إحتفي معهد سيرفانتيس بالدار البيضاء، مؤخرا، بالذكرى 400 لوفاة الكاتب الاسباني الشهير ميغيل دي ثيربانتيس ، من خلال تنظيم مسابقة بين التلاميذ ومعرض بيبليوغرافي.
ذلك، سينظم المعهد بالمناسبة حلقة للقراءة تقترح نقاشا مفتوحا بين التلاميذ والاساتذة والطلبة بالدار البيضاء إضافة إلى عشاق إبداع ثيربانتيس حول تراث الكاتب الشهير، كما تقام ندوة حول “ثيربانتيس كمصدر للإلهام” تناقش أهمية هذا الكاتب كرائد من الأوائل للرواية الحديثة. ويعد ثيربانتيس ( سرفانتس ) Miguel de Cervantes من رواد الأدب الإسباني ، وأشهر مصنفاته الإبداعية “دون كيشوت” ، وهي رواية فيها الكثير من الأمثال والعبارات العربية ، حتى إن ( برسكوت) الناقد المعروف أكد أن فكاهة ( دون كيشوت) كلها من وحي الحياة الإجتماعية ومختلف منابع الحضارة في الأندلس، ذاكـ الفردوس الإسلامي المفقود . ولعل الشهرة التي يحظى بها سرفانتس هذا الأديب الكبير في البلدان العربية والإسلامية ، تفوق ما يجده مختلف زملائه من الأدباء الإسبان ، بنفس البلدان حيث لا ينفي الكثير من مؤرخي الآداب العالمية ، أصوله الموريسكية العربية .
فقد ولد سيرفانتيس في منطقة قريبة من مدريد عام 1547 وكان والده طبيباً جراحاً ، وكان هذا الوالد يزعم أنه من نسل النبلاء الاسبان. وقد كشفت بعض البحوث التاريخية أنه ينحدر من عائلة من عائلات مسلميّ قرطبة ، ممن اعتنقوا المسيحية بعد سقوط الأندلس سنة 1492 ميلادية ، ولم يغادروا اسبانيا. وهم الذين يدعون عادة بالمسيحيين الجدد، ومع ذلك فمؤرخي الآداب والنقاد لايعرفون شيئاً يذكر عن طفولته وشبابه الأول. وكل ما نعرفونه هو انه درس على يد أحد الرواد النهضويين الادب والشعر. وحدث أن سافر سيرفانتيس فجأة إلى روما عام 1569 وعمره اثنان وعشرون عاماً. ويؤكدون أنه ساهم بكل شجاعة وإقدام في معركة «ليبانت» الشهيرة التي جرت بين الأتراك العثمانيين والأوروبيين عام 1571، والتي انتهت بالهزيمة الساحقة للعثمانيين كما هو معروف. فقد بثرت يد سيرفانتيس اليسرى في هذه المعركة ، بعد جرح غائر كاد يودي بحياته ، أثناء هذه الحرب مع فيالق الإنكشارية العثمانيين ، ولكنه استطاع ان يضمد جراحه وينجو منها. وفي السنة التالية انخرط في الجيش الأمبراطوري النمساوي ، العدو التقليدي للمسلمين العثمانيين ، وشارك في عدة حروب جرت في مناطق مختلفة من بينها تونس. ولكن عندما حاول العودة إلى اسبانيا بحراً تعرض لهجوم المجاهدين البحريين من المغاربة، فأسروه، وقد ظل خمس سنوات في الأسر حيث اشتغل كعبد لدى من أسره من المسلمين. ومعلوم انه حاول الهرب أربع مرات ولكنه فشل. ثم ابتسم له الحظ فاشتراه التجار المسيحيون واعتقوه من العبودية والتحق بذويه في مدريد.
