نظمت جمعية ابن يوسف للثقافة والتنمية والتضامن مساء يوم السبت 7 يناير 2022م أمسية تكريمية لمجلة جامعة ابن يوسف ولعمدتين من أعمدتها هما الأستاذان إبراهيم الهلالي رحمه الله والأستاذ محمد الطوكي أطال الله عمره .
وكان لي شرف المشاركة فيها حيث أشرت في مداخلتي إلى ضرورة الانكباب على النهج الفكري الذي يجمع بين خريجها وأساتذتها وطلابها للدلالة على المسار الفكري الرائق الذي ساهمت به الجامعة المذكورة من خلال مواضيع متعددة ومتنوعة ، تجمع ما بين الدراسات النقدية والشعرية والفقهية والوطنية والعربية والإسلامية وغيرها ، وسأحاول في هذا المقال الاستدلال على هذا المنحى الفكري المهم ، وهو من أبرز وأوضح البذخ العلمي الذي جسده المنتمون للجامعة اليوسفية على مر العصور .
الأستاذان إبراهيم الهلالي ومحمد الطوكي جسدا تقاربا فكريا لرافد فكري مهم اضطلعت به الجامعة اليوسفية ، توخى تأمل أحوال المجتمع المغربي وتحليل ظواهره السلبية والإيجابية ، وكان الهدف هو نشدان التقدم والتجديد والتطور بنفَس يتتبع وينقب ، ويقارن ، ويستنجد باعتدال وتنوير الشخصية المغربية في مختلف المحطات التاريخية المتعلقة بها .
اخترت للأستاذ إبراهيم الهلالي مقال : ( ظاهرة تبذير الأموال في المواسم المنحرفة ) واخترت للأستاذ محمد الطوكي مقال : ( الاحتفال بالمولد النبوي في المغرب بين المدونات الفقهية والمصادر التاريخية ) وقد وردا معا في العدد العاشر والحادي عشر من مجلة جامعة ابن يوسف سنة 2011م ، الصفحة : 263 / 181 .
المقالان يتشابهان في الكثير من المعطيات المنهجية والفكرية وكأن الكاتب واحد ، وهذا ما يسمح لنا باستنتاج أولي ، يشهد على جودة تكوين طلبة وأساتذة الجامعة اليوسفية ، ورغبتهم الملحة في المشاركة الفكرية الوطنية العامة ، كما نكتشف حجم الغيرة التي كانت للجيل المذكور على البلد برمته ، وأنهم يحملون مشاعل النور ، ويمثلون الأمل في الإنقاذ والسمو ، والحث على نشر المعرفة الصحيحة وتكوين النشء تكوينا علميا وايجابيا .
1 – على مستوى المنهج :
يجب أن ننتبه إلى أن المواضيع التي يخوض فيها العلماء الحقيقيون هي مواضيع عامة ، تهم المجتمع ، وتبتغي الإصلاح ، وتربط عجلات التاريخ ببعضها ، وتتسم المعالجة بكثير من الحيطة العلمية اللازمة ، لأن موقع العلماء كان ينبي دائما عن الاعتدال والانفتاح الإيجابي ، وإيجاد الحلول المتعلقة بالقضايا والنوازل وسط حركية علمية مجتمعية ، لا تنتقص من المخالف ، ولا تثير الفتنة ، ولا تركن إلى الذات مهما بلغ علو كعبها العلمي إلا بما يسمح به سياق التبيين والتوضيح الضرورين ، والأكثر أنها لا تعرض بالمعارضين إذا كانت معارضتهم علمية وبعيدة عن مآرب الذات المضرة ، ولا تعترض على أقوالهم أو تُقصِيها من حق البحث العلمي ما دامت لها وجوه الحضور والنقاش .
