.,,,,,,,,مثل فارسٍ أسطوري يعتزمُ الدخولَ إلى لـُـجــَّـة الملاحمِ، وقفَ أمام باب الشُقة الموعودة، خالسًا بوميضِ حَدقتَيْ عينيْهِ لون بابها الأرجواني الباذخ، خالجَهُ شعور فياضٌ، وتراشقاتِ أحاسيسَ عاليةٍ ومُتتابعةٍ، بأن فراسته دليله، سيبحر في عباب متاهات متوارية خلفَ باب هذه الشُقة، طرقَ بضربات خفيفة و مُتمايدة على صفحة الباب الخشبي والمُزركش بالنقوش وبالزخارف، توقفَ بُرهة زمن مُنتظرًا، عائدا إلى سكينته، ووثوقه بنفسه، ثم كرر نقراته من جديد بأنامله كعازف بيانو يداعب لوحة مفاتيحه، يرنو إلى انبلاج صدى أنغامه الحالمة، سمع صدى تثاؤب، وحفيف خطوات متثاقلة ناعسة، تلامس بتؤدة أديم بساط أرضي، يعقبها صوتٌ فاترٌ يسترجعُ صحوتَهٌ : “من ؟ مَهلاً، أنا قادمٌ”.
…….فُتحَ باب الشُقّة، كان الطارقُ شاباً وسيماً في بداية عقده الثالث،مُرتدياً بدلة زرقاء على قميص أبيض وربطة عنق فراشة “بابيون”،طوقت جيده بلمسة دافئة وجذّابة.
بادر الشاب: هل تأّْذن لي أيّها المبجل، لنحتسي معا بعضاً من القهوة ؟ إستطرد قائلاً بعد أن عدّل من وضع حقيبة يدوية رجالية محمولة على كتفه: إعتبرني ضيفكَ في هذا الصباح الجميل المفعم بالدفء،تأمله صاحب الشقة، انبعثت من جوانحه، بوارق نداء مفاجئ ، ومشاعرَ دافقة،كأنها كانت كامنة بدواخله، ثم أذن له بالدخول دون تردد، قبل أن يلتمس المُضيف لحظة زمن يفرضها واجب الضيافة.
………جلس الشاب يترقب على أريكة جلدية بُـنية، ناعِمة ومُريحة تمتصُ التعبَ، تزيدُها زخارفها الكلاسيكية بهاءً، ووهجًا على وهج، يستطلعُ الشُقةَ بعينيْهِ الحالمتين، شُقة هادئةٌ وأثاث راقِيٌ، مُنتشيًا بترتيباتها الأنيقة، الأرضيات الخشبية بلونها الطبيعي الوارف، وعبقها المتميز، ألوان الجِداراتِ المتدرجة من القرمزي الهادئ إلى الأبيض الحِيادى، تُضيف على تصاميم الشُقة بهجةَ وبساطة ممتنعةً واضحتين، لمسات الأثاث هنا وهناك، تُكمل تفاصيل الشُقة، مثل لوحةٍ سرياليةٍ باذخةٍ، تزيدُ من رونقِهَا أضواءُ المصابيحِ المنزويةِ والخافتة، والشمعدانُ النحاسي على الكنبةِ بمحاذاة الحوض الزجاجي للأسماك الملونة، يختزل كل أسرارِ الأعماقِ البحريةِ،ويومياتِ الحياةِ بالمحيطاتِ، أبَّهَــةُ اللوحات المائيةِ والأخرى الزيتيةِ على الحيطانِ، مزهريةُ السَوسن المُتعرش بين وُرَيقاتِه، والورود المتفتحة، والياسمين صُحبة البراعِم الطموحةِ، كأنها أحلام تُحلق مع نوارس مرافئ البحر المُشاكسة، والعاشقة لزرقة الأفق على مرمى البصرِ، والبُسطُ الجِدارية في الرواق المُؤدي لباب الشقة، تسرد حكاياتٍ عن تناغُمِ خيوطِ الصوف مع جميع معاني الألوان،ما بين الأصفر الفاقع، والأزرق النيلي، والأحمر القاني، والأبيض الخجول، حِبكةٌ متوارثةٌ من نباتاتِ الأرضِ العطريَةِ وقواميسَ قوس قزح، ودقة أصابع النساء الناسِجاتِ ،كأنها أنشودةٌ للفرحِ، وسمفونيةٌ تعزفُ مفاتنَ الذوقِ، وصفاء روح البراري والأودية.
……..أحضرَ الكهلُ صينيةً من خشبِ العرعار البُـني، المُضمَّخ بنسائمِ الغاباتِ وعطرِ المروج، عليها فِنجانين من القهوة، أحدهُما بدون سكر، وضعَها على منضَدة دمشقية مرصعة بأصداف بحرية متداخلة، توحدها أسلاك نحاسية رفيعة، قال الشاب بنبرة مترددة، وأصابعه تداعب فنجان قهوته: إحساس عارم ومثير، هو القدوم من الشمال، لإحتساء فنجان قهوة، هنا في الجنوب، مع رجل وقور، أراه ويراني لأول مرة …
أ فليس الأمر مذهلا، أيها المبجل ..؟
رد الكهلُ : لاعليكـَ يا بُـنَيَّ، الضيفُ حبيبُ الله، والحياةُ حُبلى باللا مُنتظر، سلسلة إمتدادات ومفاجئات هي الحياة، نقاط إلتقاء من طريقي أو من طريقكـ … تلكـ اللوحة هناكـ ، وقد لاحظتكَـ تُطيل النظر إليها، كنتُ قد أبدعتها منذ أكثر من عقدين في الشمال،من كرسي تأمل بمقهى الحافة في طنجة، وتكليل لقصة حب جارف، لازلتُ أعيش على تفاصيلها، أ رأيتَ ، الأمواج الزرقاء المدججة بالزبد، وبالحركة، تتماهى مع الشاطئ وأفق السماء اللازوردي، فتلكـ هي ميزة شواطئ الشمال المتوسطية، زرقة متدرجة إلى ما شاء الله.
