سفر استكشافي في عالم الفنان الراحل التشكيلي إبراهيم إخنيش

تراتبية اللون والبيــاض وتوحُّد التجريد واللَّمـَسـات

مـحـمــد الـقـنــور :‏
عدسة : مـحـمـد أيت يحي :‏

تنطلق أعمال الراحل الفنان التشكيلي إبراهيم إخنيش من المنطقة التي يتفاعل ضمنها التحديد البصري ‏للألوان وللأطياف ، فهي أعمال تشكيلية تشبه إلى حد‎ ‎كبير النصوص المفتوحة في الشعر ‏والروايات منفتحة على الكثير من الأفكار والثقافات وأنماط وأساليب العيش التي خبرها الفنان ‏إخنيش طيلة حياته، والتجارب التي عاشها وعايشها، رغم كونه لايزال في فترة الشباب. ولذلك ‏يتحتم على الدارس لها أن‎ ‎ينظر إليها على أساس نصيتها، ومدى انبثاق الشعرية فيها، خاصة ‏وأن العمل التشكيلي باعتباره نصاُ فنيا أو بالأحرى فضاء فنيا لا تنفصل عوالمه الداخلية‎ ‎عن ‏التراكم الثقافي والحضاري والشخصي الذي استبطنه الفنان في أعماله بطريقة‎ ‎لاشعورية، كما ‏أن هذه الرموز والألوان والشخوص والقيم في لوحات الفنان التشكيلي إبراهيم إخنيش تحتمل ‏العديد من القراءات والتأويلات النقدية التي من‎ ‎شأنها أن تبرز الكثير ليبقى الكثير طي الكتمان، ‏مثل أسرار بحرية غارقة في السكينة والمتعة والغموض.‏
فليس وجود البياض أو السواد مثلاً في بعض لوحاته‎ ‎له إحالات سيميائية أو معاني محددة، ‏أكثر مما هو انكشاف لجدلية الظاهر والباطن واستشراف للمستقبل الغامض واستعمال للحاسة ‏السادسة في السردية التشكيلية وما تكتنزه بعض أعماله التشكيلية من رؤية مختلفة عن‎ ‎غيره ‏من الفنانين تنبني عن الرؤية الطبيعية الصرفة القادمة من فضاءات الأطلس المتوسط حيث ولد ‏الفنان التشكيلي إبراهيم إخنيش والتي جعلتها تنطلق من مفاهيم الوجود‎ ‎الدلالي والطبيعي وكذلك ‏الذاتي للكون والروح والجسد والفكر والنفس وفق تصورات دلالية‎ ‎معينة‎. ‎
فمن حد الحلول مثلا إلى حد التجلي وصولاً إلى حد المكاشفة تسير‎ ‎الملامح السرية للأعمال ‏التشكيلية للفنان التشكيلي الراحل إبراهيم إخنيش يرحمه الله ، في لوحاته تكمن آية الخلق, فهي مزج سري‎ ‎تبدأ من ‏النقطة إلى الدائرة إلى اكتساء فضاء اللوحة لوناً وألوانا أخرى مثل قيم متراكبة وأبعاد ثلاث, ‏لتصبح صدمة بصرية‎ ‎في العمق, تسيل بأسئلة البداية.‏‎ ‎لذلك نستطيع أن ننظر إلى أعمالها من ‏خلال عدة‎ ‎نقاط أهمها ‏‎:‎
‏- فلسفة البياض وتراتبية الألوان‎.‎
‏- ‏‎ ‎ومركزية الكون البارزة في كل اللوحات
‏- وجدلية الظاهر والباطن الكامنة وراء الشخوص والأطياف
‏- وحاسة الحدس والإستكشاف التي تفرضها اللوحات من خلال مواضيعها
‏- ‏‎ ‎واستشراف الرؤية المستقبلية للطبيعة المغربية في أبهى صورها.‏


