زواج المكفوفات المغربيات بين تقاليد المجتمع وتحديات الإعاقة

مـحـمــد الـقـنـور  :

عـــدســة : بـلـعـيـد أعــراب :

الزغاريد، والرقصات، التهاليلُ والمواويل، الأهازيج والأفراح، كلها وغيرها مُستلزمات لطقوس الخطوبة، ومراسيم الحناء وزيارات الهدايا ومواكب الأعراس المعروفة بـ”ترَّاﯖت”، وترنيمات مزينات العرائس الشهيرات بـ”النـﯖافات” في اللهجة المغربية وإجراءات الزواج والتفاعل مع متطلبات فارس الأحلام ومع عائلته وسبل تربية واحتضان الأبناء بعد الزواج ، كلها أحلام وردية تنتظر تحقيقها كل فتاة مقبلة على الزواج، أما وإن كانت هذه الفتاة مكفوفة ترزح تحت طائلة الإعاقة البصرية، فإن الأحلام تغدو محفوفة بالكوابيس، وتتهددها التخوفات من كل جانب، حيث يبدو لدى نمطية المجتمع أن الفتاة المبصرة أكثر حظوظا من المكفوفة في الارتباط بشريك حياتها ، نظرا لإعاقة الكفيفة التي تشكل عائقا أمام تحقيق حلمها في الإقتران بزوج وتأسيسها معه لعش الزوجية ،وذلك لعدة أسباب، ينعكس أبرزها في الصورة النمطية التي لا تزال قائمة في المجتمع المغربي على غرار باقي المجتمعات العربية تجاه الكفيفة، حيث يتصور البعض أن الفتاة المكفوفة عاجزة عن القيام بمهام منزلها وتربية أبنائها ورعايتهم، فضلا عن تخوف أهلها وأهل الزوج المنشود من زواجها،خصوصا إن كان فارس الأحلام “العريس” من المبصرين، وتوجسهم من عدم جديته في الزواج أو طمعه فيها واستغلال إعاقتها أو حتى التكسب من ورائها، واستغلال مواردها المادية والمعنوية.
ومع ذلكــ ، فإن تجربة العديد من المكفوفات المغربيات مع أزواجهن، شكلت نموذجا ناجحا، حيث أصبح هؤلاء الأزواج من المبصرين عكاز هؤلاء الفتيات المكفوفات في الحياة يسترشدن بهم أثناء مختلف ظروف الحياة ومتاعب الزمن في جو من التراحم والتفاعل الإيجابي والمودة، وضمن سلسلة من قصص الحب والغرام تعجز عن وصفه حتى الكتابات الرومانسية التي تملأ القصص الغرامية والروايات والأفلام .
فمن المكفوفات من يصفن رفاق دربهن بعيونهن على الحياة بكل أفراحها ومآسيها، على الرغم من كون فرص زواج المكفوفات في المغرب تظل قليلة جداً، بسبب شيوع النظرة الدونية إتجاه النساء عموما مبصرات وكفيفات، والرواسب السلبية للثقافة الشعبية وقناعة الرجل بعدم قدرة المرأة المبصرة وبالأحرى الكفيفة على القيام بواجباتها فضلا عن رفض بعض الأسر لتقبل فكرة الارتباط بكفيفة.
في حين، بات بعض الرجال المغاربة من المبصرين، يرون في الزواج بفتيات من الكفيفات ، والإقتران بهن نوعا من تحدى نظرة المجتمع القاصرة في رأيهم إتجاه الكفيفات وشكلا من أشكال مناهضة مختلف أساليب الوصم والخجل الاجتماعي، وقبولا إراديا وعقلانيا لتحقيق ذواتهم من خلال القبول بإعاقة زوجاتهم البصرية، مؤكدين حسب بحث ميداني قمت به حول علاقة زيجات لمبصرين بفتيات كفيفات، أن هؤلاء الأزواج يشعرون بالكثير من التميز والفضائل خصوصا في العناصر النسائية، تؤكد على نجاعة اختياراتهم العاطفية وقوة شخصياتهم ، إذ يؤكد “أح م ” 44 سنة الموظف بإحدى الشركات التجارية بالدار البيضاء ، والمتزوج من مكفوفة أنه كان يرقب نظرات العديد من المواطنات والمواطنين عندما كان يصطحب زوجته الكفيفة لأي مكان عمومي في بداية الزواج، ولكنه لم يكن يعير هذه النظرات أي اعتبار ولم يبال بها في يوم من الأيام، لأن قناعاته بحياته الزوجية، كانت فوق مثل هذه الإعتبارات والنظرات المجتمعية.
في حين لا تخفي “رج ا”،زوجة طبيب من مكناس مكفوفة ، والبالغة من العمر 33 سنة، والأم لطفلين ، تخوفها في بداية زواجها من فكرة الارتباط بشخص من المبصرين، رغم علاقة الحب التي كللت إقترانهما ببعضهما البعض، وتوجس عائلته من الأعباء الجديدة التي تنتظرها بعد الزواج،حيث تؤكد رجاء أنها استطعت القيام بواجباتها كاملة الحمد لله .
وعلى مستوى ما يثار من الشكوك والأقاويل من ان زواج المبصر من كفيفة عادة ماتكون من وراءه مصلحة، ترى “رج ا”، أنه من الوارد أن يستغل بعض الرجال زواجه من كفيفة لغاية مادية أو مصلحة ما، واذا تم التحقق من الامر واتضح أن الزوج فعلا يستغل زوجته المكفوفة مالياً أو لأي غرض آخر يؤثر على المعاق بصرياً من الناحية المالية او النفسية أو البدنية، فيجوز لأهل المعاق أو لأي شخص ما ثبت لديه ذلك، إقامة دعوى قضائية ضد استغلال هذا الزوج، وفق مقتضيات مدونة الأسرة .

