ترجـــمــــة : محمــــد القـــنـــور : عن مجلة : Historia :
إنه جوزيف ستالين، الزعيم السوفياتي الشهير، والرجل الذي حول “روسيا” والجمهوريات الأربعة عشر المتوحدة معها ، فيما كان يسمى بالإتحاد السوفياتي ، من دولة إقطاعية ،إلى دولة تحتل المرتبة الثالثة في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي ، بعد الولايات المتحدة الإمريكية وألمانيا الهتليرية، يظل ينافس الزعيم النازي أدولف هتلر والقائد المغولي هولاكو، على لقب أخطر جزار في تاريخ البشرية، فهؤلاء بالنسبة له ليسوا سوى هواة مبتدئين، إذ تجمع معظم الكتابات التاريخية أن “جوزيف ستالين” تسبب في مقتل أكثر من 50 مليون إنسان، بين عامي 1927و 1953 سنة وفاته، وإستخلاف نيكيتا خروتشوف بعده، على عرش السوفيات .
فضحايا ستالين يزيدون بخمس عشرة مرة، على ضحايا هتلر في أوروبا وبأربع مرات على خسائر روسيا في الحرب العالمية الثانية، وأربعين مرة على خسائرها في الحرب العالمية الأولى!!
ولد جوزيف ستالين، في 21 ديسمبر1879، والقائد الثاني للإتحاد السوفييتي، بعد فلاديمير لينين ، ففي فترة توليه السلطة، قام بقمع وتصفية خصومه السياسيين، بل وشمل القمع والتصفية، كل من كانت تحوم حوله الشكوك. قام بنقل الاتحاد السوفييتي كما سبقت الإشارة ، من مجتمع فلاحي، إلى مجتمع صناعي، مما مكن الاتحاد السوفييتي من الانتصار على دول المحور، في الحرب العالمية الثانية.
طفـــولة قــاسـية
رأى النور ستالين في مدينة “جوري” في جمهورية جورجيا، لإسكافي يدعى “بيسو”، وأم فلاحة تدعى “إيكاترينا”. وكان “بيسو” يعاقر الخمر، ويضرب ستالين بقسوة في طفولته، ما ترك أثرا كبيرا على شخصية الطفل، وقد ترك “بيسو” عائلته ورحل، وأصبحت أم ستالين بلا معيل.. وعندما بلغ ستالين 11 عاماً، أرسلته أمّه إلى المدرسة الروسية للمسيحية الأرثودوكسية، ودرس فيها .
فبعد وفاة لينين في يناير 1924، تألّفت الحكومة من الثلاثي ستالين، و كامينيف، و زينوفيف. وفي فترة الحكومة الثلاثية، نبذ ستالين فكرة الثورة العالمية الشيوعية، لصالح الاشتراكية المحلية، مما ناقض بفعلته مباديء “تروتسكي”، المنادية بالشيوعية العالمية. تغلب ستالين على الثنائي كامينيف و زينوفيف، وأصبح القائد الأوحد بعدما كانت الحكومة ثلاثية الأقطاب، وتم ذلك في عام 1928. تزوج ستالين مرتين, الأولى ماتت بالسل عام 1907، أي قبل قيام الثورة بعشر سنوات، ويقال إنه لم يكن لديه المال الكافي لعلاجها، بعد أن أنفق كل ما لديه على الحزب، كان قد أنجب منها ياكوف الابن الأكبر الذي حاول الانتحار مرة ونجا، ثم التحق بالجيش، وتم أسره على يد القوات الألمانيه أثناء الحرب العالمية الثانيه، ورفض ستالين أن يميزه في تبادل الأسرى، وقتل أثناء محاولته للهرب. زوجته الثانية (ناديا)، تزوجها وهي ابنة السابعة عشر عام1917، هي شيوعية متحمسة، ابنة أحد أصدقائه المقربين..
كانت “ناديا” تدرس الهندسة، أنجبت له طفلين، وكانت لقسوة ستالين وتسببه في المجاعات، التي ضربت روسيا ومعاناة الشعب، سببا في انتحارها بعد مشاجرة معه في إحدى الحفلات. كان ستالين معروفاً بنهمه وتعدد نزواته عدة مرات، ولعل أبرزها كانت ” روزا مويسيفينا”، التي عرفت بحبها للأدب والموسيقى.