لقد استطاع الفنان التشكيلي إبراهيم إخنيش يرحمه الله، أن يُوجِدَ في اللوحات‎ ‎تضادية الولادة والموت, ‏وأن يجمع بينهما بطريقة يستحيل فيها الجمع : تراتبية الزمان من المحدود إلى المطلق وثورة ‏الأطياف البارزة في كل اللوحات التي أبدعتها الفنانة.‏
خلال أعمال الفنان التشكيلي إبراهيم إخنيش، يقابلها عند الولادة نزق القماش، كإحرام تعبدي‎ ‎نحو الحياة، ليطغى الفرح على مراسم الولادة، وحينما تأتي الموت، الدلالات نحضر طقوس ‏الفرح والحزن‎ ‎ويأتي القماش كرحيل نهائي من حياة مادية إلى حياة روحية، من عالم الواقع ‏إلى عالم واقع آخر يكتنفه خيال الفنانة، حيث أبدية‎ ‎إبداعية رائعة، وهذه الطقوس جاءت متضادة ‏في الظاهر بينما القماش ولونه الواحد هو الذي لم‎ ‎يختلف.وليس ارتحال الأطياف من لوحة إلى ‏أخرى في تجربة الفنان التشكيلي إبراهيم إخنيش سوى تعميق لإستباقية المكان، وارتفاع الواقع ‏المضني نحو عوالم خيالية تعود بين الفينة والأخرى لهذا الواقع… ليس إلا دلالة على الارتحال ‏الإبداعي الذي عرف الفنان كيف يوظفه خدمة للوحات مفعمة بالتعبيرية والحلاوة والجمال. ‏واستحضار لقوة الظلال، وسديمية البياض إلى المطلق اللانهائي الذي يحدده السواد حيث ‏يرتحل اللون إلى‎ ‎داخله, ويغيب, ويختفي, يندمج بالذات, بالأشياء, يندمج بما هو موجود وغير ‏موجود ‏‎.‎


وأمام لوحات الراحل الفنان التشكيلي إبراهيم إخنيش نستطيع أن نتحرك, وأن نتوقف…وأن نتوحد مع ‏البياض ونسكن ضمن الآخر, ونعرف‎ ‎ذواتنا… وعبر ألوانه الداعية لتحريك الخيال نلج ‏الفضاءات كما نلج الكهوف بأنوار الشكل الأخير نطارد أحلامنا‎, ‎طفولتنا, ذات العوالم الغائرة في ‏زمن الذوبان‎، إذ يرمز اللون المتفاوت بين النصوع والقتامة إلى عالم ملئ بالصفاء والنقاء، بل ويرمز إلى ‏التطهير… وهذا الصفاء والتطهير هي إحدى‎ ‎الدلالات الأساسية لدى الفنان إخنيش في فكره ‏التشكيلي‎.‎
فقط في التجربة الفنية للراحل التشكيلي إبراهيم إخنيش يغدو الأحمر نزهة, والأزرق ارتفاعا‎, ‎والأخضر سلاما، في حين يترجم الأسود كل  اعتداد بالذات، ضمن رموز تتداخل في ملامحها الذات والكون‎ ‎والأنوار.‏
أما مركزية الكون داخل لوحات الفنان إبراهيم إخنيش فنستطيع أن ننظر إليها في طبيعة صياغته‎ ‎للشكل الذي تتجه إليه في بعض أعماله من كونه إكتشاف  لبؤرة تنطلق منها العين، كهوية لأي عمل تشكيلي يجد بداياته في الإنطلاق، وعلى الرغم من كون الفنان إخنيش لا يعتمد‎ ‎دائماً على تلك الفكرة، بل ولم تشغله أثناء الأداء الفني التشكيلي ، لكنها ‏لوحات جاءت عبر نسيج‎ ‎أساسي للمساحة في كونها أعطت مركزاً للأشكال المتجذرة حول ‏الإنسان والطبيعة والأزمة والأمكنة،ومركزية‎ ‎العمل التشكيلي لدى الفنان إبراهيم إخنيش ليست ‏هي بالضرورة مركزية الكون داخل لوحاته ، لأنها ليست غاية فلسفية بقدر ما هي‎ ‎شكل ظاهري ‏للرؤية البصرية،استلهمتها الفنان إبراهيم إخنيش منذ طفولته حيث تعلم فيما بين رحاب الأطلس ‏المتوسط ومدينة مراكش أناشيد الطبيعة وملامح السكون، أما مركزية الكون فتصب دلالتها في ‏كونها مكمن‎ ‎السر، بل وموطن النشوء والخلق وحقل الأسرار اللانهائية‎.‎
فمن الداخل، تبدأ الألوان في أعمال الفنان إخنيش يرحمه الله بالحركة، كحركة نحو‎ ‎الإتجاهات الفيزيائية ‏والواقعية التي حددها الإنسان بصورة علمية،خصوصا في لوحاته الزخرفية لكن انحصارها في‎ ‎المساحة هي التي أعطتها نوعاً من الانغلاق… لهذا لابد للفكرة أن تعود إلى الوراء‎ ‎كثيراً حيث ‏المركز الذي منه بدأت‎.‎
ومن جهة أخرى ترمز مركزية الكون في بعض‎ ‎أعماله التشكيلية إلى دلالة تجريدية مبطنة في ‏كونها اتجاهاً‎ ‎واحداً تتجه إليه الأجساد والقلوب في مستوى انطباعي تلقائي، تتغذى منه عوالم ‏التواصل‎ ‎الروحاني والشعور بوحدانية الشيء الواحد‎.‎
وتعتبر العوالم اللونية في تجربة الراحل الفنان إبراهيم إخنيش التشكيلية إحدى إنعكاسات وتجليات ‏حقائق الأفكار والمشاعر التي تتجرد فيها أرواحها عن مركزيتها الجسدية من كونها‎ ‎أحاسيس ‏ذائبة في رموزها وعلى مستوى آخر، تنفرد بعض لوحاتها التجريدية بما نستطيع أن‎ ‎نطلق عليه ‏تراتبية ‏الأضواء والظلال، وهي جدلية شكلانية قائمة على تضادية الظاهر‎ ‎والباطن، وذلك من كونها ‏تمثل ملمحاً ذاتيا ومناحي وجودية لحركة ذات الفنان إخنيش نفسه، كما أنها استمرارية متداولة لمدى تحكم اللغة الطيفية ‏واللون في‎ ‎الشكل‎.