حكايات وتجارب على طريق الحياة

وفي نفس سياق شهادات الكفيفات المتزوجات تتحدث نظراؤهن من غير المتزوجات من ذوات الإعاقة البصرية وضعيفات البصر مؤكدات ان”قطار الزواج لم يفتهن” كما تصرح “ح م ي” 41سنة، المتزوجة والأم لطفلة واحدة، والموظفة بإحدى المعاهد العليا أنها كانت بطلة من بطلات الجمباز على مستوى جهة الدار البيضاء، قبل أن تفقد بصرها في حادثة مؤلمة، بسبب سقوطها على رأسها في التداريب إستعدادا لمسابقة دولية لذات الرياضة مما أدى بها إلى فقدان بصرها، مؤكدة أنها فقدت البصر ولكن لم تغب عن عقلها يوما البصيرة.
من جهتها تؤكد “ف اخ “50 سنة، والمنحدرة من مدينة زاكورة،والتي تقطن بمراكش، وتشتغل كربة بيت وأم لأربعة أبناء، أنها تفتخر بدورها الذي أدته في تربية أبنائها الأربعة وكلهم ذكور، وأنها إستطاعت رغم إعاقتها البصرية، في أن تمهد لهم الطريق في أن يصبحوا من الفاعلين بالمجتمع المغربي، حيث يشتغل أصغرهم كطبيب أسنان في مدينة القنيطرة، وتؤكد “ف اخ” على ضرورة سن سياسة حكومية بناءة وجادة للإهتمام بالكفيفات عموما من المغربيات، وبربات البيوت منهن، عبر خلق أندية ثقافية لهن، وتمكينهن من تجاوز عقبات الأمية، وتعليمهن كيفيات إنشاء المشاريع المدرة للدخل، إنصافا لهن في ما قدموه للمجتمع المغربي من خدمات ولما أنجبنهن من أطر وفعاليات على شتى الأصعدة.
وتشدد “ف اخ “على أن مثيلاتها من الزوجات والأمهات الكفيفات ممن فقدن البصر ، قد أبدلهن الله بأزواج مسؤولين يقدرون الحياة الأسرية، ويحترمون مقومات بيت الزوجية، حيث أضفوا على حياتهن مسحات من الإخلاص وعناوين من الوفاء وحولوا حياتهن إلى سكينة وطمأنينة تجاوزن بها إكراهات العيش بدون بصر.
إلى ذلكــ، تقترح “ن ا د “مسؤولة بإحدى الجمعيات المحلية للعناية بالنساء من ذوات الحاجات الخاصة، تنظيم دورات تدريبية للكفيفات المقبلات على الزواج لتأهيلهن حول كيفية التعامل مع ازواجهن ورعاية أبنائهن والقيام بالمهام المنزلية اليومية وتوفير مساكن للكفيفات المطلقات وغير المتزوجات في المدن الكبرى، وبالمجمعات السكنية الكوكبية لضمان الحياة الكريمة لهذه الفئة من النساء التي تتسم بالخصوصية المنطلقة من القابلية على سهولة إستعمال مرافق هذه البيوت وتتطلب الاستقلالية.
وتضيف “ن ا د” أن المغرب، عرف مبادرات أساسية في مجال رعاية المكفوفين والمكفوفات وضعاف البصر، من خلال تأسيس المنظمة العلوية لرعاية المكفوفين، التي إحتفلت في نهاية السنة المنصرمة بالذكرى الخمسين لتأسيسها، والتي ترأسها سمو الأميرة للا لمياء ،غير أن ذوي الاحتياجات الخاصة لايزالون في حاجة ماسة إلى اصدار القوانين والتشريعات التي تحفظ وتحمي كرامة المكفوفات والمكفوفين عموما وتكفل حقوقهم الفردية والجماعية، وتمكنهم من سبل توفير الحياة الملائمة لهن ولمن يرعاهن.
في سياق آخر، تؤكد جهات من المجلس العلمي لمدينة مراكش أن الدين الإسلامي الحنيف لم يمنع زواج الإعاقة البصرية، فهي ليست اعاقة تفقد الأهلية، لكن يشترط أن يكون أحد طرفي العقد مبصراً والآخر كفيفاً، قصد خدمة الطرف الآخر، وتجنب العواقب التى قد تنجم من هذا الارتباط مثل عدم المعاشرة بالمعروف وعدم الاستقرار والسكن والطمأنينة، رغم أن زيجات بين المكفوف والمكفوفة أتبثت نجاحها وإستمرارها .
من جهة أخرى، ترى “ش ي م ” طالبة 24 سنة مكفوفة تحضر “الماستر”بكلية العلوم التابعة لجامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء،أن الزواج قسمة ونصيب وإرادة خاصة ورضا وقبول بين الطرفين، حيث تشدد على عدم تدخل الأهل في الاختيارات المصيرية للأبناء والبنات، خصوصاً في مسألة الزواج، وتؤكد على أهمية مساعدتهم في هذه الاختيارات التي عادة ماتتسم بالبقاء على وجه الصلاح والدوام، وإختيار شريك الحياة التي يرونها مناسبة لهم . وتضيف “ش ي م “، أنها كثيرة هي قصص الحب والوفاء التي جمعت بين حوريات على حد تعبيرها من ذوات البصيرة وبين رجال مبصرين، مشددة أن الاعاقة البصرية ليست عائقا أمام الحب ولا أمام الزواج ولا أمام الإنجاب، وأن الكفيفة قادرة على ممارسة حياتها بشكل طبيعي المرأة المبصرة.

