ثقافة قِصة قَصيرة ٌ… إنـــبِــلاجُ نــجُـــومٍ 25 يوليو, 2023 85٬192 0 FacebookTwitterGoogle+البريد الإلكترونيPinterestLinkedinTumblrPrint إنــبِــلاجُ نــجُــومٍ كُنّا ندَاومُ علَى مدارِ فصُول السّنَة، ونَحنُ صِبيَة، مَا عدَا أَيامِ الجمُعةِ والسّوقِ الأُسبُوعِيّ ، علَى الذّهَاب إلَى كتّابِ القَريةِ القَابعِ تحتَ أقدامِ سفحِ تَلّ مُعشوشبٍ شِبه مُنعزلٍ ، حَيثُ الحَصيرُ والأَلواحُ والفَقيهُ المُهاجرُ فِي إنتِظارنَا، نَملأُ فضاءه بقراءَتنَا الجَهريّةِ المُتوتّرَة ، التِي تَخترِق كواتِه المُترامِية علَى حِيطانِه المُبلطَة بالطّينِ المحلي، كَأنّنَا فِي سبَاق مَحمُوم لِكسبِ رهَان السّبق فِي الحِفظ و الإستِظهارِ والإفلاَت مِن وخزَات أقلاَم قصَب بري شارد تَترقّب أسفَل ذُقُوننَا . كلّما خفّ صريرُ أصوَاتنَا ، إنتَصبَ الفَقيهُ واقِفاً مثل سَاري سَفينَة يَستنفِر بِشراعِه فتُورَ ريَاحٍ لَم يَحن وقتُها بعدُ،تَندفعُ مَوجاتٌ صَوتيّة تائهة بَين مدّ وجَزرٍ ، تتَزاحمُ في مَسالِك حنَاجرِنا الفتية، تسبِقها دُموعٌ وَجلَة ، تُؤجّجهَا قَعقَعةُ عصًا طويلةٌ ورفيعة، تَتقافزُ فَوقَ رؤُوسنَا المَحلُوقة ، مُخلّفة وَراءها جُروحاً تنزِف دِماءً طريّة،وكدماتٍ صامِتةً مُتوارِية فِي أقفَاصِ صدُورنَا،يعُود الفَقيه إلَى جلسَته التّربيعِيّة فَوق مصطبَة تُوازِي فِي علُوّها سَقف جُلوسِنا،تتبَوّأ صدرَ الكُتّابِ، يُهدّئ مِن رَوع رَبو شَرسٍ يلَازمُه بينَ الفَينةِ والأُخرى، يُوزّع عَلينَا نظَراتٍ ثَاقبة،قَبل أَن يترُك لَنا فسحَة زَمن لإستِرجاعِ أنفَاسنَا وَتضميدِ جرَاحنَا ، يُردّد عَلينَا أكثَر مِن مرّة، أَن مَا يحمِلُه فِي صَدرهِ، يُشيرُ إلَيه بقَبضةِ عصَاه، لعَظيم وثَقيل، ومَا هجرَتُه إلَى قَريتِنا إِلاّ لِيُودِعه فِي صدُورنَا . كَانَ كلّ واحِد منّا يتحَسّس صدرَه، نَتبادَل النّظراتِ خِلسةً فِيما بينَنا ، لَم يَتجرّأ أيّ واحِد منّا أن يَسألَه عَن الحِمل الثّقيلِ، ولِماذَا هاجَر إلَى قَريتِنا لينقُله إلَى صدُورنَا، كانَت عيُوننَا تقُول أنّ ما يسعَى إلَيه أكبَر من طَاقتِنا، لَكن مَع ذَلك كنّا نُومئ بِرؤوسِنا الجَريحَة عندَما يُحملِق فِي وجُوهنَا مِن جَديد، كَأنّنا نَتقاسَم معَه عِبء أمَانة الحِمل الدّفين، الّذي يَسكُن صدرَه. فِي كلّ مساءٍ كنّا نَتلُوا مَا تيسّر ممّا دونّاه علَى ألوَاحنَا، وحفِظنَاه مُعتمدِين علَى ذاكرَتنَا ، يَحثّنا الفَقيهُ علَى رفعِ عقائِرنَا حتّى يتردّد صداهَا في أجوَاء القَرية و مَداشِيرهَا ، كأنّه يبعَث برَسائِل إلَى من يَعنيه الأَمر ، هُم في نَظرِه أدرَى بمضمُونِها، عندَما ننتَهي مِن ديمُومةِ تلاوَتنَا المَسائِيّة، نُغادِر الكُتابَ إلَى حالِ سبيلِنا، بَعد عَادةِ تقبِيل يَد الفَقيهِ، وسمَاع لاَزمةِ دُعائهِ لنَا بِصوتٍ فاتِر “الله يفتَح علِيكُم”،نَهرعُ مباشَرة إلَى بيوتنَا كلاجئين إليها غَير مُبالينَ بالإرهَاق،الّذي أرهق طَراوَة قصَباتِنا الهَوائيّة، يتملّكُنا الخوفُ والتّرقّب قبلَ أَن يَجنّ اللّيل جنُونَه، ويُرخي سُدولَه علَى جمِيع المَسالِك المُؤدّية إلَي مآوينا،ويُغرقَها