كما أن هذه الجدلية في تجربة الفقيد الفنان إبراهيم إخنيش تؤسس تضاداً وجودياً ‏في مصير الإنسان.فالخوف‎ ‎مثلاً يجعل من الشكل الأختباء وعدم البروز وذلك عبر ملمح نفسي ‏حاد، بينما يدل‎ ‎الظهور على حقيقة الجهر والبوح والقدرة على المواجهة‎.‎وتلمسها بطريقة فنية ‏لتسبر أغوارها، وتقف على دلالتها، ودلالة العمل القماشي تبدو بارزة في أنها تمثل الأداء من ‏حيث طبيعتها المصاغة في التكوين الأول… فإن تلك الرؤية تكاد تبدو بصورة معاكسة، أي أن ‏فلسفة الحركة غطاءا وغياباً للحقائق التي أخفاها الفنان إبراهيم إخنيش مثل جزء من أسراره ‏الداخلية… وفي‎ ‎الغطاء القماشي للوحاته التجريدية تكمن دلالات الحجب السماوية ومسائل ‏الأقنعة البشرية التي قد تعود‎ ‎إلى التعبير عن هشاشة إنسان هذا الكون،وتقدم رؤية انبعاثية ‏تبرز في كونها أعمالاً متكاملة كادت أن تجعل من رؤيته يرحمه الله للمستقبل مرحلة مرتقبة للمجئ، يكتنفها خوف‎ ‎من الآتي، ‏وخوف من المجهول الذي تعجز الحقائق دائماً عن إدراكه وإذا كانت‎ ‎الرؤية الإستشرافية ‏للمستقبل تمثل بالمقابل إيضاحـا في داخل التجارب التجريدية للفنان الراحل إبراهيم إخنيش ، فإنها ستبقى تبرز ضمن لوحاته في ‏إستمرارية الزمن بكل مفاصله وترتيباته كما لو أنها صراع محتدم من أجل البقاء .

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.