قــصــة قـصـيرة : الخُطوة الأولى تكفي ..
أشرع نزار القرطبي نوافذ الشقة دفعة واحدة على مصارعها، وأزاح ستائرها المسدولة ذات اللون الداكن، دلفت أشعة شمس صباح خريفي مترنحة، تلامس أسطح الأشياء المبعثرة بين متاهاتها ، تواسيها، وتلملم ندوب جراحاتها المكتومة، وكأنها تنتظر هذه الفرصة الناذرة ، لتحررها من عتمة مزمنة، طالما زجت بها في غياهب المجهول .
لاحظ نزار بعد أن صحا من نوبة تثاؤب مسترسل إنتشله من دوامة الخمول ، ووسمه باليقظة، أن حالة غرفة المعيشة هي نفسها حالة المطبخ، قاسمها المشترك الفوضى والعشوائية ،تسمر لبرهة بين عتبتيهما، وكأن الأمر يحدثُ معه لأول مرة، خالجه إحساس فاتر لا طعم له، همهم ساخرا : “حياة العازب عندما تطول، لا أحد يستطيعُ كبحَ جماحها”.
تجول بنظراته في أرجاء الشقة، تشاجن حديثا منسيا مع نفسه : “الملل يولد الفشل، ويشل الرغبة في حب الحياة، أيَّما شَلل “. حركـ الأشياء المبعثرة من أماكنها، كرد فعل عابر، تولد بداخله إحساس طارئ، داهمه على حين غرة، تساءل : “تُرى، أهي بداية إنبلاج الحقيقة ؟ سمع هاتفا مهرولا من أعماقه : “يا نزار، يا قرطبي، “كيف ماكان وضعكـ، يُشعركـ بكينونتكــ ، والحياة محشوة بالتحولات ” ، تلمس معصم يده اليسرى، أحكم عليه ساعته اليدوية،تأمل الزمن الذي يتدافع بين عقربيها، إنفلتت منه نظرة جانبية، وقعت على بدلة رمادية منبطحة على أريكة إسترخاء منزوية قرب مرقد نومه، إنتابه قلقٌ مستفزٌ، أه، البدلة تختزل تجربة بافلوف، وصدى الرنين يستحوذ على أسماعه، كثيرة هي المرات التي توسل فيها من هذا البافلوف أن يحرره من تداعيات إفراز اللعاب، الذي يحاصره على مدى كل خمسة أيام في الأسبوع، مثل جحافل الإغريق الهائجين أمام أسوار طروادة، تعرش واقفا أمام مرآة مهترئة الإطار، تتبوأ صدر غرفة المعيشة، إعترضته شعيرات غطت ذقنه،تحسسها مثل أشواك صبار دقيقة، همس يداعبها : “أتركها أيها الموظف البئيس، لتزحف كما تشاء، العطلة فرصة للإنعتاق من سلطة زمن “بافلوف” ، تماهى مع إنكسارات تموجات أديم المرآة، تنفس من أعماقه، كأنه يتهيأ ليتخلص من وزر أثقل كاهله، ناوش بأنامله نتوءات أم فروته، وتراجع مبتعدا عن المرآة، تهلل وجهه، إرتدى سروال جينز باهت اللون به خدوش سطحية،وإنتعل حذاءا رياضيا للتنزه، دون أن ينسى نظارتيه الشمسية البنية،ثم أعاد للنوافذ ستائرها التي كانت متلحفة بها، فرجعت العتمة تتلبسها كعادتها، أوصد باب الشقة بإحكام، تأكد من إغلاقه، سمع بواب العمارة يحييه بتحية الصباح، شاهد سيارته تلمعُ لمعانا ، حينها فهم تحية البواب .