وفي عام 1585 تزوج من فتاة تدعى كاتالينا دو سالازار ، وكانت حسناء وجميلة، ذات أبهة ودعة، نبيلة حسب ما تقول الروايات ، وكانت تصغره باثنين وعشرين عاماً. ثم نشر رواية “رينيه” كما ألف العديد من المسرحيات التي ضاعت ولم تصلنا على الرغم من أنها كانت تمثَّل على مسارح مدريد خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين ، وكانت تستأثر بإهتمام الجمهور في ذلك الزمان. ومهما يكن كذلكــ ، فقد كتب سيرفانتيس مسرحية بعنوان: “الحياة في الجزائر” إستلهمها من فترة مكوثه كأسير في شمال إفريقيا. ولقد سافر “سيرفانتيس” Miguel de Cervantes بعد عودته لإسبانيا، مرارا إلى الأندلس حيث عاش مدة عشر سنوات وهو يقطعها طولاً وعرضاً، حين كانت الأندلس تنزع ثوب الإسلام وتستعد لتتزي بالمسيحية ، وأغلب الظن عندي أن “ميكيل دي سيرفانتيس” تفاعل مع آخر ما بقي في الأندلس من عادات وتقاليد وأنماط عيش إسلامية، فتأثر بها ، وأغلب الظن لدي كذلكـ ، أنه تجول في أقاليمها الساحرة وفي مدنها الصاخبة ، المفعمة بالحركة والتجارة والتحف وأنواع الحرير والجلود والعاج والخشب ، ونفائس الجواهر والتحف وعبق التوابل ، وأنه توجس خوفا من مداهمات جنود محاكم التفتيش ، ومن قضاتها ممن لايرحمون أحدا ، وكما تعرفون فقد كانت هذه المحاكم تستهدف المسلمين واليهود على حد سواء . والمتفق عليه ، بين المؤرخين والنقاد أن “ميكيل دي سيرفانتيس”أديب إسبانيا الأكبر، قد اشتغل في البداية كممون لجنود الاسطول الاسباني الشهير باسم “الأرمادا” الذي فتح عصر الإكتشافات الجغرافية الكبرى، ثم إشتغل كمحصل ضرائب لاحقاً. وقد سجن في اشبيليه عام 1597 بسبب مشاكل له مع مصلحة الضرائب.
وحلت سنة 1605 ، فإذا بــ “ميكيل دي سيرفانتيس” يشتغل في بلاط أحد الأمراء الاسبان ، وهي السنة التي ظهر فيها الجزء الأول من روايته «دون كيشوت» وهي الرواية التي لاقت نجاحاً منقطع النظير فوراً، وفي حياته . وكان نشر هذا الجزء الأول ، إيذانا بكون “سيرفانتيس” قد دخل إلى الحياة الأدبية من أبوابها الواسعة، وخطى نحو عوالم الكتابة والابداع، من جديد. وفي عام 1607 استقر في مدريد بعد ان اعتلى فيليب الثالث العرش. وفي أثناء السنوات التسع التي بقيت له لكي يعيش استطاع سيرفانتيس ان يرسخ سمعته الأدبية فيجميع مدن اسبانيا. وقد يبدو “سيرفانتيس” لقرائه وقارئاته أديبا فكها ومنشرحا، خفيف الظل ميالا إلى الدعابات والفرح ،والحق، أنه أديب تعرض لشتى صروف الدهر الحزينة، ولمختلف المصائب والنكبات العائلية ، فقد مات العديد من أفراد أسرته واحبائه في فترة طفولته وشبابه، وذاق ويلات الرق والعبودية، وصارت طيور الأسى تعشش في قلبه بين حين وآخر .
ومهما يكن، فإن الخطوب والأهوال والمصائب تشحذ القرائح الأدبية ، لتجعلها أكثر عمقاً واشتعالاً، وقد أجزم أن لولا الخطوب والأهوال والمصائب، لما كان لنا أدباء كبار من عيار هوميروس وفراجيليوس والمتنبي شكسبير والمعري ودانتيه وميلتون بودلير وفيكتور هيغو ونيرودا وطاغور وغيرهم من مختلف اللغات وكل الأوطان ، ولما كانت لنا رائعته «دون كيشوت» الخالدة، بكل ما فيها من كل تلك التعابير والحكايات وبجميع ما يكتنفها من عمق إنساني ووصف بديع وبلاغة فوارة ، أثرت الأداب الإسبانية والعالمية على حد سواء . ثم أن “ميكيل دي سيرفانتيس” نشر كتاباً بعنوان: «قصص قصيرة نموذجية» في عام 1613 وفي عام 1614 نشر رواية اخرى بعنوان «رحلة الى منطقة البارفاس» وفي عام 1615 نشر كتاباً بعنوان: مسرحيات هزلية وفواصل ترفيهية ونكثا ، وهي السنة التي أتم فيها الجزء الثاني من رائعته “دون كيشوت” Don Quichotte ، وكان ذلك بعد سنة من ظهور تتمة مقرصنة ومحرفة للرواية على يد شخص مجهول ، يبحث عن الشهرة يدعى: أفيلانيدا. ثم مات سيرفانتيس عام 1616 عن عمر يناهز السبعين عاماً تقريباً. ويبقى كل ما تعرفه الإنسانية عن حياة هذا الكاتب العظيم هو مجرد ثمرة بحوث تاريخية عديدة ومتتالية على مدار القرون. وقد ابتدأ المؤرخون والنقاد يهتمون بــ “ميكيل دي سيرفانتيس” منذ اوائل القرن السابع عشر، أي بعد موته