قـصة قـصـيـرة …. يَـــــاقُــــــــــوت
يَــــاقُــــــــــوت ..
رجَع شيُوخ الحارَة إِلى مآويهِم، أكواخٌ مُتناثرَة هنا وهنَاك على مدَار شريطِ سطُوح مدينتِهم المسورة ، يعانُون من أثَر ألَم رحلَة سفرٍ سرمَديّ، أجسادُهم تحمِل هامَاتٍ مدجّجة بعَماماتٍ ملوّنةٍ،نظراتُهم تائِهة بينَ الأرضِ والسّماء ، افقدها الموت المتربّص بهَا الإحساس بِبوصلَة الزّمن المُهاجر ِإلَى مَدارَاتِه اللاّمُتناهِية بعدَما شيّعُوا جُثمَان جلِيسِهم وراوِيتهِم الرّاحل العَاطي الله إِلى مُستقرّه الأَخيرِ بمقبَرة المَدينَة العَتيقَة قُرب أَحد أَسوارِها المُتآكل .
تساءَل جِيرانُ الرّاحل عَن مَصيرِ رَفيقِ دربِه، الّذي أصبَح مقطُوعاً من شَجرَة،أثَار الوَرديّ السّمسَار انتِباه الحاجّ الطّاهر عطّار الحارَة وكبِيرها ، أنّ ياقُوت اختَفى عَن الأَنظار مُباشرَة بعدَ مُوارَاة جُثمَان صَاحبهِ الثّرى،وهَذا أمرٌ أَقلقَه خوفاً عليهِ.همسَ الحاجّ الطّاهر فِي أُذن الوردِيّ ، فِي غَفلةٍ من فضُوليّي الحارَة ، مُنبّها إِيّاه أَن يترُك قلقَه عَن يَاقُوت جانباً، قَائلاً لهُ : أنَا أعرِف مَا ترمِي إلَيه ، أترُك الأمرَ لِي ، إيّاك أَن تُشارِك أحداً مِن أَهالِينا فِي هذَا القلَق عَن ياقُوت،فحتى الحيطان لها آذان، طَمأنَه ثمّ دعَاه لِمُساعدتِه علَى إتمَام تَرتيبَات آخرِ عشَاء الفقِيد جَرياً علَى تقَاليدِ الحَارةِ .
فِي مسَاء نفسِ اليَوم الّذي وُورِي فِيه جُثمَان فَقيدِ الحَارة،أقِيم لَه حفلُ تأبِين ، تبادَل فِيه الأَهالِي مِن جديدٍ طُقوسَ العزَاء فِيما بينَهم،تحت تراتيل الجماعية لقراء القرآن، وسماع “دلائل الخيرات”، إستحضَروا مناقِبه، تأسّفوا عَن رحِيله تُليت آيَات،ورُفعت دعَوات،عادَت هامَاتُهم إلَى ايمَاءاتِها،كأنّها تحَاول أن تتخلّص مِن أثَر صدمَة المَوت،تحلّقوا مَجمُوعاتٍ حولَ موَائِد آخِر ولِيمةِ عشَاء الرّاحِل،فكل حبة من الكسكس، بحسنة، وهناك من يقول بعشرة حسنات، بدَأ النسيان بالتسلل إلى ذاكراتهم، بعدهَا انفضّوا إلَى حَال سبِيلهم تباعاً .تسرّب نسِيمٌ تائِه، يبدُو قد ضلّ طرِيقَه إلى الجنائن والعراصي،خيّم سكُونٌ ينتظِر فُرصتَه ، كسَا فضَاء أسطُح الحارَة المُتقوقِعة علَى نفسِها،لاَح نُور متَأخّر جادَت بهِ نجُوم عابِرةٌ فِي نفسِ ليلَة العزَاء،كشَف سنَاه خبَايا ظلاَل الأشيَاء المُتوارِية هنَا وهنَاك.كانَ الوردِيّ السّمسَار حينَها يتلَمسّ طرِيقهُ إلَى مأوَاهُ،تَريّث فِي مشيَتهِ،توقّف لحظَة،نفذَ بنظرَاتهِ إلَى ما وَراء سُتر الظّلام ، هناكَ طيفٌ يتحرّك في ظلاَله ، تَيقنّ أنّ شبَح الطّيف المُتحرّك لَم يكُن سِوى لياقُوت،مُحتمِيا ببقَايا أشلاَء صنادِيق خشبيّة مُتهالِكة. ولَى الورديّ أدرَاجه مُهروِلاً لاَهتاً يَختَرق متاهَات الحارَة المُلتويَة،غيرَ مُبال بظُلمتِها الدّامسَة الّتي إكتسَحتهَا، حامِلا نبَأ مكَان إختفاءِ ياقُوت للحاجّ الطّاهر الّذي نصحَه فورَ تلَقّيه الخَبر، لاَ تَترُكه يغِيب عَن عينَيكَ،علَى الأقلّ فيمَا تبقّى من هذِه اللّيلة، مُستطرِداً، إنّها فُرصتُك. لَم يجِد الوردِي أيّ ردّ فعلٍ مِن ياقُوت