كانت حركة السير في الشارع الرئيسي إنسيابية ناعمة، مسترسلة ومتنوعة، باغث إحساس طارئ نزار القرطبي دون أن يجد له مبررا في حينه، أحيانا تتوالد المشاعر بشكل فجائي، تتجاوز الرتابة والسنون، لتظهر دون سابق إشعار. بدا عليه الإضطراب، ألقى نظرة سريعة على لوحة القيادة، حول بصره نحو المرآة العاكسة، تردد قبل أن يحسم في ركن سيارته بين المرآب المحروس وجانب الرصيف، فضل الأخير، عبر ممر الراجلين إلى الرصيف الثاني الذي تؤثته محلات تجارية فارهة، ولج مقهاه المعتاد، جلس إلى طاولة مفتوحة على فضاء الشارع، لم يمهله النادل، وضع أمامه فنجان قهوة الصباح، هو زبون مداوم، أخرج نزار علبة صغيرة من جيب جاكيته الداخلي، سكب قسطا من خليطها داخل الفنجان، سأله النادل عن سر الخليط، اجابه وهو يلامس حافة الفنجان، دون أن يزيح نظراته عنه : “إنه مذاق الأرابيسك الحقيقي، إنه مذاق ساحر خلاب حتى النهاية” إنصرف النادل، بعد إبتسامة مجاملة، وحركة رأس لولبية تضمر ما تضمر، أضاف نزار قطعة سكر مكعبة إلى الفنجان، تركها تذوب ببطء . تساءل في صمت عن مصيرها، بينما كانت الفقاعات الصغيرة المتوالدة تتصاعد من القهوة، كم هو مثير منظر الهواء المطرود من بين حبيبات السكر، داهمه إحساس جارف عن قضية المصير.تأمل إشكاليته الميتافيزيقية، وجد نفسه في ورطة تداعيات أفكاره، أحس بوخز دبدبات مباغثة، تكتسح فروة رأسه، سرعان ما إستفاق من وهم خواطره، إفتر فوهه عن إبتسامة باردة، تراقصت حبيبات من العرق متصفدة على جبينه، كقطر ندى وقت الفجر على زهور أبريل الخجولة، أدركــ أن السفر الميتافزيقي الذي حاول ركوب صهوته، صعب عسير، ماله والميتافيزيقا، هو ليس فيلسوفا ولامفكرا، ليس حتى رجل دين يخوض في أمور المصير وماهيته، فقط موظف جاء إلى المقهى كعادته، لإحتساء فنجان قهوة في يوم مفتوح على كل الإحتمالات.
إستعاد نزار هدوءه، عيناه شاخصتان، تأمل سيولة القهوة في الفنجان ، لم يحدد ما إذا كان السائل مركزا أو مائعا، سقط ظل حجب عنه رؤية فنجان القهوة، إنتزعه من تأمله، رفع رأسه، كانت يد ممدودة ، وضع سيجارة تبغ أشقر بين شفتيه، بقيت اليد ممدودة تنتظر، لم يفلح في تجاهلها، إقترض درهمين من النادل، وغرسهما في راحة اليد الممدودة . للأسف، الأيادي الممدودة كثيرة ومتنوعة هذه الأيام، ممدودة نحو القلوب والضمائر والجيوب، والأرزاق … إنتفض قلق عارم ظل خاملا في أعماقه، “أف ǃǃ أي صبحية هذه؟ من الميتافزيقا للسياسة”، غالبا ماكان يؤرقه التفكير في السياسة، متى تبدأ؟ متى تنتهي؟ ترى هل كان إقتراض الدرهمين من النادل، سياسة؟؟ ثم هذه الأيادي الممدودة ، إختيارية هي أم إجبارية، أم ضحك على الذقون، لا غير ؟؟ شعر بحرارة تداهم في حذر مسامات خنصره، قذف عقب سيجارته بعيدا عنه، تأسف عن الحركة التي قام بها، عالج الأمر بطريقته دون أن يثير إنتباه من بجواره من رواد المقهى، الغارقون على إختلافاتهم في تتبع المارة، وحل ألغاز الكلمات المتقاطعة، ومطاردة رهانات الخيول في ماوراء البحار، وملاحظة النساء العابرات من كل الأصناف ، قال في خاطره : مجرد التفكير في السياسة ، يتولد الإكتواء بنارها، فماذا يكون – الله يحفظ – لو تم الإشتغال بها ؟؟