مباشرة في الواقع. فقد كانت روايته في حياته قد غطت الآفاق ، وباتت مشهورة جداً . نعم، فقد كانت روايته مشهورة وهو شبه مجهول من الناحية الشخصية ، حيث لا أحد يعرف عنه شيئا تقريباً. والحق، أن المساهمة التاريخية الحاسمة للتعرف على أديب إسبانيا الأكبر “ميكيل دي سيرفانتيس” وعلى حياته لم تبتدأ إلا في بدايات القرن العشرين، مع المؤرخ ” كريستوبال بيريز باستور” الذي كرس كل جهوده للكشف عن الجوانب الغامضة من حياة هذا الكاتب العملاق الذي لم يشهد له تاريخ اسبانيا مثيلاً. فقد كشف هذا المؤرخ عن عدة مراحل من حياة سيرفانتيس وبخاصة حياته في الأسر في الجزائر، ثم حياته في الأندلس عندما كان جابي ضرائب، ثم بعض الأحداث الأساسية التي أثرت على أدبه ، ومع كل ذلك لاتزال بعض الجوانب من شخصيته مظلمة ومجهولة، خصوصا فيما إذا كان مسيحيا جديدا أو مسلما موريسكيا يداري إسلامه، ويظهر المحاباة والولاء للكنيسة الكاثوليكية . وعلى كل حال، فإن ما يعرف بشكل مؤكد عن “سيرفانتيس” هو أن حياته لم تكن سهلة على الإطلاق، وأنه اضطر لتجاوز الكثير من العراقيل والعقبات حتى وصل إلى قمة الأدب الإسباني، على الرغم من أن معظم أعماله الشعرية والغنائية اختفت ولم تصل إلى عصرنا ، كما وصلت ” دون كيشوت” التي تكفي لتخليد اسمه على مدار العصور، حيث أن شهرتها لا تقل عن شهرة ألف ليلة وليلة بالنسبة للأدب العربي، أو الإلياذة لدى الإغريقيين . والواقع أن سيرفانتيس ولد وعاش في العصر الذهبي لأسبانيا، فقد كانت أكبر قوة عظمى في القرن السادس عشر بفضل أساطيلها التي لا تقهر، ثم بفضل اكتشافها لقارة جديدة هي أميركا، وكانت أهم من انجلترا أو فرنسا. وقد كرس السنوات الأخيرة من حياته للكتابة بعد أن خدم في جيوش ملوك اسبانيا وأوروبا دفاعاً عن المسيحية في مذهبها الكاثوليكي، أمام المد الإسلامي العثماني، الذي إستحوذ على بلاد الألبان والبلغار والمجر والقسم الشمالي من بلاد مقدونيا والهرسك والبوسنة .
وقد عاش سيرفانتيس حياة تسكع طويلة. وربما لهذا السبب نبغ في وصف مغامرات بطله “سانشوبانشا” في رواية دون كيشوت، فقد كان متسكعاً كبيراً هو الآخر.
وما من شك أن “ميكيل دي سيرفانتيس” قد درس في الجامعة لبعض الوقت،فقد كانت الجامعات شعبية، يؤمها كل المزارعين والحرفيين وعامة الشعب من الراغبين في التحصيل والمعرفة، ثم رافق أحد القساوسة الكاردينالات الاسبان إلى روما عاصمة البابوية والمذهب الكاثوليكي. ثم أصبح عسكرياً بعدئذ. ثم ساهم في معركة «ليبانت» الشهيرة كما قلنا سابقاً، وهي المعركة التي خاضتها أساطيل اسبانيا والبندقية والفاتيكان ضد الأتراك عام 1571، وهزمتهم بشكل ساحق، وحدت من توسع الجيش الإنكشاري العثماني ، وقد فقد “ميكيل دي سيرفانتيس” فيها ذراعه، وهذا ليس بالشيء القليل. فقد تركت المعركة التاريخية بصماتها على جسده وعقله. وبعد كل هذه المغامرات في مجال الحياة راح يخوض مغامرة الأدب بنفس القوة والحماسة. وكان أن نتجت دون كيشوت رائعة من روائع الأدب العالمي، وفيها يصف مغامرات بطله “دون كيشوت دولا مانشا” بشكل دقيق رائع يميت من الضحك.. وكما سلفت الإشارة، فإن رواية “دون كيشوت” مشكَّلة من جزئين اثنين لا جزء واحد. وتفصل بينهما مدة عشر سنوات أو إحدى عشرة سنة. فقد صدر الجزء الثاني سنة 1616. ولكن الشيء الغريب هو أن أحد الأشخاص المجهولين ، المغرضين، أراد أن يتقاسم معه الشهرة ، فسبقه إلى نشر الجزء الثاني بشكل مزيف أو مزور. وكان ذلك عام 1614، قبل أن يرد عليه سيرفانتيس في الجزء الثاني الحقيقي عن طريق اختراع شخصية الدجال أو المحتال، وقد جعله يموت في نهاية الرواية، وهكذا انتقم منه أدبيا وإبداعيا شر انتقام. صرح “ميكيل دي سيرفانتيس”بأن الفصول الأولى من الكتاب مستمدة من “أرشيفات دولا مانشا”، وأما ما تبقى فقد ترجمه عن مؤلفات كتاب آخر، وبالطبع فهذا التصريح مستعار ومكذوب ، وأنه ليس سوى حيلة يختبئ وراءها سيرفانتيس لكيلا يتحمل مسؤولية كل هذه المغامرات الجنونية، وحتى لا يعرض نفسه للغضب أو الإنتقادات الدينية فالواقع أنها كلها من وحي إلهامه وإبداعه.
