ماء العينين فقيه قاد المقاومة، وذكره التاريخ وتغنت بأمجاده الشيخات
هاسبريس :
من بين الرموز الأوائل للمقاومة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي، يبرز اسم أحمد الهيبة ماء العينين، الذي استطاع أن يدخل مراكش، ويفرض نفسه “أميرا للجهاد”، بعدما بايعته قبائل سوس والصحراء.
عندما يتذكّر المغاربة رموز مقاومتهم المسلحة ضد الاحتلال الأجنبي، فإنهم يستحضرون دائما أسماء رنانة من قبيل محمد بن عبد الكريم الخطابي أمير الريف، عسو أوبسلام بطل معركة بوكافر، وموحى أوحمو الزياني بطل معركة الهري. قليلون فقط يرجعون بذاكرتهم إلى الوراء قليلا، إلى الأيام الأولى للحماية، ليتذكروا رجلا اسمه أحمد الهيبة ماء العينين، أو السلطان الأزرق، كما كان يسمّى حينها. هذا الأخير قاد إحدى أولى حركات المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، ونجح في أن يدخل مراكش، ويخضع لسيطرته قواد المغرب الكبار: التهامي والمدني الكلاوي المزواري، العيادي، المتوكي، والكندافي. بل، وصل الأمر إلى حد أن عقدت له قبائل سوس والصحراء بيعتها، فبايعته أميرا للجهاد.
والواقع، أن أحمد الهيبة ماء العينين لم يكن ليقود حركة مقاومة شرسة ومنظمة ضد الاستعمار الفرنسي، لولا الظروف السياسية التي عاشها المغرب في بداية القرن العشرين، والمتسمة بتزايد الخطر الأجنبي؛ فهو الصوفي ابن الزاوية المعينية، وطالب الفقه والأدب في جامعة بن يوسف مراكش وبجامعة القرويين في فاس. حيث كان مساره يؤهله لأن يكون رجل ثقافة وأدب، وشعر وتصوف، أكثر منه زعيما سياسيا وقائدا حربيا، ولا أدل على ذلك من اللقب ذي الحمولة الصوفية الكبيرة الذي كان يطلقه عليه والده: دليل الخيرات.
بعد وفاة والده الشيخ ماء العينين، بويع أحمد الهيبة خلفا له على رأس الزاوية في 6 مارس 1912، أي أياما قليلة قبل توقيع معاهدة الحماية. بالتزامن مع بيعته، كان المغرب يلقي آخر أسلحته استسلاما أمام القوات الفرنسية. في المقابل، اجتمعت قبائل سوس والصحراء وأعلنت تقديم أحمد الهيبة إماما للجهاد، ونودي بذلك في خطبة الجمعة ليوم 19 يونيو 1912. صار الهيبة أميرا بكامل مواصفاته، ويورد المؤرخ علال الركوك أنه كان «لا يخرج للصلاة يوم الجمعة إلا إذا أحيط بأصحابه ذهابا وإيابا يقبلونه على كتفه بالتناوب في شكل حلقة يشكلون صفا خلفه، وقد دأبوا على هذه العادة حتى أصبحوا يحملون السلاح ولو إلى المسجد، فيمشون أمامه صفوفا على هيأة مخزنية».
بمجرد ظهورها، لقيت حركة الهيبة استجابة واسعة – خاصة أنها جاءت رافعة لراية الجهاد- والتفت حولها قبائل سوس والصحراء: آيت باعمران، الأخصاص، إفران، مجاط، ولتيتة، جبال جزولة، أقا، أزغار، إداوزيكي، إداوتنان، وغيرها من القبائل، كما دعمها عدد من الزوايا. وزاد من التفاف الناس حولها قيام الهيبة بإجراءات أكسبته مزيدا من التعاطف، كإلغاء المكوس التي كان المخزن يثقل كاهل السكان بها لتسديد ديونه المتراكمة جراء القروض الخارجية.
