عندما زار محي الدين بن عربي منطقة الشاوية في طريقه إلى شيخه القطب إبن العريف في مراكش
محمــد القــنــور :
نظمت المديرية الإقليمية لوزارة الثقافة بسطات، السبت الفارط 18 مارس الحالي لقاء ثقافيا احتفى من خلاله ثلة من الجامعيين والمثقفين والمهتمين، بحدث مرور الشيخ محي الدين بن عربي من منطقة الشاوية في اتجاه مراكش، قادما من الأندلس، قبل حوالي 841 سنة.
وشكل هذا اللقاء، الذي نظم بشراكة مع جامعة الحسن الأول بسطات حول موضوع “أعلام وتراث الشاوية”، والمجلس الجماعي لبني خلوق دائرة البروج بسطات، فرصة أكد خلالها الباحث والمسرحي المسكيني الصغير، على دور الثقافة الشعبية في خلق الانتماء، والوجود، مشيرا إلى أنه لم يعد ينظر إلى الثقافة الشعبية بصفة قدحية، ولكنها أصبحت تقوم بمهمة الكشف عن هذا الإنسان وتبيان حقيقته من خلال حكاياته وأحاجيه ورموزه وعاداته وتقاليده وعمرانه.
ويعتبر محي الدين محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي ،من أب موريسكي وأم أمازيغية ويعرف عند الصوفية بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر، وهو أحد أشهر المتصوفين المسلمين ، إذ لقبه أتباعه وغيرهم من الصوفية “بالشيخ الأكبر” ولذا تنسب إليه الطريقة الأكبرية في الصوفية.
هذا، فقد ولد بن عربي في مرسية في الأندلس في شهر رمضان الكريم عام 558 هجرية الموافق لــ 1164ميلادية قبل عامين من وفاة الشيخ عبد القادر الجيلاني وتوفي في دمشق عام 638هـجرية الموافق 1240م. ودفن في سفح جبل قاسيون.
ويظل محي الدين بن عربي من كبار المتصوفة والفلاسفة المسلمين على مر العصور، فقد كان أبوه علي بن محمد من أئمة الفقه والحديث، ومن أعلام الزهد والتقوى والتصوف. وكان جده أحد قضاة الأندلس وعلمائها، فنشأ نشأة تقية ورعة نقية ومتحضرة، خالية من جميع الشوائب والمثالب ودرج في جو عامر بنور التقوى، والإنفتاح الفكري ، مفعم بالفضل والنورانية ، يرنو نحو الشرفات العليا للإيمان.
وكان والده قد انتقل إلى إشبيلية وحاكمها أن ذاك السلطان محمد بن سعد، وهي عاصمة من عواصم الحضارة والعلم في الأندلس، والعالم الإسلامي، وما كاد لسانه يبين حتى دفع به والده إلى أبي بكر بن خلف عميد الفقهاء، فقرأ عليه القرآن الكريم بقراءاته السبع من كتاب الكافي، فما أتم العاشرة من عمره حتى كان مبرزاً في القراءات ملهماً في المعاني والإشارات، ثم أسلمه والده إلى طائفة من رجال الحديث والفقه أثناء تنقلاته بين البلاد ، ليستقر أخيراً في دمشق طوال حياته ، حيث كان واحداً من أعلامها حتى وفاته عام 1240 م.
وذكر أنه مرض في شبابه مرضاً شديداً وفي أثناء شدة الحمي رأى في المنام أنه محوط بعدد ضخم من قوى الشر، مسلحين يريدون الفتك به، ثم ما لبث أن رأى في ذات الرؤيا شخصاً جميلاً قوياً مشرق الوجه، حمل على هذه الأرواح الشريرة ففرقها شذر مذر ولم يبق منها أي أثر فسأله محيي الدين عن إسمه، فقال له أنا سورة يس، وعلى أثر هذا استيقظ فرأى والده جالساً إلى وسادته يتلو عند رأسه سورة يس، ثم ما لبث أن شُفِي من مرضه، وألقي في روعه أنه معد للحياة الروحية وآمن بوجوب سيره فيها إلى نهايتها، فكان له ذلكــ .