… أنقذه بائع صحف متجول من هواجسه، وضع أمامه رزمة جرائد ، شرع في قراءة عناوينها العريضة والشبه عريضة ، ألوانها المطبوعة بالصفحات ، وخطوطها، صورها الأولى والخلفية التي تسترعي الإنتباه، إنتقل مباشرة إلى صفحة الرياضة، استعان بنظارتيه الطبية لمتابعة تفاصيلها، “ياه ǃ تأخروا كثيرا في الصعود إلى القسم الأول، ولكن لا يهم، متى يأتي الخير ينفعُ”، سرعان ما إنتابه إحساس مُلح، أعاده إلى سؤال السياسة، داهمه سؤال عميق حول العلاقة بين السياسة والرياضة، أيهما يسير في فلك الآخر، وأدركــ أن كليهما يحتاج لتداريب وتحضيرات، جولات وأشواط، وملاعب محددة وإحترام للوقت وجماهير، إستحضر البطولات المحلية والوطنية والدولية، كواليس الفيفا، والشركات الحاضنة العالمية ، من المشروبات الغازية إلى السيارات الفارهة ، تخلص من نظارتيه ، لم يعد يحتاج إلى إقتناع في كون السياسة تولد مع الإنسان، تلازمه وتنمو معه، ترافقه حتى في أدق حميمياته، راكم الجرائد على بعضها ترك مهمة إعادة ترتيب صفحاتها إلى بائعها، واضعا دريهمات إلى جانبها، ترى أهي ثمن التصفح والقراءة للعناونين؟ أم ضريبة لإعادة الترتيب؟ كم هو مرير هذا الحيف الذي يطالها، لم يسثتنِ نفسه منه ، دمدم بكلمات خافتة، لم تبارح شفتيه، هواء بارد هاجم شعر ناصيته، تخوف من نزلة برد ، هو في غنى عنها، يكفيه ما بذمته لصيدلي الحي، أعاده النادل إلى عالم المقهى، وضع أمامه الفنجان بعدما دب الدفء فيه من جديد، رشف منه رشفة، إمتعض من مذاقه، لاحظه النادل، وقال : ” إيــــــه ǃ رحم الله القهوة التي كانت . هل تذكر؟ كان عبق القهوة يُشتم من سوق الورد ، على مسافة ǃ للأسف، قهوة هذه الأيام، فقدت نكهتها، كأنها مخلوطة بالشعير…أو بالهموم ” ثم إنصرف.
إخترق كلام النادل نياط قلبه، مثل حقنة مخدر، تؤجل الوعي إلى حين، إرتعدت فرائصه، تحسس في حذر شديد علبة الخليط، الخوف إحساس رتيب ورهيب. إختلط عليه الأمر، تساءل في صمت عن الخليط والعزوبة والسياسة والميتافزيقا والأرصفة والجرائد… لأول مرة، أدرك أن للعزوبة نفقات كبيرة.

بدأ الشارع يزدحم بالمارة والسيارات، والدراجات النارية تمرق بين الحافلات ولا تتوقف، كأن إشارات المرور الضوئية مجرد نافلة، ملأ رواد المقهى المكان، بصمتهم وأحاديثهم، بضحكاتهم ودخان سجائرهم، أعاد نزار تموضع كرسيه محاولا التخلص من الأفكار التي أرهقته، ترك نظراته تتجول بين المارة، تملكته دهشة نحو حركية الشارع، أثارت إنتباهه إمرأة في عقدها الثالث، ماسكة بيد طفل صغير، تتملى في معروضات السلع بواجهات المتاجر الزجاجية، رشيقة الخطو، أنيقة متوسطة الطول، كعبها العالي لاينقص ولايزيد من ذلكـ ، أزياء الربيع جذابة على النساء، على الرصيف الموازي، تتبعهما من مكانه بالمقهى، أحس أن شيئا ما يتفاعل في قرارته، إندفعت يده تلقائيا إلى فنجان قهوته، إشرأب بعنقه من أعماق متاهته، بدت له ذرات تُفْلٍ عالقة بقراره، تمنى لو إستعان بقارئة طالع متمرسة لتفك سر مستقبله، يسمع صوتها المتهدج بالتنبؤات يخبره أن المكتوب على الجبين ، لازم تراه العين.