بحضور نخبة من المؤثرين العالميين في مجال الموضة والفنون، إلى جانب شخصيات مغربية بارزة في عوالم الثقافة والإعلام، والعديد من الفعاليات الثقافية المراكشية والمغربية والأجنبية، والأوساط الإبداعية التعبيرية والتشكيلية، ومصممي الأزياء والنقاد والباحثين في نظريات الفن، وعشاق الموضة والأزياء، عاشت مدينة مراكش، مساء أمس الخميس 25 شتنبر الحالي ، على إيقاعات حدث فني وثقافي استثنائي بعنوان “إيف سان لوران وكلابه” Yves Saint Laurent et ses chiens ، نظمته مؤسسة إيف سان لوران بشراكة مع متحف المصمم العالمي المذكور، قرب حديقة ماجوريل، واحتضنته فضاءات دار الحنش التي تشكل إحدى محطات التاريخ المعاصر في مراكش، بذات المؤسسة المذكورة ، حيث تم تقديم عرض أرشيفي نادر للصور الشخصية للمصمم العالمي الشهير التي توثق علاقة سان لوران بكلابه، وافتتاحية سردية بعنوان “في حضرة الصمت الوفي”، وعمق العلاقة مع هذه الكلاب كمصدر للصفاء وسط ضجيج عالم الموضة واحتفاءً بجانب حميمي من حياة المصمم الفرنسي والعالمي الشهير المذكور..
هذا، وإلى جانب تقديم كتاب “إيف سان لوران وكلابه”، Yves Saint Laurent et ses chiens الذي وجد في كلابه رفيقًا وملهمًا، تخلل الأمسية عرض بصري لتصاميم مختارة للمصمم على غرار الجاكيت السفاري وفستان موندريان، مرفقة بتحليلات فنية تربط بين الخطوط الهندسية والانضباط النفسي الذي كان يجد فيه سان لوران ملاذا بصحبة كلابه.
إلى ذلكــ ، أبرز ماديسون كوكس رئيس مؤسسة حديقة ماجوريل، أن هذا الحدث هو بداية لسلسلة معارض مستقبلية تهدف إلى إعادة قراءة إرث سان لوران من منظور إنساني وثقافي، يربط بين الجمال والوفاء، وبين التصميم والعاطفة، وإبراز دور مراكش في إبداعيات إيف سان لوران كوجهة ظلت تحتضن كل من الإبداع والعراقة والإنفتاح والحنان في آن واحد، حيث يتماهى العمران مع الحكايات، وتتوحد زركشات الجبص والخشب والزليج وعنفوانية الألوان، مع الأهازيج والأغاني ومختلف أنماط الثقافة الشعبية، وحيث ضوء التاريخ ينعكس على القباب والمزارات، يخترق باطن الصوامع والدروب ليتسلل من مشربيات الذاكرة.
كما أبرز هذا المعرض قوة لحظات صمت، خصوصا عندما يجلس إيف سان لوران، لا أمام منصة عرض، بل بجانب كلبه، في ركن من زوايا منزله، إذ يتأمل قطعة قماش بلون الرمل.
والواقع، أن هذا المعرض لا يحتفي بالأزياء وحدها، بل بما وراءها من دلالات لكلب “الموجيكـ” الذي لا يظهر على الواجهة، رغم حضوره في كل غرزة، وفي كل خط تفصيلة، وفي كل بارقة تردد. كما لم يكن كلب “الموجيكـ” أو كلب” الشيكيواوا” مجرد رفيقين للمصمم، بل شكلا مرآة داخلية، رافقت المصمم في عزلته، وفي قلقه، وفي لحظات إبداعه، كما عكستها الصور الأرشيفية النادرة التي توثق ليومياته، والتي تم عرضها خلال فقرة من فقرات حفل الأمسية.
ومهما يكن، فإن كلب “الموجيكـ” بالنسبة لسان لوران، كرمز للراحة والهوية الشخصية، لا يشكل رفيقا فقط للمتعة وتحقيق الرغبة في الإمتلاك، وإنما رمزا للصداقة الوفية، والصدق التلقائي والمتابعة الصامتة، والحرص الوارف على صاحبه، والحافز الذي بصم التصاميم ، وطبع هندسة أعماله، على غرار أبهة فستان موندريان، ونعومة الجاكيت السفاري، وخطوط التوكسيدو التي تعانق الجسد كما تعانق الكلاب ذات المصمم في لحظات صفاءه ووحدته.