إلى ذلكــ ، لاتنفي “ف ط و” 33 سنة، كفيفة وغير متزوجة، وتشتغل كمسيرة مقاولة تختص في بيع العطور ومستخلصات الزيوت النباتية ومستحضرات التجميل المرتبطة بشجرة “الأرﯖــان”، بإحدى الجماعات التابعة لإقليم الصويرة، أن الفرص المتاحة أمام زواج الكفيفات ضئيلة جداً مقارنة بالرجال من المكفوفين وإن وجدت فإن النصيب يكون من خارج المغرب، مشيرة حسب تجربتها الشخصية إلى أن غالبية زواج الكفيفات المغربيات من رجال مبصرين يظل هدفه إما المصلحة الشخصية أوالإستغلال والإستفادة من وراء إعاقة الفتيات الكفيفات أو حتى إستدرار الشفقة وتحسيس الفتاة الكفيفة بمنتهى العجز وأقسى الإهانة.
وتؤكد “ف ط و” على ضرورة إعمال التمييز الإيجابي والوصم الإيجابي كذلكـ لفائدة الفتيات والنساء الكفيفات والاهتمام بحقوق الكفيفة المتزوجة والغير المتزوجة ، والنضال من أجل تغيير نظرة المجتمع الدونية للمرأة الكفيفة والمبصرة على حد سواء ، مشيرة أن التصور النمطي والذكوري الذي تكرسه التأويلات المعوجة للنصوص الدينية ، وتغذيه الأمثال الشعبية والحكايات والعادات والتقاليد المتزمة هو أساس كل العنف الجسدي والمعنوي وحتى الإداري والقانوني الذي تعيشه النساء الكفيفات .
ولاتخفي “ف ط و” أنها تفضل الارتباط بزوج كفيف تحقيقا لمبدأ التكافؤ، حيث من الطبيعي أن يتعايش الزوج الكفيف مع معاناتها ويكون على دراية تامة بظروفها الصحية من دون تمييز أو ملل أو كلل، مشيرة إلى أن إعاقتها البصرية طالما حصرت فرصها في الزواج، كما تنظر في ان يتقدم لطلب يدها أجانب أو مقيمين بأوروبا أو بأمريكا، على أساس أن هؤلاء يعيشون في مجتمعات تحترم الإنسان إنطلاقا من إنسانيته، وليس على مقياس حاجاته الخاصة وإعاقاته.