وقد تزوج محي الدين بن عربي في مطلع شبابه بفتاة في ذروة الكمال الروحي والجمال الظاهري وحسن الخَلق والخــُلق، فساهمت معه في تصفية حياته الروحية وتهذيبها وإنضاج معالمها،و كانت أحد دوافعه إلى الإمعان في كينونته ووجوده. وفي هذه الأثناء كان يتردد على إحدى مدارس الأندلس التي تعلم فيها سراً مذهب الأمبيذوقلية المحدثة المفعمة بالرموز والتأويلات والموروثة عن فلسفة فيثاغورس وعن الاورفيوسية وعن الفطرية الهندية، وكان أشهر أساتذة تلك المدرسة في ذلك القرن القطب الصوفي ابن العريف المتوفى سنة536 هجرية الموافق لــ 1141ميلادية ، ودفين مدينة مراكش، حيث له مزار شهير بسوق الحدادين داخل أسوار المدينة العريقة .
ومما لاشك فيه فإن استعداد بن عربي الفطري ونشأته في هذه البيئة واختلافه إلى تلك المدرسة الرمزية كان له بالغ الأثر على مساره الفكري والروحي منذ سنه المبكرة فلم يكد يختم الحلقة الثانية من عمره حتى كان قد انغمس في أنوار الكشف والإلهام ولم يشارف العشرين سنة من عمره ، فكانت بداية طريقه الروحاني، وفاتحة إطلاعه على أسرار الحياة الصوفية. وملامسته للخفايا الكونية التي تكشفت أمامه لاحقا، في حياة أفعمها البحث المتواصل عما يحقق الكمال لتلك الاستعدادات الفطرية. ولم يزل محي الدين بن عربي عاكفاً على ذلكــ حتى ظفر بأكبر قدر ممكن من الأسرار. وأكثر من ذلك أنه حين كان لا يزال في قرطبة قد تكشف له من أقطاب العصور البائدة من حكماء فارس والإغريق كفيثاغورس وأمبيذوقليس وأفلاطون وهذا هو سبب شغفه بالاطلاع على جميع الدرجات النُسكية في كل الأديان والمذاهب عن طريق أرواح رجالها الحقيقين بهئية مباشرة.
كما في هذه المرحلة من حياته رأى في حالة اليقظة أنه أمام العرش الالهي المحمول على أعمدة من لهب متفجر ورأى طائرا بديع الصنع يحلق حول العرش ويصدر إليه الأمر بأن يرتحل إلى الشرق وينبئه بأنه سيكون هو مرشده السماوي وبأن رفيقاً من البشر ينتظره في مدينة فاس 594هـ.
وقد تتلمذ محي الدين بن عربي في السنة 595هـجرية في غرناطة على يد شيخه أبي محمد عبد الله الشكاز، وفيما بين سنتي 597هـ، 620هـ الموافق سنة 1200، 1223 بدأ رحلاته الطويلة المتعددة الي بلاد الشرق فيتجه إلى الشرق ويستقر خلال رحلته في دمشق.
وفي سنة 1201 ميلادية رحل بن عربي إلى مكة فإستقبله فيها شيخ فارسي وقور جليل عريق المحتد ممتاز في العقل والعلم والخلق والصلاح. وفى هذه الأسرة التقية يلتقي بفتاة تدعي نظاما وهي ابنة ذلك الشيخ وقد حباها الله بنصيب موفور من المحاسن الجسمية والميزات الروحية الفائقة، واتخذ منها محيي الدين بن عربي رمزا ظاهريا للحكمة الخالدة وأنشأ في تصوير هذا الرمز قصائد سجلها في ديوان ترجمان الأشواق ألفه في ذلك الحين.
