عظمة حضارة الانكا وأسباب إنهيارها
هاسبريس :
على مدى 3000 سنة كانت جبال وسواحل بيرو مهدًا لأكثر الحضارات تقدمًا في امريكا الجنوبية، حضارة الانكا كانت إحدى الحضارات العديدة التي قامت ثم انهارت في بيرو لكنها كانت أعظمهم، كان شعب حضارة الانكا بمثابة الرومان في العالم الجديد، مهندسون وبناؤون لا يضاهيهم أحد، قاموا ببناء أكثر معالمهم شهرة اليوم ماتشو بيتشو، وأكثر أنظمة الطرق تقدمًا في الأميركتين، كما خلفوا وراءهم تحفًا لا تحصى من الذهب، فقد كانوا فنانون ماهرون وكذلك مزارعون مبدعون، لكن عبقريتهم الحقيقية كانت تكمن بالغزو واستخدموها في القرن الخامس عشر لاحتلال المنطقة الهندية بأكملها!
كانت مملكة الكوسكو القديمة Curacazgo del Cuzco إحدى دول بيرو القديمة التي نشأت قرابة القرن الثالث عشر في وادي نهر فيلكانوتا Vilcanota، أو ما يعرف اليوم باسم نهر أوروبامبا Río Urubamba، وكانت تلك المملكة أولى نماذج وأوجه التطور السياسي الذي عرفته حضارة الانكا، قبل أن تتحول فيما بعد إلى أكبر وأوسع إمبراطورية شهدتها امريكا الجنوبية، وتزدهر بين أول ملوك حضارة الانكاالقرنين الخامس عشر والسادس عشر لتمتد على حوالي مليوني كيلومتر مربع بين المحيط الهادئ وغابات الأمازون، وعرفت باسم إمبراطورية الانكا أو تاوانتينسويو Tahuantinsuyo (أراضي أو أطراف العالم الأربعة).
جذور امبراطورية حضارة الانكا
وتعني كلمة انكا ابن الشمس الأوحد، وهي صفة لملك أو إمبراطور حضارة الانكا (لقبٌ لشخص واحد هو الحاكم كلقب أو رتبة الفرعون في الحضارة المصرية القديمة أو القيصر عند الرومان)، وبالتالي عرفت هذه الامبراطورية باسم ملكها. كان باتشاكوتي انكا يوبانكي Pachacuti-Pacha Kutiy Inqa Yupanki (أو باشاكوتيك Pachacútec) الحاكم التاسع لمملكة كوسكو، وأول انكا للامبراطورية القادمة ويعتبر مؤسسها. قام باتشاكوتي بتطوير وتدعيم كوسكو ومن خلفها الوادي المقدس، لتكون عاصمة قوية من خلال إقامة دولة العدالة الإجتماعية، وتخطيط المدينة على شكل شبكة، ووضع يد الحكومة على الأراضي وإمدادها بالمياه لتأمين قوت الشعب، مما جعل شعب حضارة الانكا جاهز للامبراطورية ثالث ملوك حضارة الانكاإنطلاقًا من العاصمة القوية كوسكو، في العام 1438 إجتاح باتشاكوتي وجيشه الاتجاهات الأربعة من كوسكو إلى تاوانتينسويو Tahuantinsuyo.
تعاقب باتشاكوتي ومن بعده إبنه انكا توباك يوبانكي Túpac Yupanqui ثم حفيده واينا كاباك Huayna Cápac على التمدد وإخضاع القبائل والدول والممالك المجاورة لسيطرة الإمبراطورية الجديدة، ثم قام الأخير بتوحيد المناطق المفتوحة بعد أن شملت كافة سلال جبال الانديز التي وصلت حتى بوليفيا الغربية، وشمال غربي الأرجنتين، وجزءًا كبيرًا من تشيلي جنوبأ، وغربي وأعالي الإكوادور وأجزاء من كولومبيا الجنوبية شمالاً.
مدينة كوسكو مركز وعاصمة حضارة الانكا
من يقم بزيارة بيرو يجب أن تكون كوسكو مدينة الشمس وجهته الأولى، ومن يود التعرف إلى حضارة الانكا لا بد له من زيارة وادي الانكا المقدس مهد تلك الامبراطورية التي ما زالت تحتضن الكثير من أسرارها، لا سيما زيارة كوريكانتشا El Coricancha (المعبد الذهبي) أو ما كان يسمى بالأصل إنتي كانتشا Inti Kancha (معبد الشمس Templo del sol)، هي زيارة حتمية من ضمن الجولة السياحية في مدينة كوسكو، ذلك المعبد الذي كان شاهدًا على إبداع حضارة الانكا الفنية في صياغة وتشكيل الذهب.
كوريكانتشا معبد الشمس الأعجوبة
كانت كوريكانتشا مليئة بالكنوز التي فاقت الخيال، حيث غطت أكثر من 700 صفيحة من الذهب الخالص جدران الغرانيت المنقوشة بارتفاع ثلاثة أمتار، وكانت الباحة ممتلأة بتماثيل الحيوانات كاللاما وغيرها وكلها كانت منحوتة من الذهب، حتى إن الأرض كانت مرصوفة بالذهب الصلب، وللدخول إلى أكثر معابد حضارة الانكا قدسية كان يتوجب على الأشخاص أن يكونوا صائمين، حفاة، ومنحني الظهر خشوعًا فالمعبد كان مخصصًا لعبادة الشمس (Inti) أهم آلهتهم، فهم كانوا يقدسون العديد من عناصر الطبيعة كالشمس والقمر والجبال إلا أن الشمس كانت الآلهة العليا ويعتبرون أنفسهم أبنائها، وكانوا يعتقدون أن الذهب عرق الشمس والفضة دموع القمر!
