الكريم ،ولم أصرح بكل ما أعرف ، وأضحى لدي من العلم اليقين ،لأن للموضوع حساسيات عديدة،ومن شأن الطرح المباشر لبعض الحقائق المتضمنة فيه أن يتسبب في خصومات مجانية،أو في زيادة حجم سوء الظن المسيطر على أهل الملحون .
ولكن مع كل ذلك – وكما وعدت بعض المتصلين سأذكر ملاحظات عامة وعابرة،تساعد على فتح بعض أبواب الإدراك والفهم :
1 – إن ما خطه الشيخ الحسيكة بيده وبخطه الجميل يفوق ويتفوق عند مقارنة الأهمية العلمية والفنية على الكثير مما نشر في ساحات الملحون من كنانيش ومدونات شخصية،ودواوين شعرية لحد الآن .
2 – أهميته العلمية والفنية تُلاَحَظ في أن جل المنشدين،أو على الأقل من أعرف منهم لا زالوا يبحثون عن القصائد المطلوبة في جمع الشيخ المذكور وأشباهه بالرغم من وجود دواوين ومدونات تتضمن ما يريدونه ، وكذلك الأمر بالنسبة للباحثين حتى تميزت مدينة مراكش بقصد كل من يبحث عن القصائد من مختلف ربوع المغرب وخارجه ، وفي نظري أن هذه المكانة ، وذلك الإصرار من الصنفين المذكورين يبرز لنا أهمية جهد دلال في الجمع ،ويكشف لنا عن أمانة الرجل في الكتابة المبينة لكثير من خواص قصيدة الملحون،كما أنه يحسسنا بالقيمة العلمية والفنية والمنهجية للمُؤَلَّف.
3 – لو وقع الاهتمام كما يجب بذلك الجمع لحُلَّت مجموعة من المسائل التي لا زالت عالقة،ونجهل أو نختلف في ماهيتها وحلولها كثيرا ، وبكيفيات علمية وفنية مقبولة،والمثال الذي أود الإدلاء به هو مسألة تحديد معاني الإيقاع داخل قصيدة الملحون تحقيقا علميا وفنيا يرفع لُبُسا عديدة تحيط بالمسألة ، وتخرجها من حيز الخبرة والذوق الفردي الذي لا يتوفر عند الجميع إلى رحابة العلم المنضبط بقواعد واضحة تُدرَك وتفهم بطرق عقلية وذوقية متاحة لكل القراء والجمهور.
ويجب أن ننتبه إلى أنني أقصد بكلامي إيقاع النظم ،ولا يهمني الإيقاع الموسيقي المعروف ، وهذا من الخلط الذي يلاحظ في المجال ،وبدأ بعض الناس يكتفون بذكر الإيقاع الموسيقي من مثل قولهم للمنشد في بداية الإنشاد رصد أو أصبهان على سبيل المثال،ويعتبرونه هو إيقاع القصيدة الوحيد،ويكتفون به،ومن شأن هذا الاختلاط في الفهم وعدم التفرقة بين إيقاع الموسيقى وإيقاع النظم إن يؤدي إلى إخفاقات علمية وفنية ، وأن يطمس معنى إيقاع النظم وهو المقصود بكلامنا ، والمعتبر في قصيدة الملحون أكثر من الإيقاع الموسيقي المساهم والمساعد على إظهار جماليات شعر الملحون بصفة عامة .
والشيخ دلال الحسيكة رحمه الله كان يحرص حرصا شديدا وبقواعد العلم والفن والمنهج أن يحدد في بداية كل قصيدة ماهيتها الإيقاعية على مستوى النظم بالرغم من أنه كان عالما بالموسيقى،ومدرسا لها ، ومع ذلك لم يعرها أي اهتمام في جمعه،مع الإشارة إلى أن تحديد دلال يقع عليه ما يقع لكل فعل إنساني،وعليه يمكن أن يستدرك عليه بتصويب أو تبيين وشرح أو إضافة ومخالفة .