ويبدو أن السلطان المولى عبد الحفيظ نفسه «كان راضيا على هذه الحملة؛ لأنه يعتبرها حملة جهادية، تسير في نهجه الذي وعد به زمن بيعة فاس، وهناك من يذهب إلى أن السلطان لما كثرت عليه الضغوط وأصبح سجين حصار الفرنسيين، كتب سرا للهيبة يحثه على الجهاد. وهناك رسالة في هذا الصدد بعث بها السلطان عبد الحفيظ للهيبة، سلمت لمحمد الخامس زمن زيارته للمحاميد، سنة 1958»، يعلق علال الركوك. وينضاف إلى هذا أن المولى عبد الحفيظ لم يوجه رسائل تهدئة إلى القبائل التي انضمت إلى حركة الهيبة.
وقد وضع السلطان الأزرق، كما كان يطلق عليه حينها بسبب لباسه الصحراوي، نصب عينيه مهمة أولى تتمثل في الاستيلاء على مدينة مراكش التي لم تصلها القوات الفرنسية بعد. أعد العدة للزحف نحوها في قوات يصل عددها إلى 9000 مقاتل، ودخلها في 15 غشت 1912، أي بعد ثلاثة أيام فقط من تنازل السلطان عبد الحفيظ عن العرش. في المدينة الحمراء، لم يجد قواد المغرب الكبار، وعلى رأسهم التهامي والمدني الكلاوي، وعبد المالك المتوكي، وقائد الرحامنة العيادي، من حيلة سوى الخروج لاستقبال الأمير الجديد وتقديم البيعة له. رغم ذلك، حافظ القواد على صلتهم بالمقيم العام ليوطي، في انتظار فرصة سانحة للانقضاض على الهيبة وحركته.
في مراكش، استقبل الهيبة استقبال الفاتحين،بعد أن دخل مدينة مراكش من باب دكالة ويصف المؤرخ الفقيه محمد بن أحمد المانوزي دخوله إليها، قائلا: «أمر قادة جيشه بالمسير أمامه، فتقدموه في جيوش لا يحصيها غير خالقها، رافعين أعلامهم. ولما وصلوا إلى أبواب المدينة، انحشر أهل المدينة إليهم رجالا ونساء بالبارود والزغاريد وأنواع الزينة والحبور. وذهبوا به إلى دار المخزن، وفيها سيدي أبو بكر خليفة السلطان المولى عبد الحفيظ، فأهدى ما يناسبه، وأقره في داره ولم يتعرض له بسوء .
خاض أحمد الهيبة ضد القوات الفرنسية ثلاث معارك كبيرة كانت منطقة الرحامنة رحى لها؛ الأولى في أربعاء صخور الرحامنة في 16 غشت 1912، ثم الثانية في مكان يدعى بئر أوهام في 22 غشت، ثم كانت المعركة الحاسمة في سيدي بوعثمان، بتاريخ 6 شتنبر 1912، وانهزم فيها جيش الهيبة هزيمة ساحقة، انسحب على إثرها من مراكش التي دخلها الفرنسيون، أما الهيبة، فتراجع إلى تارودانت، وبقيت القوات الفرنسية تطارد حركته إلى غاية سنة 1919،تاريخ وفاته عن عمر لم يتجاوز الــ 45ٍ سنة، ليخلفه أخوه مربيه ربه ماء العينين.
وبعد وفاة أحمد الهيبة في يونيو 1919، تولى قيادة المقاومة شقيقه محمد مصطفى ابن الشيخ ماء العينين، المعروف بلقبه مربيه ربه. وقد كان في حياة أخيه يقود، تحت رايته، كثيرا من المعارك ضد القوات الفرنسية. حاول مربيه ربيه إعادة توحيد القبائل وفك نزاعاتها. قاد عددا من المعارك ضد القوات الفرنسية، بين سنة 1921 و1929، انتصر في بعضها، إلى أن تم تشديد الخناق عليه بحلول سنة 1934، حيث دخلت معظم قبائل سوس تحت الحماية الفرنسية على أيدي قوادها. تعرض معقل مربيه، بمنطقة أكردوس بإقليم تزنيت، لقصف القوات الفرنسية، إلا أنه استطاع النجاة، وقرر على إثرها العودة إلى الصحراء؛ وقد وصف خروجه وملابساته في رحلة حررها بنفسه. وبخروجه من معقله، توقفت آخر أعمال المقاومة في كامل أرض المغرب. توفي مربيه ربه في يونيو 1942 بمنطقة تافودارت قرب مدينة العيون ودفن بها.