استبدل ستالين الانتماء الديني للشعب الروسي بالانتماء الشيوعي،رغم كونه درس بمدرسة كاثوليكية،فقد أمر بحرق جميع الأيقونات المسيحية في البيوت،وهدم الكنائس ودور العبادة.
ومع وصول ستالين للسلطة المطلقة في 1930، عمل على إبادة أعضاء اللجنة المركزية البلشفية، وأعقبها بإبادة كل من يعتنق فكر مغاير لفكر ستالين، أو من يشك ستالين بمعارضته. تفاوتت الأحكام الصادرة لمعارضي فكر ستالين، فتارة ينفي معارضيه إلى معسكرات الأعمال الشاقة، وتارة يزجّ بهم في السجون السرية،والمعتقلات المنسية، وتارة يتم إعدامهم بعد تلفيق تهمة لهم، في محاكمات هزلية، بل كان ستالين يلجأ للاغتيالات السياسية، لمجرد الشك في معارضتهم له أو لمبادئه الأيديولوجية!
ولم يسلم حتى “تروتسكي”، رفيق درب ستالين، من سلسلة هذه الاغتيالات الستالينية، إذ طالته في منفاه بالمكسيك عام 1940، بعد أن عاش هناك منذ عام 1936، ولم يتبق من الحزب البلشفي غير ستالين ووزير خارجيته “مولوتوف”، بعد أن أباد ستالين جميع أعضاء اللجنة الأصلية.
معتقلات بطعم الحقارة
كانت رائحة الغرفة عطنة،تشمئز منها الأنوف، جدرانها مقشرة الصباغة، ومتقادمة وجنباتها قذرة، وخاوية على عروشها، تخلو من أي أثاث،وكان مصباح وحيد خافت بضوء شاحب تنساب أشعته مثل إنسياب لصوص آخر الليل، كان المصباح بغطاء مقعر متآكل يتدلى من السقف، فتنتشر أشعته فقط لتغطي نصف الحجرة بحيث تبقى الزوايا والأركان معتمة،ووقفت تحت المصباح مباشرة مجموعة من الرجال بمعاطف سميكة داكنة وقبعات من فرو الدببة السيبيرية،كانوا يشكلون بوقوفهم حلقة مغلقة، وفي وسط تلك الحلقة وقف رجل خمسيني يرتدي بزة عسكرية،كان رجلا ذو بنية قوية وملامح قاسية وشارب كث وغير مرتب ،لكنه بدا منهكا ومتهالكا،ومن حين لآخر كان يتطلع إلى الوجوه المحيطة به،وقد علت محياه نظرة يائسة مستعطفة ..
أجزم بأن من رأى ذلك الرجل في تلك الساعة لم يكن ليصدق بأنه أمام الرجل الذي تخشاه روسيا بأسرها،الرفيق جينريك ياغودا،رئيس شرطة ستالين السرية الذي كان يتلذذ بتعذيب واغتصاب وإعدام ضحاياه بنفسه في أقبية المؤسسة الرهيبة التي يديرها،والذي أرسل ملايين الناس إلى معتقلات الكولاكـ المخيفة ليعلموا هناك بلا هوادة في شق طرقات وحفر قنوات تسمى بــ “ستالين” أسم سيده .
جينريكــ ياغــــودا
بين ليلة وضحاها جردوا ياغودا من جميع مناصبه،لفقوا له تهمة الخيانة العظمى،وحكموا عليه بالموت،فوقف يستمع إلى تلاوة الحكم وهو غير مصدق،رفع رأسه نحو ستارة حمراء تغطي شرفة عالية داخل قاعة المحكمة، صرخ بيأس قائلا : “أناشدك أنت وحدك! .. أنت الذي من أجلك بنيت قناتين عظيمتين ” .. لكن زعيمه الجالس خلف الستارة يدخن الغليون بصمت لم يأبه لتوسلات كلبه المطيع .. لقد انتهى دوره .. بعد أن حصل على “نيكولاي يازوف” كلب جديد،أكثر إخلاصا وتفانيا . وها هو الآن يقف وسط تلك الحجرة القذرة المعتمة،منكس الرأس،متقطع الأنفاس،ينتظر المثول في منصة الإعدام التي كثيرا ما أرسل إليها ضحاياه .