لمُرافقَته،إستقدَمهُ معَه إلى مَقرّ مأوَاهُ ،قدّم لَه ما يملأُ بطنَه من الطّعام ،دثّره بلحافٍ مؤجّل لوقتِ الحَاجة، تركَه يخلُد في نومِه. صبَاح اليَوم المُوالي،تعجلّ الحاجّ الطّاهر السيّر،إلَى كُوخ الوردِي باكِرا، تحمّل عنَاء المسَافة إليهِ،نقرَ بعكّازه نقرَاتٍ مُتتالِية علَى بابِه، دلفَ إلَى داخلِه،نطّ ياقُوت مِن مضجَعهِ كأنّه ينتَظر طَوقَ نجَاة،تمسّح بتلاَبيب جلبَاب الحاجّ الطّاهر،سقطَت دمعتَان من مقلَتيهِ،إنخَرط فِي بكَاء صامِت،قال الحَاجّ الطّاهر مُخاطباً الوردِيّ : إنّ جرح المسكِين لَم يندَمل بَعد ، إنّه الوَفاءُ ، أظنّ أنّ الخوفَ منَ المجهُول يسكُن إحسَاسهُ ، مسَح الحاجّ الطّاهر علَى رأسِ ياقُوت برفقٍ،ضمّه إليهِ،قالَ لَه : رفِيقُك الجَديد مِن الآن هوَ الوَرديّ ،أنتَ فِي حاجَة إلَيه ،وهُو فِي حَاجة إلَيك،وهَذا المَأوى الصّغير يسعُكمَا معاً، أغمَض يَاقُوت جفنَيه مرّتينِ علَى التّوالي، إنبلَج منهُما برِيق خاطِف كَتعبِير عَن رِضاه ، أعَاد الحاجّ الطّاهر تكرَار وصيّته للورديّ ، أن يكُون خيرَ رفيقٍ له يحسِن مُعاملتَه ،لاَ يبخَل فِي إطعَامه ،فأغلَب أهالِي الحارَة عُيونهم علَيه ، إنّه كَنزٌ مُتحرّكٌ .
كَان أوّل ظُهورٍ لياقُوت رُفقة الوَرديّ بدُكان عطارَة الحاجّ الطّاهر، كان إعلاَنا عن مِيلاد شرَاكة صدَاقة جدِيدة بينهُما ،تفادِيا لأيّ مُضايقَة، ثم قطعِا الطّريق عن الطّامعين مِن أهَالي الحارَة فِي كسبِ ودّ ياقُوت وإستثِمار خدمَاتهِ.أظهرَ الورديّ حُسن نوَاياه نحوَ ياقُوت،خرَج صُحبتَه إلَى أحَد أسوَاق المَدينةِ بَعد إستِئناسِهمَا ببعضهما ، دخَلا إلَى متجَر خاصّ بالمَلابِس الرّياضيّة،لَم يترُك التّاجر فُرصةَ عرضِ طلبهِما،نهرهُما قائِلا: السّاعة لله ،هيّا : انصرِفا بسُرعة إلَى حالِ سبيلِكما ،وإلاّ… ردّ الورديّ مندَهشاً:نَحن لاَ نُريدُ منكَ جميلاً يا هذَا،نُريدُ فقَط أن نَقتنِي بذلَة رِياضيّة ليَاقُوت هذَا الذي بجَانبِي.قفَز صاحِب المَتجر مِن ورَاء دُرجِ مَكتَب علَيه فوَاتير وأغرَاض، مُستغرباً لمَا يرَى ويسمَع، غمغَم بكلِمات انعكَست علَى قسمَات وجههِ غضباً وهُو فِي حالَة ذُهول.مسحَ الورديّ عرقاً بقِي مُتصفّدا علَى جبينِه ومُقدّمة أرنَبتِه، خاطَب ياقُوت قائلاً لَه:لاَ عليكَ يَا رَفيقِي، سنذهبُ إلَى سُوقٍ أرحمَ بنَا وبغيرِنا، يقصدُه أغلَب سكّان هذِه المدينَة لقضَاء مآربهِم دُون مضايقَات. وَلجآ معاً علَى التّوّ بوّابة رتَاج “سُوق الجّوطيّة”،تسمّرا أمَام واجهَة أوّل متجَر يكادُ ينفجِر من ترَاكم علَب بلاَستيكيّة مُكتنزَة بملاَبس قادِمة من ورَاء البِحار،إرتسمَت علامَات الإعجابِ والدّهشة علَى ملامحِهما، إبتسَم صاحِب المَتجر إبتسامَة مجامَلة، أدرَك مدَى حيرَة زبُونيهِ المفترضينِ في نظَره، خاطبهُما مِن عمقِ المتجَر قائِلاً :”أترُكا حيرتكُما جانباً، سوفَ لن تخرُجا من هذَا المحلّ إلاّ وأَنتُما فِي أبهَى حلّة وأكثر سَعَادة”. لم يَنتظِر الوردِي طويلاً ،بادَر الرّجل بطلَبهما،هبّ صاحِب المَتجر واقفاً ، تارِكاً خلفَه مقعداً مُنبطحاً فاغرا فاه؛ أتَقول سيّدي بدلَة رياضيّة تُناسب مَظهر رَفيقك هذَا الّذي يقفُ بجانِبك ؟ أهذَا ما تقصِده ؟ أومَأ الورديّ برأسِه،بينمَا إكتفَى ياقُوت يتلاعبُ بحَدقَتي عينيهِ تعبيراً عن رضَاه، وَأخيراً سيحضَى بإلتفاتَة طالَما إنتظرَها.قالَ التّاجر فِي خَاطره،كلّ شيء مُمكن في هذَا العَالم الّذي لاَ حدُود لجُنونه.إنتقَى لهُما بدلَة رياضِية بألوَان ساخنَة،إرتدَاها ياقُوت علَى الفَور عكسَت مرآة مُتقوقِعة بالرّكن الخَلفيّ للمتجَر مظهرَه الجدِيد ،إنخرَط فِي رقصَة فرديّة أثارَت إعجابَ صاحِب المتجَر الّذي أصرّ أن يُهديَه قبّعة رياضيّة تحمِل علاَمة مُسجّلة:أنتَ الآن يَا عزيزِي صرتَ كائناً دوليّا بإمتيَاز.إلتَفت التّاجِر مُخاطباً الورديّ : “لَقد برهنَ لي رَفيقُك أنّ الحيَاة عامِرة بالغَرائب،ليسَت هنَاك حدُودٌ بين الحقِيقة والخَيال ،همَا وجهَان لعُملَة وَاحدة … ألَيس كذَلك ؟”
إنتشَى ياقُوت بألوانِ بذلتِه الرّياضيّة،بدَا مظهرُه أكثَر إثارَة وغرَابة ،لَم يكترِث الوَرديّ لنظرَات أهَالي الحَارة بعدَ أن عَاد من جَولة التسوّق ،قال أحدُهم :يا سبحان الله ! عرَف الوردِي مِن أين تؤكَل الكتفُ ،هذَا مثلٌ سائِر ينطبقُ عليهِ،شاطرَه أحدُ الجلَساء قائِلاً : الورديّ سمسار، قريباً ستسمعُون عن الثّروة الّتي سَيجنِيها مِن خدمَات ياقُوت.
إكتَفى جلِيس ثَالث كَان مُرابطًا قُرب دكّان الحاجّ الطّاهر العطّار: لا عليكم “عِش نهَار ، تسمع خبَار”.لَم تكُن الأيّام واللّيالِي بينَ ياقُوت والوردِي كافِية لوحدِها لتجَاوزِ هواجِس التّقرّب ومسافات الإنتظَارات،رغم إشارَات الودّ بينهُما،كانَ كلّما تخلّصا من ديمُومَة متاهَات ساحَات المدينَة،شوارعهَا،مقاهِيها،مآثرهَا التّاريخيّة…يلجآن مِن جدِيد إلَى كوخِهِما الّذي يأويهمَا،يتنفّسان الصّعدَاء من تعَب جَاثِم كلكَل علَى صدرَيهِما،يشرَع الوردِي في تحضِير إبرِيق شاي إعتَاد علَيه يعِيد السّكينَة إلَى رُوحهِ،بينَما ياقُوت لاَ يبالِي بخَرير كُؤوسه رغمَ نكهَة روَائحها العِطريّة المُنبثقَة مِن قعُورها، يَكتفِي فقَط بمُتابعَة مَا يجرِي أمَامه ،يُقلّب حَدقَتي عينيهِ المُتحذلقَتينِ بغمزَاتهَا ،بعدَ أن أضفَت عليهِما شمعَة اللّيل ومضَات خاطِفة،وهي مُتربّعة علَى دكّة شمعَدان طينِي مُثقل بترَسّبات فتيلَتها،بعثَ نُورُها فِيه ذِكريَات أحدَاثٍ عاشَ فصُولَها،سافرَ عَبر أعمَاقه إلَى الأدغَال الّتي تسكُن رُوحه،وإلَى خمَائلها الصّنوبرِيّة الّتي لَم تتوقّف علَى إِلهام فِطرتِه.تزحزَح ياقُوت ِمن مكَان جُلوسِه قليلاً،إتّخذ وضعاً قُرفصَائيّا ،عكسَ وهجَ ضوءِ شمعَة اللّيل مِن جَديد طَيفه الّذي حوّله إلَى لوحَة جداريّة إلتقطَها الزّمانُ،تنازَعتهُ خواطِر طارِئة ،أحسّ أنّ صوتاً مُنسابًا بعيداً في البَراري يُناديهِ،كلّ شيء فِي سَبيل تِلك الأَدغال السّاحرة يهُون، مَاذا لَو أرشَد رفيقَه الوَرديّ إلَى المَال المنسيّ ؟.أرسَل إشارَات غَير مُتوقّعة،إنتشَرت إيحَاءاتُها دَاخل فضَاء الكُوخ، التقطَها الورديّ،حلّ شيفرَتها بسُرعَة فائِقة،قَال متوجّساً: هَل حانَت ساعَة الفَرج؟ إلَى متَى تظل أنتَ الضّحيّة يا مِسكينُ !؟؟ فِديتُك بَين يَديكَ.
