البــُومُ : ذاكـ الطائر الذي ظَلمَتْهُ الحكايات وتعسّفَ عنه الأدبُ

محـمــد القــنـور ‏:

 

مكثْتُ لسنواتٍ طوالٍ أتأسفُ من الغُبن والظلم والتُهَمِ الجزافية التي لحقت بطائر البوم، في المأثورات ‏الشعبية والأهازيج وأغاني الرعاة، ومن خلال إرتفاع عقيرة حناجر جامعي الغلال في الضيعات ‏الصغيرة والكبيرة على حد سواء.‏
‏ وقد عانى البوم من الإتهامات المجانية طيلة قرون من الجمر والرصاص، ولم يتمَتّع أبدا بمُحاكمة عادلة ‏تُأسس لإنصافه والمصالحة معهُ، وتنير الطريق إليه نحو إعادة الإعتبار،وتبيض سجله الأدبي، وصفحة ‏سوابقه، فقد ظَلَمَتْهُ الحكايات،وجَارَت عليه الأساطير، وقزمتْ شخصيته الليلية الأمثال الشعبية، وتعسّفَتْ ‏عليه الصور والسينما واللوحات والنكث والقصص والأحجيات ، ومورست عليه أفدح أنواع الشطط في ‏إستعمال السلطة الأدبية الشعبية والشعرية والعالمة … ‏
ولعل ما أصابَ البُومَ من كل هذا الحيف والقهر، يرجعُ إلى طبيعة شخصيته المواربة وتحركاته الخجولة، ‏وإستبداله النهار بالليل، وإنزوائه في عوالم العتمة عوض الخروج إلى دائرة الضوء، والإلتحاق بمملكة ‏الطيور ، كأيها الطيور …‏
فقد صبّ الأدب جام غضبه على البوم من جرير والفرزدق حتى شكسبير وبودلير ،وربطته السينما بأفلام ‏الرعب وأسرار الأطلال المهجورة والمقابر البعيدة، والغابات المطرية السوداء، والتلال القاتمة الباردة ، ‏وبدأ يرمزُ له بالتشاؤم، وجاء الزعيم المحجوبي أحرضان فنكــَّـل به تنكيلا في إحدى حملات حزبه ‏الإنتخابية على أمواج الأثير وعلى شاشة التلفزيون المغربي ، مما جعل البوم يفقدُ مصداقيته .‏
وأنا يَقِــنٌ أن البومَ قد تكالبت عليه الأحلام والأفكار الفنون والسياسة والمؤلفات ، حصرتُه في دلالات ‏اللغة عليه ، كما قام الشعر العربي بالتعتيم حول وجوده الطبيعي وحقه في الحياة ، وتَرَكُوه تتقاذفهُ أمواج ‏كل بحاره من الطويل والمديد والوافر والكامل إلى البسيط والرجز والمنسرح, دون علم لا الأخفش ولا ‏الفراهيدي ….‏
وقد قرأتُ في كتاب “مجمع الأمثال” للميداني، أن العربَ كانت تقول ، اتّـبـِـعِ البوم يَــدُلُكَــ على الخرابِ ، وذكر ‏أبو الفرج يرحمه الله في “الأغاني” أن العرب في ديارهم وقبائلهم ومضارب خيامهم وحصونهم ، إعتقدوا قبل الإسلام، أن ما من مَــيِّــت يــموت ولا قتيلٍ ‏يـُـقتلُ إلا وتَخرجَ من رأسِه بومةٌ، فإن كان قتلَ ولم يـُـؤخذ بثأره نادت البومةُ على قبره، اسقوني فإني ‏عَطِشَةٌ،ومن هذا الإعتبار، يجوز أن نُدخل ضمن لائحة الإرهابين ، والمبحوث عنهم، من أجل الدعوة ‏للعنفِ .‏
وكانت العربُ تنظرُ إلى البومِ على أنه طائر الشُؤم وتتشاءم به ، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ‏وسئل عن البومة قال فيما رواه إبن أبي شَيْبة وتلميذه البخاري من بعده يرحمها الله : “لا عدوى ولا طيرة ولا هامة”.

ومع ذلكــ فالعِــلمُ يؤكد أن البوم في غاية الأهمية للبيئة ، وقد جعلهُ الله مع غيره من الحيوانات صمام ‏الأمان الذي ينظم أعداد القوارض في البيئة ، فهي تأكل الفئران والجرذان والأفاعي والحشرات ‏والعصافير ، حيث يصيد الطائر من طيور البوم حوالي 5000 فأر في السنة الواحدة ، وبذلكـ ، تكون ‏مخازن الزرع وبيادر القمح، وخزائن الحبوب مـَدِينــَة للبومِ بالشيء الكثير .‏
ثم يؤكدُ العلمُ ، أن طيورَ البومِ لا تستطيع من خلال سرعة طيرانها إصطياد  سوى الأرانب الضعيفة ‏والمريضة ، فتَحُــدُ من تكاثر المرض بينها، حتى أنه عندما انتشر وباء الأرانب في أوربا في أوائل ‏الخمسينات من القرن العشرين، سلمَت أرانب شمال المغرب وجنوب إسبانيا من الوباء . فتبين أن وراء ذلك طيور البوم ‏التي كانت تكثر في البيئة.‏
ويصيدُ البومُ الواحد ما يُعادل 15 فأرا يوميا في السهول والأحراش، ولنا أن نحسبَ كم هي الفائدة التي ‏تعود على الإنتاج الزراعي في سهول تساوت ، وأحراش السعيدية والصويرة والداخلة ،ومزارع دكالة ‏والشاوية ‏وورديغة ‏وأشجار السهل بالرحامنة ومسفيوة، وبقبائل الهبط وقبائل زمران وأغراسَ “بولقنادل” و”كروان” وفي “تولال”، وفي حقول ورديغة ‏و”بولعوان” وزعير وزمور، وعلى قمم ‏الجبال في الريف وفي ‏إمليل ،وأزرو  وفي مروج أيت عطا وتادلة ، وتلك ‏الخضراوات المبثوتة على طول منابعَ العيون المائية في ‏أزيلال وإفران وويركان وتادلة وإيجوكاك ‏، ‏وساحات القرى في ربوع السراغنة وملوية ودرعة ‏وسايس، وفسحات البيادر في شيشاوة و ماسة وبلاد ‏سوس ، وهذه البساتين التي تُزهر على ‏عتبات ‏المدن خارج أسوار مكناس وفاس وسلا ووجدة السمارة ‏وأصيلا والعيون والرباط وفي ‏مراكش البهجة ، وتحت أشجار التوت والصنوبر ‏في الضيعات والبساتين ‏والعراصي ‏والرياضات، وتحت النخيل والدوالي، وبالأسواق الشعبية الأسبوعية بالقرى والمراتع تلكـ ‏البلدات المسكونة بألوان العطر والحكايا.‏

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.