وقد دون محي الدين بن عربي نفسه، في احدى تأملاته أنه رأى مرشده السماوي مرة أخرى يأمره بتأليف كتابه الجامع الخالد الفتوحات المكية الذي ضمنه أهم أرائه الصوفية والعقلية ومبادئه الروحية، ووفي سنة 599هـجرية زار الطائف وفي زيارته بيت عبد الله بن العباس ابن عم رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم استخار الله وكتب رسالة حلية الأبدال لصاحبيه أبي محمد عبد الله بن بدر بن عبد الله الحبشي وأبي عبد الله محمد بن خالد الصدفي التلمساني.
وفي سنة 601 هـجرية ، الموافق لسنة 1204ميلادية إرتحل بن عربي الي الموصل حيث إجتدبته تعاليم الصوفي الكبير علي بن عبد الله بن جامع الذي تلقي لبس الخرقة عن الخضر مباشرة، ثم ألبس محيي الدين اياها بدوره. وفي نفس السنة زار قبر رسول الإسلام وكما قال “وقد ظلمت نفسي وجئت إلى قبره صلى الله عليه وسلم فرأيت الأمر على ما ذكرته وقضى الله حاجتي وانصرفت ولم يكن قصدي في ذلك المجيء إلى الرسول إلا هذا الهجير”
وفي سنه 1206م في طريقه رحل بن عربي إلى القاهرة مع فريق من الصوفية وفي سنة 1207م عاد الي مكة الي اصدقائهم القدماء الأوفياء وقام في مكة ثلاثة أعوام تم عاد إلى دمشق وزار قونية بتركيا حيث يتلقاه أميرها السلجوقي باحتفال بهيج. وتزوج هناك بوالدة صدر الدين القونوي. ثم لم يلبث أن يرتحل الي أرمينيا
وفي سنة 1211م رحل الي بغداد ولقي هناك شهاب الدين عمر السهروردي الصوفي المشهور.وفي سنة 1214م زار مكة ووجد عدد من فقهائها الدساسين قد جعلوا يشوهون سمعته لسبب القصائد التي نشرها في ديوانه الرمزي منذ ثلاثة عشر عاما ومر إلى دمشق عائدا، وبعد ذلك رحل الي حلب واقام فيها ردحا من الزمن معززا مكرما من أميرها.
وأخيرا أقام في دمشق الفترة 1223م ـ 1240م حيث كان أميرها أحد تلاميذه ومن المؤمنين بعلمه ونقائه وعاش حياته في دمشق يؤلف ويعلم وكان واحدا من كبار العلماء بين اهل العلم والفقه في دمشق، وألتقى به عدد كبير من العلماء والطلاب من جميع أنحاء المعمورة ومن أبرزهم الشيخ جلال الدين الرومي صاحب المثنوي، وفي دمشق دون وكتب مراجعات لكتاباته ومؤلفاته وكان له مجلس العلم والتصوف في رحاب مجالس دمشق وبين علماء الفقه والعلم بدمشق ومدارسها.
ويعتبر كتاب الفتوحات المكية، المكوُن من 37 سفر و560 باب، من أشهر مؤلفاته فقد وُصف بأنه من النصوص الصوفية الموغلة في التعمق و ان لغته رمزية وبها اشارات الهية ، وله كتاب فصوص الحكم، الذي أثار جدلاً كبيرا في وقته ولازال مصدراً للجدل، كما له ديوان “ترجمان الأشواق”، الذي خصصه لمدح نظام بنت الشيخ أبي شجاع بن رستم الأصفهاني التي عرفها في مكة سنة 598 عندما قدم إليها لأول مرة قادما من مراكش في المغرب، وكتاب “شجرة الكون”، يتحدث فيه عن الكون مشبها اياه بشجرة اصلها كلمة “كٌن”، ثم كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام، وكتاب اليقين، الذي تناول موضوع اليقين الذي حير عديد من فلاسفة ذلك العصر، وكتاب “مواقع النجوم ومطالع الأهلة الأسرار والعلوم”بالإضافة إلى رسائله ومخطوطات لا تزال لم تطبع .