عشق على تراتيل البصيرة

لقد تزوجت بها لأني أحببتها، وعشقتُها شكلا ومضمونا ، وإقتنعتُ بها سلوكا ومظهرا، فقد شدتني بأناقتها المفعمة بالبساطة، وإحساسها المرهف، ونعومة أفكارها، المتدفقة بالسكينة والدعوة للإستقرار، بهذه العبارات وبغيرها يعبر “م ص ط “، موظف الجمارك، المبصر، 44 سنة وأب لطفلين، ، عن قصة إرتباطه بزوجته الكفيفة “ب ش ر” التي تجاوزت قبل أسابيع عقدها الثالث، والي تشتغل موظفة بقطاع البريد ، مجسدا بذلكـ نموذجا ناجحا في تعايشه مع إعاقة زوجته البصرية متحديا نظرة المجتمع القاصرة وكل مظاهر الوصم المجاني والأفكار الجاهزة وملابسات التردد الاجتماعي إتجاه الإرتباط بالكفيفة ضمن علاقة زوجية مستقرة ومستشرفة لبناء مستقبل مشترك.
ويسرجع “م ص ط ” ذكريات ارتباطه بشريكة حياته”ب ش ر”، حيث التقاها منذ أن كانت طالبة بكلية الحقوق التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط ، عندما كان كثير التردد على إحدى المكتبات بالرباط ؛ وبحكم أن شقيقته كانت قيمة بهذه المكتبة.
ويصرح “م ص ط ” أن مشاعر حبه قد بدأت إتجاه “ب ش ر” منذ أن رآها بمكتبها في المكتبة المعنية، وكيف إسترعت إهتمامه بجمالها الآخاذ، وأناقتها الجذابة، ولم يعرف آنذاكـ أن هذه الفتاة الحسناء التي تضع نظرات سوداء على عيتيها ، كفيفة، وإنما إعتقد أن ذلكـ ناتج عن رغبة منها، خصوصا وانها كانت تتحركـ بين مكاتب المؤسسة ورفوف الكتب بكل ثقة وهدوء،ويضيف “م ص ط ” أنه بمجرد ما علم أنها كفيفة، إزداد إهتمامه بها، ليتوج هذا الإهتمام بدأت بقصة حب عارمة ، ثم زواج ناجح باركه كلا العائلتين ، وحياة زوجية مستقرة أثمرت عن طفلين .
وعن رد فعل العائلة والمجتمع من فكرة ارتباطه بكفيفة، يصرح”م ص ط ” أنه في البداية واجه معارضة كبيرة من قبل شقيقته الكبرى، لكنها بمجرد علمهما بخبر الارتباط كانت من أول المباركات والمهنئات، وأنها تجشمت السفر من مدينة العيون لحضور حفل الزفاف في الرباط.
ويؤكد “م ص ط “أنه لم يشعر يوما بأن إعاقة زوجته “ب ش ر” تمثل حاجزا له، أو نقصت من حبه لها قيد أنملة، بل يعترف أن زوجته الكفيفة تقوم بمسؤولياتها كزوجة وكأم، سواء من تربية الأبناء ورعايتهم أو أداء واجباتها الوظيفية كما المنزلية.
وحول مدى قبول عائلة “ب ش ر” لفكرة إرتباط إبنتهم الكفيفة بجمركي ومبصر، يضيف “م ص ط” : أن عائلة زوجته “ب ش ر”كأي أسرة تهتم بمصير بناتها وأبنائها كانت متخوفة من إرتباط إبنتهم بمبصر،حيث طلبوا مهلة من الوقت للسؤال عنه ومعرفة علاقاته الأسرية والمجتمعية، وحقيقة وضعه الإجتماعي، وبعدها بفترة أبدوا موافقتهم على ارتباطي بابنتهم، فتم تحديد موعد الزيارة بين الأسرتين وفق العادات المغربية في أي زواج من مراسيم الخطوبة، ثم مراسيم عقد القران وحفلة الزفاف، حيث تم الزواج على سنة الله ورسوله، وعاشا حياتهما طبيعية، ولا يزالان .