فِي ظلَامهِ الدّامسِ، كانَ اللّيل الّذي يَأتي إلَى قريَتنَا بهِيمًا بدُون نُجومٍ، كُنت أشعُر بالخَوف عندَما أستشعر أغوار جوارحي، بنوايا حفيف خطوات ظّلام أخرس تسعى لإنبلاج نجوم فتية تَعـِـدُ بالنّور القَادم، لَم يكُن ملاَذي مِنه آمناً سوَى بجوَار جدّتي، رَغم أنّها فِي رذِيل عُمرِها، لقد سَبقنِي أخِي إلى الإحتِماء بعبَق رَحيقِها، لَكنّه خرَج فِي ليلَة مِن ليالِي قريَتنا وَلم يعُد، كانت خُطواتُ الظّلام لَه بالمِرصادِ،لطالما سأَلتُ جدّتي عَن غيَابِه، كانت تُقرّبني مِنها أكثَر،تجيبُ بحَشرجَة تَتكسّر دَاخلَ أعمَاقهَا كشَلاّل مُترنّح ، بلاَزمتَها الّتي لاَ تُبارِح شفَتيهَا : ” البرّانِي عقُوبتُو لبلاَدُو….البرّاني عقُوبتُو لبلاَدُو….” كنتُ أعشَق حكَاياتِها الخَالدَة لأُقاوِم بِها خَوفي مِن عَتمَة اللّيل الّذي يُحاصِر قَريتَنا، عِندمَا أَصير بَين أحضَانِها ، أَسمعُها تهمِس فِي أُذنِي : ” النّجومُ يا فَتى وإِن غَابت، عِندمَا تعُود هِي مَصابِيح سِراجِها يُبدّد ظُلمَة الأَمكنَة مَهمَا إدلَهمّت “،كُنت أتسلّل إلَى عَالمِها الدّاخلِي حتّى لاَ أقَاطِع إبتِهالاَتِها، الّتي دَأبَت علَى تَرتيلِها، يَنفطِر صوتُها السّجيّ تسبِيحاً، يَنبلِج حَكيُها المُسافِر فِي كَبد اللّيل بَاحثاً عَن منافِي نُجُوم قَريتِنا، أَتخيّل أنّها إلتَحقَت بِأبطَال حِكايَاتها لِتشارِكهُم مَعركَة بُطولتِهم المَلحميّة ، الحُريّة غَاليةٌ كلّ شَيءٍ يَهُون فِي سَبيلِها، أَكونُ أنَا بِدورِي أَركبُ مَطيّة مُغامَرة وُلوجِ مِحرَاب أَحلامِها، هُناكَ أتصَفّح ذِكريَات سِنين عمرِها الخَوالِي، أتأَمّل تفَاصيلَها ، أتَحسّس معَالمَ خرِيطتِها ، لكِن مَا كَان يُثيرُني ، هُو تلكَ السّبحةُ الّتي حَولتهَا إلَى قِلادَة أسكَنتهَا بَين ثنَايا جِيدهَا، إِستشعَرتْ حِيرتِي فِي خِضمّ حَكْيهَا، لَم تتأَخّر فِراستُها، خَرزاتُ السّبحة هِي بِعددِ النّجوم الّتي غيبَت عَن سمَاء القَريةِ، وحَفيدهَا أخِي فَارِسها المُبجّل ، شَعرت برَعشَة طَارِئة، أَدركتُ رَغم يَفاعَتي لِماذَا لَيلُ قَريتِنا بِدُون نُجومٍ، إستَحضَرت وأنَا أغَادِر مِحرَاب جدّتِي، حِكايَة الفَقيهِ المُهاجِر، وعِبء الحِمل الثّقيلِ الّذي يَسكُنه فِي صَدرِه، ولِماذَا يرِيدُ أَن يَنقلَه إلَى صُدورِ صِبيَانِه، تَساءَلتُ هَل الأَمرُ عظِيمٌ عِندَ جدّتي وَالفَقِيه المُهاجِر ؟شَعرتُ بصُداعٍ ينَاوشُ فروَة رَأسِي،إستَأنستُ بمُداعَبة جَديلَةٍ مِن جدَائِل جدّتي، الّتي يَقترِب لَونُها مِن لَون حُمرَة غرُوبِ الشّمسِ فِي فصلِ الخرِيفِ، كأنّني أستَنجدُ بهَا مَرّة أخرَى، لِتنتَشلَني مَن تُنازِع فِي خاطِري،يَعُود صَوتُها الرّخيمُ الحلوُ يختَرقُ مَضجَعها قَائلَة :” أترُك أحلاَمكَ أيّها الفَتى تُسافِر إلَى حيثُ تشَاءُ ، أَرضُ الله وَاسعَة ، بَعدَ العَتمَة وإِن طَالَت يَأتِي النّور…. “ أَحسَستُ بدِفء فَرحٍ طفُولِي غامِرٍ يَملَأ كيَانِي، إستَسلَمت لِنومٍ حالِم تُبارِكُه دَعوَات جدّتي، فِي إنتِظارِ النّور القَادِم وَعودَة نُجُوم القَريَة مِن مَنافِيها لتَتأَلّق مِن جدِيد فِي سَمَائِها.