كنت طفلا صغيرا ، لايعرف حتى كيف يتقبل العزاء

محمــد الـقـنــور :

الكتابة سيرة روح ، و طعم حياة !
نعم، فالكتابة عن حياتنا الخاصة, وعن الآخرين، عن الذكريات،والمسافات ، عن الفشل والنجاح، عن الأقمار و المشاعر، عن التيه وعن الخيبات، عن الأصدقاء والصديقات عن الفرح وعن الألم وعن الأب والأقارب ، عن الصمت القاتل واليأس عن الحب وعن الطبيعة الخاصة والعامة ، عن السكينة والزوجة ، عن الطفولة واللعب والبحر والهدايا والآمال ، عن العوائق والفقراء، عن الزملاء والأثرياء ، عن البيئة الاجتماعية البديلة للمدمنين على القمار والفساد والمخدرات, عن مراكز الإيواء للذين يعانون من أمراض مزمنة و عن المقهورين, وعن مجموعات الشباب التي تتخبطها الانحرافات في السلوكيات لظروف خاصة ، ليست سوى الأوضاع العائلية المحزنة و الصعبة التي يعيشونها،عن كبار السن ممن يشعرون أن حياتهم شارفت على الانتهاء، وبدأت طيور الأسى تعشش في أرواحهم، و كأنهم صاروا عبئا على المجتمع ، وصار لا فائدة من وجودهم. أولائك قصصهم مشحونة بالبصمات اليائسة وبالكثير من الحزن والقلق ، في عوالم لم تعد ضاحكة ولا قائمة.
الكتابة عن الأزهار وعن الأزمنة والشرفات واللوحات والأضواء ، عن الدواوير المشرعة على كل أفراح المواسم ، وعبق الحصاد ، وعن التلال الصامتة والثلوج الناصعة والبراري اللامتناهية والحقول الباسمة في إخضرار إذ تستقبل نسائم الربيع ، وضوء القمر ، الكتابة عن النساء العاملات ، أولائك العاجنات الخابزات، الطاهيات ، المربيات، المزارعات والصانعات ، عن المجالات والقطاعات ، عن الرحلات و النخيل والسواقي عن الأشجار والطيور والحارات والمرافئ والكثبان الرملية ، عن المتطرفين والأدعياء، عن الاتقياء واللصوص ، عن “حريرة رمضان” وعن “جبان كولوبان” وكل حلويات الطفولة وعن الأعراس و”باعة السندويتشات” وعن أفراح عاشوراء وقرون أضاحي العيد الكبير الكتابة عن ألعاب الطفولة وعن أحلام الصبا، الكتابة عن الشعر والشعراء ، عن الألوان والأنغام ، وعن كل أسئلة التمرد وجميع مفازات الحرية وعن الخوف من الاستلاب للإنسان، ومن تجهيله ، الكتابة عن كل تلك التقاليد المرحة .

وقد أدمنت الكتابة عن العنف الأسري و جرائم الشوارع، عن العوالم المفعمة بالقهر والفرح ، عن السنابل وقطعان المواشي ، عن المرافئ وعن الأسماك والمحار، الكتابة عن ما تقوم به الحكومة وما لا تقوم به، وعن المدارس والحمامات والمزارات والصهاريج والقباب وعن الحدائق والحارات العتيقة والأبواب الموصدة ، الكتابة عن الجوانب المظلمة من الذاكرة .

عالم متماوج ولانهائي هي الكتابة …
أجل هي الكتابة عن الفقر المدقع وعن الثراء الفاحش، عن ذوي الحاجات الخاصة وذوي الحاجات العامة ….
ثم الكتابة عن وصايا والدي، يرحمه الله، وقد تركني طفلا صغيرا وحيدا ذات صباح ، حيث كنت قد شيعته رفقة بعض الناس إلى دار البقاء .

أذكرُ أني كنت طفلا صغيرا ، صغيرا جدا، بالفعل ، كنت طفلا صغيرا لايعرف حتى كيف يتقبل العزاء .

ثم تلبسني الكتابة عن والدي وإن كنت قد عشت معه سنوات قليلة ، وعن أم الفضل ، والدتي يرحمها الله،تلك السيدة التي أتت بي لهذه الدنيا ولادة ، فقد كانت متفائلة و تقية ، باسمة وبسيطة دوما ، كانت عربون حياة مفعمة بالكرم ومحبة الضيوف وذاكـ الحنو الوارف الذي يسمى الأمومة ، كانت إمرأة طيبة تسكن في دورتي الدموية وفي أنفاسي …

وقـــد عشقت مرارا الكتابة عن قصص السيرة الذاتية والغيرية ، عن معارك المال وتفاوتات الأسواق، عن المشاهير والمغامير و عن منتصف الليل وعتمة الدياجي، عن اليتامى والثكالى والمعذبين ، عن العمال المهاجرين مابين الماء والماء، وعن عاملات المصانع وعن جامعي المحاصيل الزراعية، وعمال المناجم … هي في الحقيقة أدب إعلامي وإعلام أدبي قد يتمتع بعبق طري وبسحر خاص ، وبجاذبية نوازع الروح والنفس والعقل جميعها ، ذلكـ لأنني أؤمن من قرارة نفسي المتواضعة أن كل حياة ، وكل حركة ، وكل نسمة تستحق أن تكون رواية تنتهي أو لاتنتهي .

و لأن الكتابة قضايا ، ولأنها قصص تتحدث عن الحياة وعن المرويات بضمير شخص أو أشخاص، فإنها تتيح فهم الكثير من المواقف والحالات والعواطف والأشياء الطيبة التي لا نجيد فهمها حتى من قراءة الكتب وحتى من تلك الكتابات التحليلية التي تملأ التاريخ والفكر والسوسيولوجيا والسياسة وشؤون المال والأعمال والتي يقرؤها عادة المختصين المكلفين بالعمل في تلك المجالات و ليس عامة الشعب .
ففي نظري المتواضع، ومن داخل ذهني المسكون بنار الإكتشاف التلقائية والإندهاش الأبدي ، فإن تلك الكتابات التحليلية التي تملأ عادة التاريخ والفكر والسوسيولوجيا و السياسة ، تتعبني مثل ظلي، تتحرش بنوازعي ، فكأنها دفق ضخم وثقيل إلى ما لانهاية، صحيحة كانت أو خاطئة ! تظل إختزال لحكمة رؤية .

والحق أني لا أذكر متى بدأت هوس الكتابة ؟ كنت آنذاك قد أنهيت دراستي الابتدائية، أقلد الحيوانات المفترسة والأليفة بملامح وجهي ، وأحادث نفسي عن الحركات الصباحية الشبه الناعسة ،ورنين أواني إعداد قهوة الصباح، وضوء الغسق الخجول إذ يودع آخر إطلالته عبر النوافذ ، ولكن كل ما أعرفه أن الكتابة ظلت تمنحني حرية السفر في داخلي ، في مناطقي وتضاريس روحي ، في الإيمان أن البساطة مفتاح للبوح ومعبر إلى المسرات ، إلى المكاشفة والمحبة و القلق ، إلى مشاركة الآخرين في تقاسم الحياة ، قضاياها ومكنوناتها وحتى مكنونات روحي، إنبجاساتي وآلامي .

وقد حاولت مرارا الكتابة عن أهلي وعن أصدقائي وعن الآخرين وعشيرتي وموطني ، عن أوجاعي وأسراري،عن تسكعاتي والناس لكن دون جدوى .
فقد كان يصافحني الوطن في كل طريق منطلقا لكل كتاباتي .

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.