……..تبَسَّمَ الكهل، وأضافَ : يا الله، هذه لوحةٌ من نِتاجي في طنجة، يا للأيام، كانت أجملُ ذكرياتي، وها هي تعيشُ معي اليوم في الجنوب.
تأمــَّــل الشابُّ اللوحةَ، يستكشفُ قِيَمها، أطيافَها، تدرجاتِ ألوانِها، ومَعانيها، ثم طفِقَ يتملـَّى في طلعة مُضيفه المُفعمة بالرقة والإخلاص والوقار: الشمال والجنوب محورَا جَذبٍ مُستَمِرٍ، يشُدُّ بعضُهما البعض، أما الآن، فقد صارا يتكـاملان.
……..تلألأتِ أساريرُ الكهلِ، ثم داعبتْ شَفتيهِ فنجانَ قهوتِه، وقال : عجيبٌ حديثكَ يابُنَي، وحكمةٌ هي إشاراتكـَ ،كأنها نظرات فلسفية، أو فن حياة، وإن كان الفن والفلسفة وجهان لعُملة واحدة.
أجاب الشابُ من فوره، ودون ترددٍ: والشمال والجنوب مصدر إلهامهما …
…….إنتبهَ الكهلُ إلى انجذابِ عيْنَيي الشاب نحو اللوحة الزرقاء، إستغربَ، تساءلَ في خاطِره عن سِرِّ إنجذابِه، أتُراها، صدفة أم مجردُ تواردَ خواطرٍ.
……….تدفقّت أشعةُ الصباح عبر سُجُق نوافذِ قاعةِ الاستقبالِ الفسيحةِ، وإقتحمتْ شُرفاتها المُشرعة على السماء، تراقصت على الكنبة، ولامستِ المِزهريات التليدة في زوايا الشُقة، عانقت الأواني الفضية على دولاب عتيق، غامرةً المكان ومن فيه بدفئها و ضيائها.
استقام الشاب في جلسته، بعدما استعان بمخدة دائرية صغيرة، كأنه يباركـ ُقماشها الناعم، وضعها تحت مرفق يده اليمنى، إستجمع قِواه، قال بثقة عالية وصوت حلو متهدّج يتملــَّكُـهُ : أستسمحك أيها المبجل؛ أ أنت السيدُ سراجُ الدين؟ قال الكهلُ بشكل تلقائي مَرِحٍ : أجل … أنا هُو … ثم أضاف مازحًا، “ومن لا يعرفُ سراجَ الدين”.
تابَعَ الشابُ : مرحى، سيد سراج الدين، هذا الجالس أمامكَ القادمُ من الشمالِ هو إبنكَ، الذي لم يسبق أن رأته عيْناكَ قــَـطُّ .
……..سادَ صمتٌ رهيبُ، كأنه وجومٌ بعد العاصفة، إسترسلَ الشابُّ: أنا نوفلُ، و”نورا” أمي كانت تعشق البحرَ، فسمتني به، ولطالما كانت تُحدثني في آخر أيامها عن ذكرياتها، عن أحلامها، عن حياتها، كانت بشائر العشق ، وعناوين الوفاء، ترتسمُ على مُحياها بإستمرار، وعندما سلمتني هذه المُذكرات وهذه الرسائل والبطاقات، أوصتني أن أشدّ الرحال إلى الجنوب، إلى هنا، عندما أنتهي من الإطلاع عليها، حيث تتوحد أشجار النخيل، مع حمرة الأسوار والمنازل، سيمفونية طبيعية متناغمة مع أفق سطوع ثلوج القمم الأطلسية.
…….كان وقع الخبر على السيد سراج الدين كشلال حياة صاخبة، وإنهمار مياه مُفاجئة، يُـنعش صمت البراري، ناوله نوفل الرسائل والبطاقات وأجندة المُذكرات، كأنه يُساعده على إمتصاصِ هولِ المُفاجأة،ثم ما إن رآها حتى إرتمى بين أحضان نوفل، جاذبية الحنين أقوى من كينونتيهما، طارا معا في لحظة فرح، غمرتهُما أمواجٌ مُتلاطمةٌ من الشَّوق و الإستكشاف يَحذوهُ الحنينُ، وقوافلَ من الحب، وتسكنُهُ أطواقُ الأبُوَةِ والبُنُوةِ، وجماليةُ الإنتماء، التي لا تنتهي، فكانت بداية سفر ،نحو عشق مُبارك سرمدي، ومناجاةٍ عُليا في الأكوان تحلقُ عبر مدارات الزمن، وتسترجع عبقَ الذكرياتِ، فبدأت الحياة تَدِبُّ فيهما، وتُرافقهما أنفاسُ روح ثالثةٍ تُتابعهما من الأعالي، تَصحَبْهُما نحو الآفاق، تُبدد كل ارتجافات القطيعة والبرودة والحسرة.