ويتذكر “م ص ط” كيف بادره والد “ب ش ر”، صهره المرتقب، بإشارة منه ، إلى أن إبنته كفيفة، ليجيبه “م ص ط | على البديهة والتلقائية، بكونه أراد الزواج بها، لكونها كفيفة تتمتع بالبصيرة ولاتحتاج للبصر، وأن أهم شيء لديه الاخلاق والنسب الطيب، وان الاعاقة لن تحد من مدى حبه لها، وإعجابه بها.
وعن ردود فعل المجتمع ومدى تقبلهم هذا النوع من الارتباط، يبرز “م ص ط” أنه لا يخفي على أحد أن بعض نظرات الدهشة والاستغراب من بعض الأشخاص خصوصا العنصر النسائي ، حيث كانت لك النظرات تحاصره كلما إصطحب زوجته المكفوفة “ب ش ر” الى أي محل تجاري أو مطعم أو مصلحة ، خصوصا في فترة في بداية الزواج، ولكنن لم يكن يبالي بها ، ويضيف أنه وبعد الفترة الأولى من زواجه رزق بابنته ، والتي كانت فأل خير ويمن عليهما ، حيث بعد ولادتها تمكن من إقتناء منزل فسيح للسكن،وحظي بترقية مميزة في وظيفته وكان في غاية السعادة هو وزوجته ، وبعدها رزق بابنه الثاني، آخر العنقود .
ويستطرد “م ص ط” أنه يعيش مع زوجته حياة طبيعية هادئة كأي أسرة مغربية تتقن فنون العيش وتدبير الصراع وإحترام الآخر، على الرغم من كون الحياة لا تسر دائما على وتيرة واحدة، فهناك اللحظات المرحة والمنشرحة والأخرى القاتمة والمُرة، ولكن يشدد “م ص ط” أن الأهم هي البساطة والرضا والقناعة التي تميز حياته مع زوجته المكفوفة.
وعن مراسم الزفاف، يتذكر “م ص ط” كيف عزم على إحياء حفل الزفاف في قاعة عمومية، بمنطقة طريق عكراش في الرباط، بالإتفاق مع عروسه ، وكيف تم إستدعاء أفراد الأسرتين، وكل أصدقائه وأرحامه وصديقات عروسه وصديقاتها وزملائها في العمل، متعمدا قطع تلكـ الرؤية النمطية التي يحملها المجتمع المغربي كما كل المجتمعات العربية إتجاه المرأة الكفيفة .
من جهتها ، أكدت “ب ش ر” أثناء لقائي بها قائلة “مع زوجي “م ص ط ” عشنا معا على الحلوة والمرة، وعلى الكفاف والإستغناء عن الناس، مما مكننا أن نسعد بأجمل اللحظات في السفريات وفي الحفلات وأثناء الولوج للمسارح وحتى لدور السينما حيث يقرأ لي”م ص ط ” جمل الدبلجة العربية أو الفرنسية بصوت منخفض خصوصا للأفلام الهوليودية ..
فهكذا تسترجع الزوجة الكفيفة “ب ش ر” شريط الذكريات، لتبتسم من تخوّفها في البداية من فكرة الارتباط بشخص مبصر، ورعبها من الاعباء الجديدة التي كانت تتصور آنذاكـ أنها تنتظرها بعد الانتقال إلى عش الزوجية، ، لتؤكد أنها استطاعت القيام بواجباتها كاملة مع إبنها وإبنتها، بمساعدة زوجها “م ص ط” الذي كان لايزال متفهما لأبعد الحدود لإعاقتها البصرية .

