محجبات يحتسين الخمر على قارعة شوارع المدن الأوروبية
هاسبريس :
عمدت في الآونة الأخيرة ، العديد من النساء المحجبات في أوروبا، من جاليات مختلف الدول الإسلامية على التردد على مختلف الحانات المكشوفة في معظم عواصم أوروبا، قصد إحتساء الخمر والنبيذ، خصوصا بالحانات المجانبة للأرصفة العامة، وهو ما فسره العديد من الباحثين المهتمين بقضايا المجتمعات الإسلامية، بالثورة الداخلية على الأعراف الذكورية التي كانت تحاصرهن في بلدانهم الأصلية، وإعتبارهن إحتساء الخمور ومختلف أنواع الجعة نوعا من إثبات الذات،وتحقيق الإرادة في إستثمار للحريات الشخصية التي تطبع الحياة الأوروبية .
هذا، وقد عرفت معظم الحضارات الإنسانية وشعوب الأرض الخَمر، ذاكــ السائل المتعدد الأنواع والمتشعب الأجناس والآخذ بشتى الصفات،والمثير في نفس الآن للجدل ، حيث ظل يحاربه ويحرّمه البعض في حين تقبله البعض الآخر، ورفعوه إلى مصاف الآلهة، كما فعل الإغريق عندما وضعوا الإله “باخوس” كإله للخمر.
أما بالنسبة للعرب، فقد عرفوه قبل الإسلام، بأنواع مختلفة،وتغنى به شعرائهم، ولاتكاد تخلو معلقة من معلقات الشعر العربي من ذكره والتغني به، فقد صنعوه من العنب والتمر ومن الشعير والزبيب والذرة، وكان امتلاكه مفاخرة وجاهاً بين القبائل والعشائر والمدن والقرى في العصر الجاهلي ، وظل إحتساؤه وشربه دليلاً على الغنى وكما كان إمتلاكـ خوابي الخمر المعتقة رمزا لعلو المكانة والرفاهية .
كما أن العرب استوردوا الخمر من خارج الجزيرة، وهذا ما يتضح من معلقة الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم في قوله :
“ألا هبّي بصحنك فاصبحينا ……….ولا تبقي خمور الأندرينا”.
وأندرين هي مدينة في الشمال السوري ، كان يؤمها التجار من روما وأثينا والعراق والجزيرة العربية، وقد إشتهرت فيما مضى بكرومها وطيب خمرها، ما جعلها مصدراً لشبه جزيرة العرب، كما عرفوا الخمر من بصرى الشام من (بيت رأس) إحدى قرى أربد في الأردن، وقد ذكرها ياقوت الحموي في معجم البلدان.
كان انتشار الخمر في الجاهلية لا يثير الكثير من التحريمات، إذ عُرفت الخمّارات وجلسات الشرب.
إلا أن الروايات الإسلامية تستثني بعض الشخصيات ذات المكانة، بوصفهم امتنعوا عن الخمر حتى قبل الإسلام، ومنهم “عبد المطلب بن هاشم جد الرسول الكريم ، وشيبة بن ربيعة بن عبد شمس المقتول ببدر، وعثمان بن عفان، والقس ورقة بن نوفل، وقيس بن عاصم السعدي، وعبد الله بن جدعان”. ويقال إن أول من حرم الخمر في الجاهلية هو الوليد بن المغيرة والد الصحابي والفارس الإسلامي خالد بن الوليد.
وعلى النقيض، عَرف الوجهاء والأعيان وزعماء القبائل، والرهبان وكبار التجار كما الشعراء في الجاهلية الخمر وافتتحوا به قصائدهم، لكن لم يكن له حضور مستقل كغرض شعري، على غرار المدح والهجاء، إلا أنه بقي محطّاً للوصف، فالشاعر الجاهلي المنخل اليشكري وغيره تغنوا بها.
كما حضرت في معلقة عنترة بن شداد، إذ يرى نفسه حتى في شرب الخمرة شجاعاً مقداماً فينشد في معلقته :
ولقد شربت من المُدَامة بعدمـا ………. ركد الهواجر بالمشوف المُعْلَـمِ
بزجاجـة صفراء ذات أسـرّة ……. قُرِنت بأزهر في الشَمال مُقـدم
فإِذا شـربت فإنني مستهلـك ……… مالـي وعرضي وافر لم يُكلَـمِ
وإِذا صحوت فما أقصر عن ندى …….. وكما علمتِ شمائلي وتكرُّمـي
أما من اشتهر بينهم بشرب الخمر وجعله محور حياته وذاع صيته لذلك، كان الشاعرأبو بصير الأعشى الأكبر ، الذي لم يدخل الإسلام فقط لأنه حرّم الخمر، وبقي على جاهليته، رغم أنه عزم على شد الرحال نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى كل حال، فإن الأعشى يمثّل الشاعر المعاقر للخمرة في العصر الجاهلي، والصيت الذي ذاع حوله مرتبطٌ بمعلقته ، إن إعتبرنا أن المعلقات عشرة وليس سبعة ، والتي تغنى في مقاطع منها بالخمر كقوله:
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني…………. شاوٍ مشلٌ شلولٌ شلشلٌ شول
في فتيةٍ كسيوف الهند قد علموا… ……..أن هالكٌ كل من يحفى وينتعل
نازعتهم قضب الريحان متكئأً…………..وقهوةً مزةً راووقها خضل
لا يستفيقون منها وهي راهنةٌ………. إلا بهات وإن علوا وإن نهلوا
يسعى بها ذو زجاجاتٍ له نطفٌ………. مقلصٌ أسفل السربال معتمل
ومستجيبٌ تخال الصنج يسمعه……….إذا ترجع فيه القينة الفضل
والساحبات ذيول الخز آونةً……….. والرافلات على أعجازها العجل
من كل ذلك يومٌ قد لهوت به………. وفي التجارب طول اللهو والغزل
فلما جاء الإسلام لم ينفِ اللذة التي يحتويها الخمر، بل حوّلها إلى متعة إلهية، يحصل عليها أهل الجنة من الصالحين حين يدخلونها
إلا أن تاريخ الخمر وصناعتها في الجاهليّة يعود إلى بعض الأساطير والحكايات، التي كانت تتداول بين العرب، فذُكر في “حلبة الكميت” لشمس الدين بن محمد المتوفي عام 859هـجرية في الباب الثاني أن “أول من عصرها أبليس لقابيل وأولاده”.