انطلاقا من كل ما سلف يمكن أن نشير إلى أهم الملامح المنهجية الواردة في مقالي الأستاذين إبراهيم الهلالي ومحمد الطوكي كما جاءت الإشارة إليهما فيما سبق وفق الشكل التالي :
1 – ا – توصيف الواقع المحيط بالموضوع المطروح : والمقصود هو إجمال القول أولا في كل ما يقرب الموضوع من القارئ ، ويحمسه للنظر بانتباه ، ويجعل منه عنصرا فعالا ومتفاعلا ، ومشاركا في النهاية برأيه ، يقول إبراهيم الهلالي في مطلع حديثه عن ظاهرة تبذير الأموال في المواسم المنحرفة : ( مما لا شك فيه أن علماء المسلمين اختلفوا منذ القرون الأولى في مسألة تكريم بعض أولياء الله الصالحين ، نور الله ضريحهم ، بمواسم سنوية يجتمع فيها الناس في أماكن تجاور الضريح ، موضوع الموسم ، وتنفق فيها أموال طائلة بقصد إعداد الأطعمة الفاخرة ، والأجواق المختلفة ، والفرسان الذين يتبارون في الاحتفال بجيادهم وبنادقهم ” 1 ” ) .
ويقول الأستاذ محمد الطوكي في تحديد معالم موضوع الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في المغرب بين المدونات الفقهيةوالمصادر التاريخية : ( المولد المقصود هو مولد خير البرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا بأس بتقديم ديباجة موجزة ، إذ المقام يقتضيها…..” 2 ” ) .
1 – ب – تقديم الاحترازات الواجبة لحماية السياق المراد من الفهم المنحرف : هذا المعطى الجديد يُفهم منه أن الموضوعات الشائكة في المجتمع تقتضي مثل هذا الموقف المتزن حتى لا يُساء إلى الموضوع ، أو إلى صاحبه ، فالكلام على تبذير الأموال العامة في المواسم المنحرفة ، وكذلك الأمر بالنسبة لطقوس الاحتفال بالمولد النبوي في بلد مثل المغرب يمكن أن يثار حوله نقاش مستفيض ، ويمكن أن يُصحَب بزوابع متنوعة ، قد تكون حقيقية ، وقد تتلون بسوء النية والظن ، يقول الأستاذ إبراهيم الهلالي : ( وخلاصة القول فإننا إذا كنا نتفق مع المسؤولين المغاربة في وجوب تنظيم المواسم المغربية لبعض رجال العلم والتقوى والسياسة والتاريخ والوطنية والجهاد من أمثال الإمام العظيم المولى إدريس الأكبر ، والإمام الشيخ المولى عبد السلام بن امشيش ، والإمام المجاهد الشيخ سيدي بنسليمان الجزولي فإننا لا نتفق معهم في تبذير كثير من أموال الضرائب ، والجماعات المحلية على إقامة مواسم ترفيهية ، ظاهرها تكريم ولي صالح تغمده الله برحمته وباطنها تشجيع السياحة المتبرجة ” 3 ” ) .
ويقول الأستاذ محمد الطوكي عن حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف : ( كثرت الأقاويل قديما مشرقا ومغربا ، وقد استصحب متفقهة اليوم اجتهادات السابقين ، فأضحوا بين مجيز محبذ ، ومستنكر مبتدع ، وانتقل هذا الأمر إلى عامة الناس الذين تداولوه في مجالسهم الخاصة ، ويستفتون عنه أحيانا في حلقات الوعظ والدروس العامة ” 4 ” ) .
1 – ج التعرض لمختلف الأقوال بالدرس والتحليل : وهو إجراء جديد لمعنى الاحتراز المتقدم لأنه يلزم الكاتب بالتقصي والتتبع حتى لا يُحسب على تيار ضد تيار آخر ، ولاسيما في المواضيع ذات الحمولة الاجتماعية والدينية مما تكون له امتدادات وتشعبات متعددة على صعيد النقاش والأقوال والاستنتاجات ، وهنا بسط الأستاذ محمد الطوكي مختلف الآراء بأدلتها المتنوعة ما بين المجيزين للاحتفال ، وما بين من يقولون ببدعيته ، منطلقا من الاعتبار الذاتي الخاص به في قوله : ( وهذا ما حذا بي إلى اقتحام غمار هذه الإشكالية بدل الازورار عنها ، علما أن مثل هذه القضايا التي قد تبلبل الرأي العام مما يتحتم على العلماء تناوله وحسمه ، إما ببيان الحكم بالنسبة للعامة ، أو الحكم ودليله لمن هو أهله ، وهكذا جاءت مداخلتنا مراوحة بين المنظور الشرعي، والواقع التاريخي الحضاري ” 5 ” ) .