مساندة لا تحتاج للعصا البيضاء

“أبي كان سندا لي منذ الطفولة، ومع زوجي رأيت إشراقات الحياة وتنوعات الطبيعة والناس”، بهذه العبارة تعبر “س ع ا| كفيفة، عن مسار حياتها مع الإعاقة البصرية سواء في ظل حضانة والدها، التي دامت لمدة تزيد عن العقدين، ثم إثر إنتقالها لبيت الزوجية مع زوجها المبصر والذي التقته في احدى الأنشطة والفعاليات التي كانت تشارك فيها ولمتعلقة حسب ما تتذكر، بتمكين المكفوفين من مسالكـ الحياة العامة .
وتؤكد “س ع ا” 37 سنة ، الموظفة ببريد مركزي، والمسؤولة عن المواصلات السلكية واللاسلكية، والأم لطفلين، أن فقدان البصر ليس مقياسا لنجاح الحياة الزوجية أو فشلها، فهناك نماذج زيجات ناجحة للعديد من الكفيفات ممن تخطين الحواجز الجسدية والنفسية واثبتن وجودهن وزيجات اخرى فاشلة للمبصرات، مشيرة أن الإعاقة ليست عائقا أمام زواج ذوات الاعاقة بشكل عام والكفيفات على وجه الخصوص، فبالرغم من إعاقتها البصرية ، فإن”س ع ا” تصرح بقدرتها على مباشرة ادارة أمور منزلها ومطبخها بتوابله وأفرنته، التي تستشعر إشتعالها بأصابعها، والأمكنة المخصصة للملاعق والشوكات والصحون ومختلف أواني ومعدات المنزل، المرتب على طريقة “برايل” على غرار الزوجة المبصرة، أو أكثر، في مباشرة طرق الطبخ وإجراءات التنظيف وحتى كي الملابس، مبينة أن أغلب الزوجات المبصرات يعتمدن على المدبرات المنزلية في القيام بمهام البيت اليومية، كما أن هناك اجهزة كهربائية والكترونية، كغسالة الصحون وألات التصبين، والتجفيف، وطاحونات العصير، والمقلاة الآمنة والمغلقة، باتت تساعد الزوجة المبصرة والكفيفة على حد سواء في إنجاز متطلبات المنزل على أكمل وجه.
وفيما يتعلق بإختيار ملابسها وضبط إنسجام ألوانها حرصا على الأناقة، تؤكد “س ع ا” أنها عادة ما تختار الملابس والأحذية وحقائب اليد ذات النتوءات المُميِّزة، أو التفصيلات الخاصة، مما يمكنها التعامل بشكل دقيق مع مقتنياتها ودولاب أزيائها وعطورها ومساحيق تجميلها، كما تشدد على أهمية اقتناع الرجل بالمرأة المكفوفة التي اختارها، في كونه يساهم في تعزيز إرادتها ويساعدها على تطوير الذات، وعلى التفاعل مع المحيط الخارجي والمجتمع ، وفي كونها لم تصب بأية نكوص أو إحساس بالنقص أو بالدونية .