خرَج ياقُوت مِن الكُوخ يُلازمُه طيفُه يطوِي مطبّات السّطوح ، لَحقهُ الوردِي حامِلا فانُوساً به شمعَة نصفُها إحترَق مُقتفِيا أثرَه ،توقّف أمَام كُوخ أصبَح مهجُوراً ،قَال الورديّ :هذَا كُوخ المرحُوم العَاطي الله ،ألَيس كذلِك؟اكتفى يَاقوتُ بحرَكة رأسٍ عمُودية بعدَها ولَج إلَى داخلِه،انتشَر ضوءُ شمعَة الفَانوسِ يملأُ فضاءَ الكُوخ،أزاحَ ياقُوت بقايَا أشيَاء زَائدة مُتراكمَة علَى بعضِها،استخرَج كيساً أسودَ الّلون ، وجدَ صعُوبة فِي انتشالِه من بينِ تلكَ المُتلاشِيات،بادَر الورديّ في مسَاعدتِه وهُو في حالَة ذهُول.
غادرَا معاً الكُوخ المهجُور والكِيس فِي حوزتِهما إلى مأوَاهما .تبّث الوردِي شمعَةً عذرَاء فوقَ الشّمعدَان الطّيني ،جلسَ ياقُوت قُرفصَائه،عينَاه تتنقّلانِ بَين الكِيس المهجُور وكوّات جُدران الكُوخ ،كمُتفرّج مُحترِف يُتابعُ مُقابلَة حاسمَة فِي كرَة المضرِب.كشَف الوَردي ما بِداخلِ الكِيس صاحَ مِن هولِ المُفاجَأة:”آش…آش…آش هَذا؟ ” اقتَرب منهُ غيرَ مُصدّق قَائلاً : هذِه فلُوس كَثيرَة ، هَل هِي للمرحُوم العَاطي الله …؟أعَاد المَال إلَى الكِيس ،وضَعه فِي صندُوق حديديّ، إستعَان بقُفل إضافيّ سَمِيك لحمَايتِه من الضّياع ،ولِم لاَ من يَاقُوت نفسه،ألَيس هُو مَن كشَف عَن سرّ المَال المنسِيّ ؟لَم يهدَأ لِلوردِي بالٌ لمَا تبقّى من ليلَتهمَا الموعُودة ، المَال الّذي أصبَح بينَ يديهِ هُو نِهايةُ العلاَقة بينَهما، قائِلا : “لاَ رُفقةَ بينَنا بعدَ الآن يَا ياقُوت ،لقَد أَهدَيت لِي الكنزَ الّذي طالَما ترقّبتُه،كُنت أعلَم أنّ رفيقَك السّابقَ، كَان بخِيلاً يعشَق كنز المَال وبرِيقَه، الآن لاَ يُمكن أَن أكُون جلاّدك الثّاني.لَم يَنتظِر الوردِي السّمسَار شرُوق شمسِ الصّباح ليُنفّذ مَا عزَم القِيام بِه،فتَح بابَ مأوَاه علَى مِصرَاعيهِ ،تدفّق نُور الفَجر يملَأ جَنباتِه قَبل رَحيلهِ،قفزَ ياقُوت مِن مرقَدهِ ،ساوَره إحساسٌ متوَتّر،ترقّب كلّ شَيء حتّى الأَسوء منهُ،بعدَ أن فضَح أمرَ المَال المنسيّ،تساءَل بكلّ غرَائزِه كمَا لو أنّه إستعَار عقلاً كامناً ليساعِده علَى الإنعتَاق مِن عالَم لَيس عالَمهُ .نتفَ بعضَ الشّعيرات العَالقَة بقُرب حلمَتي أذُنيهِ ،ثُمّ ظلّ يترقّب اللّا مُنتَظر … ؟.