معبد الشمس الذي صمد في وجه العديد من الزلازل التي ضربت كوسكو، كغيره من المباني المتينة والقوية الكثيرة التي تصور وتبرهن براعة وذكاء حضارة الانكا في الهندسة والبناء، ذلك المعبد الذي لم يقوَ الغزاة الاسبان بدورهم على تدميره بالكامل فعمدوا إلى بناء دير سانت دومينغو Convento de Santo Domingo فوقه، بأمر من خوان بيثارو Juan Pizarro شقيق الفاتح فرانسيسكو بيثارو Francisco Pizarro بعد أن قاموا بتخريب ونهب كوريكانتشا.
يمكننا أن نتعرف إلى أبرز ملامح رواية حضارة الانكا من خلال “درب الانكا” الممتد من العاصمة كوسكو إلى مدينة ماتشو بيتشو أشهر مدنهم، على طول وادي أوروربامبا المقدس مرورًا بمختلف بلدات ذلك الوادي، وأهمها بلدتي بيساك Písac وأويانتايتامبو Ollantaytambo اللتين تبرزا مهارة حضارة الانكا في الزراعة.
أبرز معالم حضارة الانكا في الوادي المقدس
تقول بعض المصادر أن بتشاكوتي أقام عدد من المقاطعات الملكية إحياءً لذكرى انتصاراته على القبائل والمجموعات العرقية الأخرى، ومن بين تلك الأراضي الملكية بيساك (تخليدًا للانتصار على كويوس Cuyos)، وأويانتايتامبو (تخليدًا للانتصار على تامبوس Tambos)، إلا أن بعض المؤرخين رجحوا تأسيس بيساك لحماية العاصمة كوسكو من أي غزو محتمل من أعداء الامبراطورية، خصوصًا أنه لم يتم العثور فيها على أية آثار تعود إلى ما قبل حضارة الانكا وعلى الأرجح أنها شيدت عام 1440.
بيساك PISAC مجمع التحف والحرف اليدوية
تبعد بيساك 30 كيلومترًا عن مدينة كوسكو شرقي سلسلة جبل فيلكابامبا Vilcabamba وتقسم إلى قسمين، البلدة الحالية التي تعود إلى حقبة الإستعمار والتى توجد بالوادي، وتشتهر بسوقها للمصنوعات الحرفية اليدوية التقليدية الذي يشهد رواجًا سياحيًا كبيرًا، أما البلدة القديمة (مدينة الأبراج) التي تعود لزمن الانكا فتقع على المرتفعات في موقع إستراتيجي كمختلف مواقع الانكا، وبنيت على هيئة طير مقدس بالنسبة إلى حضارة الانكا هو نوع من طير الحجل (La perdiz de Puna)، وهي تتألف من أربعة أجزاء أبرزها إنتي واتانا Inti Watana التي تحوي معبد الشمس، الأحواض، المذابح، ينابيع المياه ومنصة الاحتفالات.
كما تعد موراي من معالم حضارة الانكا تمتد الحقول المسطحة على طول المنحدرات لأن الزراعة كانت وما زالت تمثل الحياة لبيساك، وتبرز مهارة وقدرات شعب الانكا الزراعية في قدرتهم على إنتاج ثلاثة مواسم زراعية من الذرة خلال السنة الواحدة في حين أن المناطق نفسها تنتج اليوم موسمًا زراعيًا واحدًا في السنة، وكان مسرح موراي Moray المستدير المجاور لبيساك أكثر من مجرد مختبر زراعي، وقد رمزت المحاصيل في هذا المكان إلى كرم الآلهة وإلى العلاقة المتجددة بين حضارة الانكا ومعبوديها.
وتقع أيونتايتامبو (مكان الراحة) في آخر وادي الانكا المقدس على مسافة 90 كيلومترًا من العاصمة كوسكو، على طرف جبل شاهق يرتفع 2.800 متر عن سطح البحر ويُعتقد أنها تحوي مدفنًا ملكيًا، تظهر قوة حضارة الانكا في الرسوم في كل مكان، من السلالم الطويلة، نحو الحقول المسطحة، إلى الهياكل في قلب أويانتايتامبو التي بنيت كالعادة من صخور ضخمة من الغرانيت، إلا أن المنطقة المحيطة لا تحوي مصدرًا لتلك النوعية من الصخور بل تم نقلها من مسافة بعيدة جدًا، لكن أويانتايتامبو تروي لنا قصة مختلفة قد تكون تشير إلى الدلائل الأولى لنهاية تلك الحضارة العظيمة، فالمدينة غير منجزة! من الواضح أنه قد تم مقاطعة من كان يبني تلك الجدران حيث كان الإسبان قادمين، وتذكر يوميات الإسبان أن 50 جنديًا فقط قاموا بغزو أويانتايتامبو واستطاعوا السيطرة عليها!