4 – إضافة إلى ما ذكر نجد في مؤلف الشيخ دلال الحسيكة وقفات ذكية وإشارات لقضايا نقدية وتصويبات علمية مهمة في بعض المواقف الدقيقة التي يدونها على هوامش القصائد ، يرتقي بعضها إلى درجة الشك الكلي في شعر بعض الشعراء ،كما كان حريصا على إظهار القصائد في رونق بصري جذاب،فمجموعه مبوب ومرقم ومفصل بالنقط الفارقة بين الجمل والأبيات والأقسام الشعرية .
ومن حسناته الكبرى أنه يتتبع الموضوع الواحد،ويثبت للقارئ كل الأشعار الواردة فيه وهي طريقة تسهل على المطلع تحصيل كل ألوان التعابير المتشابهة عند الشاعر الواحد بيسر ، ومن أمثلته نذكر قصيدة : ( الزطمة) للشيخ الجيلالي امثيرد ففي جانبها أثبت قصيدة مشابهة أو متممة للموضوع ، قال عنها دلال : ( وله ( الشيخ الجيلالي )أيضا رحمه الله جواب الزطمة لتصحيحها ) وحربتها هي : ( لله يا رسول سال احبيبي…..ياك ما عند الخاطر باس ) فلفظ ( تصحيحها ) يحتاج إلى قراءة متأنية للقصيدتين ، وتتبع تسلسل مضامين أقسامهما ، والتمكن في النهاية من إفراز معاني التصحيح كما فهما دلال . وللأسف لا تنشد إلا القصيدة الأولى : ( الزطمة ) ولو كان المنشدون مطلعين على طريقة الشيخ الحسيكة في الجمع والتأليف لانتبهوا إلى هذه الخاصية الكامنة في مجاور بعض القصائد ، ولصنعوا لنا عند الإنشاد فرجة تجمع مجموعة من القصائد التي تتشابه ، أو تتكامل ، أو تتناظر في الموضوع المعالج،وقد نصل بذلك إلى الإنشاد المتعدد على صعيد الأصوات ، ونتيح لها فرص التباري والمقارنات الفنية والفكرية بطرق يستفيد منها الجميع،ويزداد وهج القصائد استقرارا في النفوس .
5 – أشكر الإخوة الذين قرءوا الموضوع،وتفاعلوا معه،وهذه فرصة لنا جميعا للتذاكر والحوار والنقاش المفيد للملحون وأهله،وأشير إلى أنني لا أبخس جهد من سبقني كيفما كان نوعه،ولا أدعي أنني صاحب الحقيقة وحدي ،أو أملك غيرة تفوق ما عند كل الزملاء العاملين المخلصين،ولكن هي ملاحظات استقيها من الواقع المعيش ، فمجموع الشيخ دلال حازه أشخاص كُثُر،وبعضهم تستر عليه لغايات ، وبعضهم جعل الاستفادة منه محدودة في دائرة ضيقة……وأتساءل هنا : أين هي بقية المجهودات المصاحبة والمتممة والمُعَرِّفة بما فعله الشيخ دلال على المستوى العلمي والفني !؟ . لا أظن الجواب ممكنا من أية جهة أو جمعية،إنما كان الأمر مُبيتا ، وكان عمل دلال يُتَخَذ لأغراض شخصية،واستعراض العضلات القوية والمفتولة في مجال المعرفة المتعلقة بالملحون ، ولو كانت النيات صالحة ومنسجمة ، ولها غيرة صحيحة على شعر الملحون لبادر أصحابها إلى نشر مؤلف دلال كما هو وباسمه وبطرق علمية وفنية تنصفه وتتيحه للقراء كما قلت ، ولقد كان هذا السعي الأخلاقي والفكري المفيد بمقدورهم ، وفي متناولهم ، ولوجدنا أيضا كتابات مشرفة إزاء عمل الرجل تُعَرِّف،وتضيف،وتستدرك،وتشرح،ولم لا تنقد وتبين أماكن الضعف والقوة،والنجاح والإخفاق…….! إنما كانت حواجز النفوس الضعيفة والمريضة،وآفات التنكر،وابتغاء أوصاف الزعامات المغشوشة والمضللة تمنعهم من هذه الخطوات المُبارَكة والجميلة،وسيأتي زمن يُحَاسَب فيه الجميع ، ويُنصَف فيه الشيخ دلال رحمه الله .
وسنعود للموضوع ومن مختلف جوانبه في وقفات قادمة بحول الله تعالى .