إنبعث صوت أجش من ركن الحجرة المعتم، صوت رئيس جلادي الكثيبة : ”هيا، جردوه من كل ثيابه” … ،فأنقض الرجال كالذئاب الشرسة الجائعة على “ياغودا”، مزقوا ثيابه وتركوه عاريا على الأرض وهو يجهش بالبكاء .
- “أضربوه” .. أتى الصوت مجددا فانهال الرجال على “ياغودا” العاري بالضرب المبرح ولم يتركوه إلا وهو لحم مفرومة، وبدن مشوه من الضمور والجراحات ….. أخيرا ترك الرجل الواقف في العتمة مكانه وأقترب ببطء من وسط الحجرة فبانت ملامحه بالتدريج،إنه الرئيس الجديد للشرطة السرية , الرفيق نيكولاي يازوف .
كان “نيكولاي يازوف”قزما شرسا ونحيفا،لكن سحنته السيبيرية وملامحه الشيطانية،كانت كفيلة ببث كل أنواع الهلع وجميع تفاصيل الرعب في الأرواح وبأعماق القلوب،وقف لبرهة يتأمل الجسد الدامي ويتلذذ بسماع تأوهاته، ثم أومأ برأسه للجلاد الشهير فاسيلي بولخين, فأخرج الرجل مسدسه الصغير الذي تكاد تبتلعه يده، وأطلق رصاصة الإعدام على مؤخرة جمجمة ياغودا.
والجدير بالذكر، القارئات والقراء الأعزاء ،أن”نيكولاي يازوف”إلى جانب “ياغودا” سجل كأعظم جلاد في تاريخ البشرية،فقد قتل بيده عشرات الآلاف من البشر، ومن السوفيات أنفسهم، ومن أسرى الحرب العالمية الثانية خصوصا من الألمان،ثم أصيب بالجنون في أواخر حياته، وإنتحر في مصحة للأمراض العقلية،بأن غرس في كليته سكين مطبخ .
أحلام تفترس أبنائها
إعتبرت ثورة أكتوبر الروسية عام 1917 ، المعروفة بالثورة البولشوفية، من الأحداث الكبيرة في القرن العشرين،وهي الثورة التي تزعمها البلاشفة بقيادة فلاديمير أوليافيتش لينين ، كما أن النتائج التي ترتبت عنها لم تؤثر على روسيا فقط، بل امتد تأثيرها ليشمل العالم بأسره، ولينقسم إلى معسكرين ، شرقي شيوعي أو إشتراكي، وغربي رأسمالي ليبيرالي في سياق حرب باردة،مريرة وصراع مخابراتي كبير، وحروب صغرى ومتوسطة، وإنقلابات هنا وهناك، في بلدان كلا المعسكرين .
وعلى غرار أغلب الثورات، فإن الثورة البولشوفية،سرعان ما فقدت زخمها،ودبت الخلافات بين قادتها، كأي أمر تكرر عبر التاريخ في الكثير من الثورات .
وتعني كلمة بلشفية باللغة الروسية الأكثرية،وهي الجناح اليساري التابع لــ “فلاديمير لينين” داخل حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي الروسي الذي عرف لاحقا باسم الحزب الشيوعي الروسي، ونقيضه الأقلية،المينشفيك أو المناشفة بقيادة يوليوس مارتوف . الفرق بين الجناحين هو أن البلاشفة كانوا يسعون للتغير في روسيا القيصرية عن طريق العمل الثوري والكفاح المسلح فيما المناشفة كانوا يريدون إحداث التغيير بالطرق الديمقراطية السلمية.
وأية ذلكــ ، أن التنظير أمر سهل وممتع ورائع .. فما أحلى شعارات العدالة والمساواة الاجتماعية، تصدح في الساحات العمومية والشوارع، ولكنها كالأفيون، تجعل الإنسان يسافر بخياله بعيدا نحو عالم وردي لا وجود له،فيظن بأن تغيير السلطة الحاكمة سيعني تغيير كل شيء بين ليلة وضحاها .. ويعتقد أن الفساد والظلم سيختفيان .. وأن العدالة ستتحقق،و أن حقوق الإنسان ستحترم ، وأن الواسطة والمحسوبية والرشوة ستنقرض .. وأن الاقتصاد سيتحسن والرخاء سيعم .. وأن ثروات البلاد سيتم تقسيمها بين جميع السكان بالتساوي .. وأن جميع الإكراهات والمشاكل ستتلاشى .
