لم تتفاجأ الأم خناثة بمدى فرحة طفلتها خولة عندما أخبرتها انها ستحقق لها رغبة اقتناء الحذاء الذي سبق أن وعدتها به كهدية في عيد ميلادها الثامن. في نهاية الأسبوع الموالي رافقتها إلى السوق ، المتاخم لمتحف التراث المادي واللامادي بوسط المدينة، فضلتا السير معا راجلتين بدل استعمال وسيلة نقل عمومية، كانت الشوارع المؤدية إلى السوق تتقاطع كعادتها بين مد وجزر، المشاؤون بها لا يستغربون نوادر حكاياتها التي ألفوها، إذ غالبا ما يعتبرون أنفسهم أبطالها الافتراضيين، لاحظت خولة في دوامة الإزدحام والاندهاش أن رواد مقاهي الرصيف المنتشرة هنا وهناك يتحدثون بأصوات صاخبة تُرافقها أحيانا ذرات من لعابهم في حركات ارتدادية، تتقاذف كَنُدَف ثلجٍ تائهةٍ، تنزلقُ على حواف شفاههم، ومنها ما يبقى قابعا فوق شعيرات ذقونهم، يلوحون بأياديهم تارة كأنهم يخاصمون بعضهم، ثم يضحكون تارة أخرى ضحكا ممزوجا بسُعال مُتوثر ومُسترسل ظل إلى أمد غير معلوم، سجين صدورهم تحت رحمة دخان سجائرهم .
سألت خولة أمها : لماذا يفعلون كل ذلك؟ قالت الأم : الناس في هذه المدينة عوالم، يعشقون الثرثرة لقتل الفراغ ولو بالفراغ …ǃ حدجت خولة أمها، لم تستوعب ما تعنيه بالثرثرة والفراغ بقيت نظراتها عالقة تتراوح بين ملامح أمها ومشاهد رواد مقاهي الرصيف، خَيَّم صمت طارئ بينهما طلبت الأم من طفلتها أن لا تنشغلَ بكل هذا، حثتها أن تستعد لتجتازا معا ممر الراجلين المؤدي مباشرة إلى السوق، أطبقت بيدها على معصمها الفتي، انطلقتا مهرولتين كباقي المُهرولين أمام متاريس من عجلات مطاطية شبه متحركة، تلامس خطوطا صفراء للممر، شَحُبَ نصفها، وبدت كأنها في حالة استنفار قصوى، تُشاكس في تناوب الإشارات الضوئية المُلونة. شعرت الأم خناثة ببعض العياء، بدانتها لم تُساعدها على الهرولة، توقفت هُنيهة استعادت بعضا من هدوئها، إستجمعت أنفاسها، عدلت من وضع غطاء رأسها الفيروزي الغامق اللون، أسدلت تلابيب مُتعرشة اسفل جلبابها تلمست مفرق صدرها، إطمأنت على نقودها الورقية، فهي تعرف حقيقة المثل السائر” إغفل طارت عينك”. الساعة تجاوزت الظهيرة، والوقت اصبح مناسبا للتسوق، تواترت حركة الجولان مع ارتفاع منبهات السيارات المزعجة، والحافلات النافثة للغازات العادمة، ورنين نواقيس عربات “الكوتشي” التي تتقاطع مع صرير أحذية ونعال الراجلين المُغطاة بنقع الإسفلت وغبار الأرصفة.
اثار إنتباه خولة زمرة من النساء، يتهادين ذهابا و أيابا على الرصيف، يتمايلن، يتمططن، يتلوجن، ويتعقبن بنظراتهن الباردة السيارات التي ترتكن لفترات متقطعة على جوانب الأرصفة، أو تزلق بسرعة بطيئة نحو الأزقة الفرعية، وكزت خولة راحة يد أمها بأناملها الصغيرة، أومأت لها بعينيها دون أن تنبس بكلمة، لم تبال الأم بالوكزات المضطربة التي تلقتها، ألحت خولة عليها أن ترى ما تفعل هؤلاء النسوة، همست أمها في أذنها قائلة : أف ǃ ما شأنكـ في ذلك ؟ متى كان للصغار شأن بما يفعل الكبار ؟ ǃǃ ”.
ساد صمت حذر بينهما من جديد، أضمرت خولة بعضا من جذوة نوايا أسئلتها في خضم صمتها المفروض، هناكـ ، في أقصى الشارع ، أثارها منظر حشد من الناس يحملون لافتات عليها كتابات عريضة ملونة، يرددون شعارات عبر مكبر صوت محمول، مُـتحلقين حول عمارة زجاجية، وكوكبة من سياراتٍ داكنةٍ جاثمةٍ في حالة استنفار، بأضواء خلفية برتقالية تُومض كصخور خرجت للتو من فوهة بُركان ثائر، تردد صوت في أعماقها، “يا لها من احتفالية”،مشهد غير مسبوق على خولة، اندفعت نحوه غير مبالية، تهللت أساريرها لم تكلف نفسها عناء السؤال، تسمرت أمها في مكانها، اكتسح العرق جبينها، لعنت في خاطرها طريق هذا الحذاء المشؤوم، الذي لا ذنب له فيما تعتقد، حجمت لسانها عن تأنيب إبنتها خولة، فالمكان غير مناسب، جذبتها اليها، حملقت في وجهها، وبلهجة حادة، قالت : ” ياه ǃ لم أكن أعرف أنك فضولية إلى هذا الحد ǃ فلا تجعليني أندمُ على الخروج معكـ ، ……….
إغرورقت عينَا خولة بدموع صامتة، اكفهرت ملامحها، خبا بريق كان يتراقص في مقلتيها، إستلت يدها اليسرى من قبضة أمها، دستها مع يدها اليمنى بين ثنايا معطفها الصوفي، توجسًا من لسعات برودة أواخر فصل الشتاء، شعرت الام بحرج غائر في الصدر، ثم سرعان ما إستدركت الوضع، خفضت من قوة لهجتها العارمة، صالحتها، عانقتها بحنو، وقبلت جبينها : أيتها المشاكسة العفريتة، أنت لا تعرفين أن الناس معادن وأهواء، ويوما ستكبرين، فكل شيء بأوانه.
تدفقت الأضواء المزركشة تملأ الواجهات الزجاجية للمتاجر، بدت تحت طيفها الأحذية جذابة مثل العرائس، بوضعيات مثيرة، لم تتمالك خولة نفسها أمام جاذبيتها، تناست تفاصيل احتجاجها الصامت، كأنه لم يكن، كان حذاء أحمر قاني اللون، إنكسرت على صفحة جلده أشعة خافتة من مصباح بنفسجي، نجمها المفضل، نطت من مكانها، ابتسمت أمها خناثة تداعب بحنو جدائل طفلتها المناسبة : مرحبا، فـَـلْيَكُن حذاؤكـ ، وتمام فرحتكِــ ، يا الله، جميل، وخلاب، كيف يُلوِّنُ الأطفال العالم ببراءتهم، فهُمْ مِلحُ الأرض، وعربونَ المُستقبل .