وحكى الدميري في كتابه “حياة الحيوان الكبرى “أن آدم لما غرس الكرمة، جاء إبليس فذبح عليها طاووساً، فشربت دمه فلما طلعت أوراقها، ذبح عليها قرداً فشربت دمه، فلما طلعت ثمرتها ذبح عليها أسداً فشربت دمه، فلما انتهت ثمرتها ذبح عليها خنزيراً فشربت دمه، فلهذا شارب الخمر تعتريه هذه الأوصاف الأربعة، وذلك أنه أول ما يشربها وتدب في أعضائه، يزهو لونه ويحسن كما يحسن الطاووس فإذا جاءت مبادي السُكر لعب وصفق ورقص، كما يفعل القرد فإذا قوي سكره جاءت الصفة الأسدية، فيعبث ويعربد ويهذي بما لا فائدة فيه ثم يتقعص كما يتقعص الخنزير، ويطلب النوم وتنحل وصاله.
فلما ظهرت الدعوة المحمّدية الكريمة ، وانتشر الإسلام في شبه الجزيرة العربيّة، شكل انقلاباً اجتماعياً وسياسياً، وظهر التحريم وفق النص، الذي تدرج ثم انتهى بتحريم الخمر تحريماً قطعياً. بالرغم من بقاء عادة شرب الخمر لدى البعض، إلا أن الكثير من الشواهد والقصص تتناقض حول من كانوا يشربون الخمر، وحول التحريم أو الكراهية ، وحول النبيد أو الجعة، وحول المحاليل المختلطة والعصائر المخمرة، إضافة إلى مدى دقة تطبيق الحد أو التعزير عليهم، بخصوص حد جلد شارب الخمر ، لكن هناك اختلافاً بعدد الجلدات، بوصف شرب الخمر من الكبائر.
إلى جانب ذلك قدم الإسلام مفهوم الحرمان في الآخرة من “الخمر المقدس” بوصفه عقاباً لشارب الخمر في الدنيا، على حد تعبير الرسول محمد صلى الله عليه وسلم : “ومن شرب الخمر في الدنيا، فمات وهو يُدمنها ولم يتب، لا يشربها في الآخرة”. إلا أن الإسلام قدّم رؤية مختلفة، إذ لم ينفِ اللذة التي يشتمل عليها الخمر، بل حوّلها إلى متعة إلهية، يحصل عليها أهل الجنة حين يدخلونها، لتبقى المتعة حصراً بالعالم الآخر. إذ يقول النص القرآني ”مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم”.
فخمر الجنة لا يشبه خمر الدنيا، هو لا يُسكر، أي لا يذهب العقل، كما ذُكر في القرآن الكريم أيضاً “يطاف عليهم بكأس من معين، بيضاء لذة للشاربينَ، لا فيها غول ولا هم عنها ينزفونَ”، كذلك “يتنازعون فيها كأساً لا لغو فيها ولا تأثيمٌ”. هذه الصفات التي يذكرها النص القرآني، ترتبط بمعنى كلمة الخمر بوصفها تحجب العقل كالخِمار، فالجنة خمرها أبيض ولا يسكر شاربها، ولا تؤدي إلى آلام مختلفة في الجسد، كذلك لا يدخل شاربها في متاهات اللغو والأحاديث الناتجة عن السكر.
على أن منطق الخمر الإلهي قائم على لذة صافية، لا تداخلها “التبعات” ولا تكتنفها المعاصي أو النتائج الدنيويّة المرتبطة بالخصائص البشريّة من جهة، والخصائص الطبيعية للخمر من جهة أخرى، لنقف أمام جوهر جديد للخمر، فهي لا تشابه ما يُشربُ الآن، ولا ما كانوا يشربونه القدماء، مما يعني أنه انقلاب في الصفات الجوهرية الطبيعية للخمر ، من دون أن يكون مرجعية لهذه الصفات الجديدة سوى المقدس، فخمر الدنيا يشابه خمر الآخرة بالاسم لا بالصفات، وهو ما قدمه النص القرآني الكريم ، حيث شكل نقلة على صعيد اللذة التي يقدمها الخمر، إذ تحولت من متعة دنيوية إلى “خمرة إلهية” فائقة اللذة من دون سلبيات متعلقة بها.