لكن الزعماء الجدد المدججين بالشعارات الثورية والكلام النظري سرعان ما يكتشفون بأن عملية إدارة دولة ليست بالأمر السهل كما قد تبدو في أحلام اليقظة .. فالجميع يحلم أحيانا بأن يشارك في الحكم والتدبير،وقد يحدث نفسه بأنه سيفعل كذا وكذا وسيصلح ويعدل ويقر الديمقراطية والمساواة ويساوي بين الجنسين والفئات وما إلى ذالك من القيم المثالية الطوباوية .. لكنه سرعان ما يكتشف أن ذالكـــ ، كان مجرد شعارات وأوهام أو أضغاث أحلام .. مثلا، جرب أن تدير فصلا من ثلاثين تلميذا لساعة واحدة وسترى كم هو أمر صعب ومرهق أن تفرض رأيك واحترامك على مجموعة صغيرة فقط من الأطفال .. أو أن ترأس ودادية سكنية في حي من أحياء المدينة، أو تعاونية فلاحية بإحدى الجماعات القروية ، فما بالك بإدارة أمة من ملايين الناس، خصوصا في دول تفتقر إلى الثوابت التي تطبع مسار وحياة أفرادها، ويغيب عنها العمل المؤسساتي، والفصل بين السلط ، والبنى التحتية والكفاءات والأطر اللازمة للنهوض بها .
وعليه فإن معظم التجارب الثورية بما فيها مستجدات الربيع العربي الأخير، لم تأت بالثمار التي توقعها الناس منها،في مصر وتونس وفي ليبيا، في سوريا وبالعراق، فإعادة الأمن والنظام والخدمات وتدوير الاقتصاد من جديد ، مهمة في غاية الصعوبة .. غالبا ما يفشل فيها الثوار بامتياز لانعدام الخبرة،ولتبرير الفشل في تحسين حياة المواطن وتحقيق الوعود العسلية.
ثم، إن القادة الثوريين غالبا ما يعمدون إلى إلقاء اللوم على الخيانات والمؤامرات والأعداء الذين يضعون العصي في دولاب الثورة لإجهاضها،بل أحيانا يمضون أبعد من ذلك إلى درجة اختراع أعداء ومتآمرين . فتبدأ الاعتقالات والتصفيات والاغتيالات وتمتد بسرعة لتشمل الأبرياء،وهكذا فأن النظام الجديد سرعان ما يعود فيستنسخ نفس أساليب النظام القديم، ويعمل على إعادة ذات الأساليب التي ثار عليها بالمقام الأول ! .
نعم، لقد حدث مثل هذا في الثورة الفرنسية،فنابليون سيطر على الثورة بعد أن أرسل روبسبير وأغلب رجالاتها وقادتها إلى شفرة المقصلة في طوابير طويلة،والطريف أن الثورة الفرنسية التي قامت أساسا ضد الملكية عادت بعد سنوات قليلة لتتوج نابليون إمبراطورا ، وكذلك، فعلت ثورة الخميني وثورة القذافي وثورة عبد الكريم قاسم ومن بعده حزب البعث في العراق ! ..
والأمر ذاته، كان قد تكرر مع الثورة الروسية،صحيح أن النظام الجديد لم يعد إلى القيصرية، لكن بعد موت لينين عام 1924 سرعان ما بدأت الثورة تأكل أبنائها،وبنهاية عقد الثلاثينات فأن أغلب رفاق لينين في اللجنة المركزية للحزب،من الرجال الذين فجروا الثورة وقادوها معه،كانوا قد لقوا حتفهم إما اغتيالا أو إعداما بتهم شتى .. أولها الخيانة .. وهكذا عادت الدكتاتورية للبلاد بثوب جديد .. وأصبح ستالين القائد الأوحد، والإله الأوحد،والقيصر الروسي الأحمر والجديد الـغير المتوج، وكانت إذ لا حركة ولا سكون إلا بإذنه، ولاصوت يعلو فوق صوت الزعيم جوزيف ستالين .