وعلى هذا المنوال صار الأستاذ إبراهيم الهلالي فقد تعرض لما قاله مجموعة من علماء المغرب في القديم والحديث من أمثال محمد بن العربي العلوي وعلال الفاسي وشعيب الدكالي وغيرهم ، ووصف إجماعهم بقوله : ( فكانوا كلهم يصرحون في محاضراتهم ومجالسهم العلمية بأن هذه المواسم التي تقام بشكلها المعروف في مختلف المدن المغربية تعتبر بدعة كبرى من البدع التي صنعها الناس في المجتمع ، وأن أولياء الله الصالحين طيب الله ثراهم قد أغناهم الله عن هذه المواسم المنحرفة التي تقع فيها أحيانا بعض المنكرات خارج الضريح ” 6 ” ) .
1 – د : إبداء الرأي العلمي النهائي : وهنا تبرز نفحة الاعتدال والاتزان والانفتاح عند علماء ابن يوسف وطلابها ، كما تبرز ملامح الوطنية بمعانيها الدينية والتاريخية والجغرافية ، فالرأي العلمي كان يعضد كل تلك الأبعاد ، وكان يعمل على نشرها بين الناس العامة والخاصة ليبقى المغرب قائما بسماته الفكرية والعلمية المنتشرة في أرجائه ، والجامعة لأشتاته الزمنية والمكانية في مختلف محطات التاريخ المعرفي المغربي ، يقول إبراهيم الهلالي : ( ويؤسفنا أن نرى كثيرا من المتصوفين المنحرفين الذين يستغلون تلك المواسم المنحرفة ، ويدعون إلى تحقيقها ، والإنفاق بسخاء عليها يؤسفنا أن نراهم أو بعضهم يرمون حبالهم على بعض المواطنين المشهورين بشذاجتهم فيستغلونهم باسم الدين ، وإقامة المواسم باسم التصوف ” 7 ” ) .
أما الأستاذ محمد الطوكي فقد أشاد بالمعالم والإنتاجات الثقافية التي راكمها المغاربة بفضل الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، يقول : ( وقد انعكست معالم تلك المسيرة في مختلف الميادين فاغتنت الثقافة المغربية بمكتبة زاخرة بالمصنفات في السيرة ، وتٌفنن في نظمها ، بل من العلماء من كتب في ناحية خاصة من نواحي السيرة كأعلام النبوة ، والمعجزات ، والمعراج ، والمغازي ، والنعال ، ونظام الحكومة النبوية ، والأسماء المحمدية ، وشيبته عليه السلام ، وخضابه وشمائله ، وأكله ولباسه ، أما عن مولده عليه السلام فحدث ولاحرج ” 8 ” ) .
ما فعله الأستاذان إبراهيم الهلالي ومحمد الطوكي في موضوعهما المشار إليه في السابق يؤكد على النفحة العلمية التي تحكمت في عملية التتبع والتحليل ، على الأقل من جانبين كبيرين : جانب الإحاطة بالموضوع ، وترتيب فصوله الفكرية ترتيبا منطقيا ، وجانب الإيمان الشخصي ، والموقف الذاتي إزاء قضايا الوطن الدينية الكبيرة ، وأرى أن الرجلين عندما خاضا في الموضوعين قد غامرا كثيرا ، وأن محبة الدين والدفاع عن الوجه الصحيح منه كانت هي الحافز للبحث والكتابة ، ولعل الموضوعين يتكاملان من جهة مفهوم الإصلاح المنشود للوطن في ذلك العهد .