وتدور أحداث الرواية حول رحلات ومغامرات “دون كيشوت” Don Quichotte مع مروِّض خيوله ”سانشو بانشا”، كما أن”دون كيشوت” في الرواية هو عبارة عن شخص ينتمي إلى أسفل الهرم في سلم الارستقراطية الاسبانية، فهو نبيل ، ولكنه نبيل صغير لا أهمية له، وهو شخص عادي، ولكنه مهووس بقصص الفرسان الشجعان التائهين في البراري والقفار والغابات والمولعين بمغامرات الفروسية. وفي الرواية يلمس القارئ منذ الوهلة الأولى ، أن أصدقاء وعائلة “دون كبشوت” يعتقدون بأنه مجنون لأنه قرر أن يصبح بدوره فارساً تائهاً في البراري والقفار والغابات ، فارساً يعبر كل اسبانيا على جواده ”روسينانت” ويحمل على عاتقه كل متاعب العالم في محاربة الشر وحماية المستضعفين والمظلومين.
و يبدو “دون كيشوت” شخصاً ملهماً وطيبا ويبدو مع كل ذلك مفتونا بنار الفروسية التي لا تنتهي، مهووساً بأخلاق الفرسان بالنسبة لمن يلتقيهم . ويبدو رجل يصغر العظائم ويعظم الصغائر، ويأخذ الأشياء والمواقف والنوازل على غير ما هي عليه. فهو يعتقد من بين ما يعتقدُ، أن الأكواخ والخانات العادية التي يصادفها في طريقه قصورا رائعة، وأن الفتيات الريفيات ، من أولائك البنات الخابزات الحالبات المزارعات الطابخات ، الراعيات ، والقاطنات في القرى هن أميرات نبيلات، وجليلات. وأما طواحين الهواء ،… نعم طواحين الهواء ..التي كانت تملأ القرى والمداشر والمروج الإسبانية . فقد كان يرى فيها “دون كيشوت” أبالسة وشياطين ، وأشخاصا طغاة عمالقة، لاحظ لهم من تربية أو من أخلاق ولا نصيب لديهم من إنسانية ، وأنه يتحتم عليه كفارس نبيل أن يحاربهم! فليست طواحين الهواء ، سوى كائنات ماردة، ولعينة، مرسلة من قبل السحرة الشريرين، لإعتراض طريق الأخيار. ومع ذلكـ ، فهو لايحارب الطواحين فقط، وإنما يطعن السنابل ويصيح في نجوم الليالي، ويهدد الفجر والسماء والسحاب ، يظن أنها جميعها الأعداء . وقد تصور “دون كيشوت” نفسه ، محاربا شرسا لا يعرف الراحة أمام هذه الطواحين،ولايؤمن بفواصل الهدنة . وإعتقد في شخصه أنه فارس أحلام كل فتاة مزارعة وكل إمرأة قروية في بلاده حتى ممن لم يلتق بهن أبداً في حياته . فكانت هؤلاء النسوة حبيبات قلبه المفعم بنار الفروسية الأبدية ، ووميض عينيه ، اللواتي ينبغي ألا يخنهن أبدا.
وتكمن عظمة رواية “دون كيشوت” التي لا مثيل لها في تاريخ الآداب العالمية باختصار في تقلبات مزاجية بطلها، وفي صناعته من الحبة قبة ومن القبة حبة، وفي كونه شخص خيالي لا يعيش في الواقع على الإطلاق، بل في عالم تفنن في صنعه، فوضع له قواميسه وأعرافه وتقاليده، حيث يبدو بالنسبة له أكثر حقيقية وأهمية من عالم الواقع.