شكوك و جنون عظمة
هذا، فحتى الرفاق القدامى و المنحدرين من ثورة أكتوبر 1917، جميعهم اعدموا او اغتيلوا .. بأستثناء لينين وستالين فستالين المتعطش للسلطة كان مصابا بجنون العظمة، وكان يرتاب ويشك في كل من حوله، في أبنائه،في زوجته في سائقه الشخصي ، حتى في حلاقه، فقد كان يضع فوهة مسدسه على بطن هذا الحلاق، أثناء حلاقته لذقنه، مخافة أن يدبحه بشفرة الحلاقة، وكان يشك ويرتاب في كاتبته الخاصة التي سيعدمها لاحقا بيده ،بعد أن لاحظ أنها أخلطت السكر بالملعقة في فنجان قهوته، على غير عادتها، فلم يرسل ما في فنجان القهوة إلى بطنه، وإنما أرسل الفنجان إلى المختبر، ليكتشف أن القهوة مخلوطة بسم الزرنيخ، قبل أن يستل مسدسه من قمطر مكتبه، ليقتلها على التو،برصاصة إخترقت جمجمتها.
هذا، وقد تعمق لدى ستالين الشعور بالريبة، خصوصا بعد أن منيت خططه في إدارة الدولة بالفشل في بداية عهده،وخصوصا مشروع المزارع التعاونية،ولهذا شرع بتصفية وإزاحة جميع خصومه في الحزب والجيش وكل من يشك في ولاءه إليه، وشمل ذلك معظم الرفاق القدامى من أعضاء اللجنة المركزية للحزب، مثل نيكولاي بوخارين،وليف كامنف،وأليكسي ريكوف،وميخائيل تومسكي،وجريجوري زينوفايف وغيرهم .. إذ تم تجريدهم من مناصبهم ثم طردوا من الحزب وأدينوا في محاكمات صورية بثتها الإذاعة السوفياتية على الهواء،وأعدموا جميعا رميا بالرصاص ،بل حتى عائلاتهم لم تسلم من التنكيل، فتم إعدام أبناءهم وأرسلت زوجاتهم إلى معتقلات الكولاكـ الرهيبة . وحتى ليون تروتسكي،أعظم منظري الحزب الشيوعي ومؤسس الجيش الأحمر والرجل الذي كان مرشحا لخلافة لينين،لم ينج من المجزرة، فقد لحقت به شرطة ستالين السرية إلى منفاه في المكسيك فاغتالوه هناك عام 1940 ،عندما أغروا فلاحا مكسيكيا فقيرا، فغرس فأسا في ظهره .
مارشال وراء قضبان الإهانة ..
ولم يقتصر الأمر في عهد ستالين، على السياسيين،فالكثير من الضباط الكبار لاقوا نفس المصير،المارشال “ميخائيل توخاجفسكي”،قائد الجيش الأحمر جرى اعتقاله بإشراف رئيس الشرطة السرية “نيكولاي يازوف”،وقاموا بتعذيبه بشدة لإجباره على توقيع اعترافات كاذبة،لدرجة، أن ورقة اعترافاته كانت ملطخة بالدماء،وحين وقف لاحقا أمام المحكمة العسكرية المكونة من ضباط تحت أمرته قال : ” اشعر كأني احلم” .. ولم يكتفوا بإعدامه،إذ أرسلوا شقيقاته وزوجته وابنته إلى معتقلات الكولاكـ ،وأعدموا أشقاءه.
والمفارقة أنه بعد مدة قصيرة على إعدام “توخاجفسكي” تم إعدام خمسة من الضباط الكبار الذين كانوا قضاة محاكمته ! ومهما يكن، فقد رأى بعض المؤرخين، أن تلك الإعدامات التي طالت آلاف الضباط أضعفت الجيش الأحمر وأوهنت عزيمته وكانت سببا في الهزائم المنكرة التي تلقاها من الرايخ الثالث في بداية الاجتياح الألماني بقيادة الفيلد مارشال “باولوس ” للاتحاد السوفياتي حتى عام 1941 .
الجولاڭــ : عبيد الخدمة المجانية ..