زواج المكفوفات تحت رؤية الشارع العام

وعن الزواج بالمكفوفة، تم إستفسار مجموعة من الشباب المغاربة في الموضوع، ضمن خطة عمل ميدانية شملت مدن مراكش والجديدة والصويرة، ومراكز حضرية وشبه قروية بكل من إقليمي الحوز على مستوى بلدية أيت أورير وشيشاوة على مستوى بلدية إيمنتانوت، فخلص البحث إلى قبول ما يزيد عن 76 في المئة من الشباب من الذكور، بالزواج بالكفيفة، مع شرط الحب والتفاهم، حيث أجمع معظم المستجوبين من الشباب الذكور، على القاعدة الإنسانية، مؤكدين أن الكفيفة وأن كل إنسان معرض لكف البصر وأنه ليس عيبا يدينها، في حين ركز شباب آخرون من المستجوبين، على أن الفتاة الكفيفة تتمتع بأسبقيات في المجتمع المغربي، وبمساعدات إدارية أثناء الحاجة إليها، وأنها تحافظ على زوجها بكل ما تملك من بصيرة ومن تفهم .
وعن الشباب المبصرين من المستجوبين، فقد أجمعت أراؤهم أن أسباب رفض زواجهم بالفتاة الكفيفة، أو حتى المطلقة الكفيفة، ينبني على أسباب أخلاقية، وليس على الإعاقة البصرية، خصوصا وأن الفتاة الكفيفة تحاول بجدية تحقيق هدفها مع زوجها المبصر.
في حين عبرت طالبات كفيفات في مراكش، أنهن لايقبلن الزواج بشباب مكفوفين نتيجة ما لاحظناهُ من سوء معاملتهم، مؤكدات على ضرورة أن يكون الزوج مبصرا حتى يساعد زوجيته الكفيفة.
أما عن اللواتي قبلن زواجهن من كفيف ، فيرتاحون إلى الزوج الكفيف لكونه يتفهم وضعية زوجته الكفيفة، على ذات الواجهة، يرفض الشباب من المكفوفين زواجهم من الكفيفات بحجة أن كثيرا من الكفيفات لا يقدرن على عمل البيت وأحيان البنت الكفيفة لا تعرف شيء عن أعمال البيت، في الوقت الذي تساعد الزوجة المبصرة زوجها الكفيف في الكثير من الأعمال والأشغال.
وحول تدبير الأشغال وإتقان الأعمال ترى الأستاذة “ب ه ي”، 33 سنة ، كفيفة وأم لأربعة أطفال ، أن العائلة هي المسؤولة الأولى على تربية الفتاة الكفيفة، وتلقينها مبادئ التعامل الحضاري وأهمية المسؤوليات، وتدبير أعمال البيت وهدم جدار الخوف أمامها من الإعاقة البصرية، مشيرة أنها تعرف عائلات بالدار البيضاء باتت تقتنع أن بناتها الكفيفات لم يتقدم لهن أحد لأنهن كفيفات، حيث تجزم أن هذا التصور مغلوط من أساسه، لأنه في المقابل هناكـ زيجات ناجحة بين مبصرين وكفيفات حتى بنفس المدينة .

هذا، وإذا كان الــ 15 أكتوبر من كل عام ، يشكل يوما عالميا لصاحبات وأصحاب العصا البيضاء التي ترمز لذوي الإعاقة البصرية، حاملاً معه الكثير من الدلالات حول حقوقهم في التعليم والعمل والمساواة مع سائر فئات المجتمع، وداعيا إلى تعريف المجتمع بالتحديات التي تواجههم ومنها أمل البحث عن شريك العمر، فإن المسؤولين من التربويين والإداريين والحكوميين ملزمون بمساعدة المكفوفات والمكفوفين على تخطّي درجات اليأس، والإحباط ، وتشجيعهم على ولوج الحياة العامة،وعلى الاستمرار ومواكبات التطورات التي يعرفها المجتمع ، والعمل على توفير احتياجاتهم الشخصية، ودعم المنعشين العقاريين ومساعدتهم لتهيئة منازل ذات تصاميم تراعي حاجاتهم الخاصة، في الحركة والاستعمال قصد تحقيق الاستقرار الأسري لهم ، سواء بارتباط الكفيفة أو الكفيفة بالكفيف أو بالمبصر.

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.