والحق، أن معرض Yves Saint Laurent et ses chiens لم يكن دعوة للتأمل، في الموضة فقط، بل كان مثالا للعلاقة بين المصمم وكلبه، أو بالأحرى بين الإنسان وظله العاطفي، وبين الصمت والجمال، فكلاب إيف سان لوران، ليست حاشية صامتة لشرعية العاطفة وهندسة الجمال، بل كانت امتدادًا لرؤيته الإبداعية التي تمزج بين الحميمية، والفرادة، وبين الدلالات الإبداعية للتصاميم والرمزية العاطفية.
فطالما ردد إيف سان لوران أنه “شخص يحب الكلاب”، إذ رافقته كلابه في أكبر مراحل حياته، وجالسته في لحظات وحدته، وموجات توثره، وحتى خلال فترات عمله الإبداعي، فأضفت بوجودها في حياته اليومية، وعلى تصاميمه لمسات متنوعة ومتباينة من درجات الاحتواء والنعومة والجرأة والدفء والصدق والهدوء، وحتى الاكتئاب أو القلق، بعيدًا عن البرودة الصناعية التي قد تطغى على عالم الموضة. كما كانت هذه الكلاب ملاذًا نفسيًا مقابل التوتر الإبداعي، مما انعكس على تصاميمه المتوازنة، والتي تظهر جلية في استخدامه للأقمشة الفاخرة بطريقة غير متكلفة، وكأنها تعانق الأجساد كما تعانق الكلاب مصممها، وهي صفات تجسدها بامتياز، تصماميم بدلة التوكسيدو النسائية التي أطلقها إيف سان لوران عام 1966 كمثال أيقوني، يزاوج بين الوفاء، والراحة النفسية، ويتوحد فيها الحزم مع الحنان مما أحدث ثورة في الموضة النسائية،حيث نقلت لباسًا ذكوريًا صارما ورسميًا إلى جسد المرأة، لكن بأسلوب ناعم وأنيق، إنبنى أساسا على علاقة المصمم بكلابه عموما وكلب “الموجيكـ ” خصوصا .
فكما إحتضن كلب “الموجيكـ” صاحبه، كانت الجاكيت تحتضن جسد المرأة، وتوفر له مساحة آمنة، على مستوى الحزام خصوصا عند الخصر بلمسة من التفوق والجاذبية ، وكأنها تعانق الجسد بلطف، تمامًا كما تفعل الكلاب في لحظة القرب من المصمم.
ففي فضاءاته الإبداعية ومكتبه الهادئ الذي تكتنفه رائحة الأقمشة، وتنوع التصاميم، كان يجلس إيف سان لوران بجانب كلبه. الذي لا يتكلم، لا يوجه، لكنه يسجل حضورا قويا.
فكلب “الموجيكـ ” لا يطلب شيئًا، لكنه يمنح كل شيء، يمنح الهدوء حين يضطرب الإلهام، ويعطي الدفء حين يبرد العالم.
ثم لاشكــ، أن كلاب “الموجيكـ ” حملت في إبداعيات المصمم العالمي الشهير إيف سان لوران، بصمة عاطفية وثقافية عميقة في حياة خاصة في علاقته بالمغرب وبكلابه، وبرزت في تصميمه لفستان “موندريان” وجاكيت “السفاري” لأول مرة في مجموعة ربيع وصيف 1969، والمستوحاة من ملابس المستكشفين في المغرب، فقد سافر سان لوران، في بوادي وقرى ومدن وجبال وبراري المغرب بحثًا عن الإلهام، حيث برزت هذه التصاميم كمثال للحرية والراحة النفسية التي كان المصمم يجدها في الطبيعة، وفي كلابه التي كانت ترافقه في تلك الرحلات، وفي تلكــ الألوان الترابية، التي تردد صدى مراكش، على غرار اللون الكاكي، واللون البيج، واللون الزيتوني مما يعكس أثار طبيعة المدينة وألوان التربة من مراكش إلى جبال الأطلس، فقد كان سان لوران يتقن ويبدع جسرا عاطفيا ، يمتد كسرب أفكار وإيحاءات وإشراقات من مراكش إلى باريس.
كما كشف هذا المعرض عن أسرار الموضة، في ظل الإبداع المتماهي مع الكلاب، وباقي الكائنات من فراشات وصبار وعصافير وزهور لا تظهر في العروض، وإنما تظل محفوفة ببوثقة من الإيماءات المتوجة بهندسة الجمال.