لقد كان التطهير الأعظم الذي ابتدعه ستالين للتخلص من خصومه، وإبتدأ بواسطة مفوضية الشعب للأمور الداخلية،وكانت مؤسسة أمنية تضم أجهزة الشرطة والدفاع المدني والإطفاء وشرطة المرور وأرشيف الشرطة،وكانت مسؤولة عن حفظ الأمن الداخلي ومطاردة من كانوا يوصفون بــ”أعداء” الثورة في الداخل . كما امتد هذا تالتطهير لاحقا ليشمل الملايين من المواطنين العاديين،في مدن وقرى كاملة أجبر سكانها على الرحيل إلى أماكن نائية وفقيرة وباردة وموحشة، حيث غطى هذا التهجير المرير والقسري ستة ملايين إنسان من قوميات وفئات متباينة، كان يُنظر إليها على أنها معادية للحكم السوفياتي، مثل ألمان الفولغا،والقوزاق ، والكولاكـ والتتار والابخاز والشيشانيين واليونانيين والكوريين وغيرهم من الأقليات،وقد مات نصفهم بعد سنوات قليلة جراء المرض والإهمال والتعذيب والجوع،أما أعظم المحن التي عرفتها الشعوب السوفياتية فقد تمثلت في الـ جولاك ”Gulag”،أي معسكرات العمل الإجباري، فحوالي 18 مليون إنسان دخلوا تلك المعسكرات الرهيبة بين عامي 1918 – 1960،والملايين منهم كذلك،لم يغادروها أبدا ، وإنما ظلت قبورهم الجماعية بها.
وكان نزلاء هذه المعتقلات ينحدرون من خلفيات ومشارب متنوعة، ضمنه لصوص وقتلة، ومنهم مختلسين ومقامرين، ومنهم أسرى حرب،ورهبان ورجال دين،ودجالين ومثليين جنسيين، بل منهم مزارعين وعمال ، وفنانين وكتاب وسياسيين .
وعلى كل حال، فإن فئة السياسيين، لم تكن تشمل بالضرورة أناس ذوي نشاط سياسي، أو إنتماء حزبي أو نقابي، ولكن مصطلح معتقل سياسي في عهد ستالين القيصر الأحمر، كان فضفاضا جدا ،وكان يشمل كل من له علاقة بحرية الرأي أو بتتبع النشاط السياسي من قريب أو بعيد .
فمثلا أي انتقاد للدولة،حتى لو كان مجرد مزحة بريئة،يمكن أن يؤدي للاعتقال،كما أن أقرباء السياسيين الذي جرى اعتقالهم أو إعدامهم، كانوا يعتبرون من أعداء للدولة، حتى لو لم يكن لهم أي علاقة بهؤلاء السياسيين،فقد أرسلت زوجة نيكولاي بوخارين القيادي في الحزب إلى معتقلات الكولاكـ بعد إعدامه .
أما القيادي ليف كامنف فقد أعدمت زوجته مع 160 شخص آخر رميا بالرصاص في غابة ميديفيدف، وجرى إعدام اثنان من أبناءه وأرسل الثالث إلى معتقلات الكولاكـ ، في حين، أُرْسِلت زوجة تروتسكي الأولى الكساندرا سوكولوفسكي هي الأخرى إلى معتقلات الكولاكـ ولم يرها أحد بعد ذلك،أما ابنه فقد اعدم،وتم إرسال زوجة الإبن وعائلتها إلى معتقلات الكولاكـ .
سجون نائية وأعمال قاسية ..
كان العمل في المعتقل قسريا،طوال أيام السنة،لأكثر من 12 ساعة يوميا،وفي أعمال شتى،كقطع الخشب والتعدين والحفر والبناء والنقل وغيره .
وكان على جميع المعتقلين أن يعملوا بغض النظر عن جنسهم وعمرهم،ولياقتهم البدنية والظروف الجوية القاسية المحيطة بهم، وعند حلول المساء كانوا يحشرون في أكواخ وثكنات قذرة، وينامون على رفوف خشبية، حيث يظل معظمهم جائعا يرتجف من شدة البرد السيبيري.
كما كان مدراء هذه المعتقلات يتنافسون في تقديم أفضل إنتاجية بأقل كلفة،إذ، يجري هذا طبعا على حساب المعتقلين،فكانت تقدم لهم الثياب الخفيفة التي لا تقي من البرد لكي يجبروا على تدفئة أنفسهم بالعمل، رغم، أن الطعام كان رديئا ضئيلا لا يغني عن جوع،إذ يقتصرُ غالبا على خبز الشعير الأسود مع القليل من الحساء، ولا تُقدم لهم سوى قطعة صغيرة من الصابون كل شهر ولا يُسمح لهم بالاغتسال إلا نادرا .
كما كانت الظروف الصحية فظيعة،لم يكن هناك صرف صحي،مما تسبب بالكثير من الأمراض، وكانت نسبة الجريمة مرتفعة وآفات الرذيلة عالية، فالكثير من المعتقلين السياسيين والناس الأبرياء كانوا يتعرضون للابتزاز،ومنهم من يتعرض أحيانا للاغتصاب والقتل،من قبل عتاة السفاحين من ذوي السوابق الإجرامية،وكم من معتقل سياسي تعرض للقتل لأنه لم يتنازل عن حصته من الطعام لأحد هؤلاء المجرمين. كما شكلت النساء قرابة 10 % من مجموع نزلاء معتقلات الكولاكـ ، إذ، كن يتعرضن لشتى صنوف الإذلال والمهانة،والإستغلال الجنسي أحيانا، وبمجرد ما تطأ أقدامهن ارض المعتقل،ويجبرن على التجرد من ملابسهن والاستحمام أمام الحرس .
وكانت هؤلاء النساء يرخين شعورهن على وجوههن من شدة الخجل،أمهات وربات منازل ومعلمات وطالبات جامعيات وراهبات وغيرهن،رغم، أن اغلبهن لم يقدمن على أي جرم،اعتقلن بسبب نشاط أزواجهن أو أقاربهن السياسي .
وكان يجري اغتصاب هؤلاء النساء بشكل دوري،وأحيانا بشكل جماعي حتى الموت،والبعض منهن حملن وأنجبن داخل المعتقل،وكان اغلب الأطفال يموتون بسن مبكرة جراء ظروف المعتقل السيئة،أما أولئك الذين تكتب لهم النجاة،فكانوا يأخذون من أمهاتهم بعمر عامين وينقلون إلى ملاجئ خاصة،كانوا يحرصون على تغيير اسم الطفل بحيث لا تعثر عليه أمه أبدا حتى لو تم إطلاق سراحها من المعتقل، وتتم تهيئتهم من أجل العمل في فرق الإغتيال .
شهادات من قلب الجحيم
قد تكون شهادات الناس الذين مروا وعاشوا في معتقلات الكولاكـ هي الوسيلة الأفضل لفهم طبيعة ما جرى هناك من فظائع إنسانية …
فقد كان “ليف رازغون” متزوجا من ابنة ضابط في الشرطة السرية،كانت حياته رغيدة، ومطمئنة،لكن فجأة تبدل كل شيء بعد إعدام والد زوجته أثناء التطهير الأعظم لسنة 1937، حيث تم اعتقال ليف وزوجته،ومن حسن الحظ ماتت الزوجة قبل أن يتم إرسالها إلى المعتقل،أما ليف فقد امضي 18 عاما من عمره هناك، إذ يصف “ليف”جانبا من تجربته قائلا : ”كنا 517 معتقلا ضمن وجبة موسكو عندما وصلنا إلى المعتقل في غشت 1938،بحلول الربيع السيبيري، ولم يكن قد تبقى منا سوى 27، أما الآخرون جميعهم ماتوا، وفي نونبر عام 1938 تم جلب 270 بدوي صيني،كانوا قد ضلوا طريقهم فعبروا الحدود الروسية من دون قصد،وقد جعلهم مدير المعتقل يعملون في نقل جذوع الأخشاب بأيديهم العارية فقط،وهو عمل لم نكن نحن لنستطيع الصمود فيه لأكثر من أسبوع،لكن الصينيين عملوا بثبات وبهدوء،وبعد كل يوم عمل كانوا يعودون إلى ثكناتهم التي حافظوا على نظافتها وكانوا يقضون المساء في ترقيع ملابسهم،وبحلول فبراير، من سنة 1939 أي بعد ثلاثة أشهر فقط من وصولهم،لم يكن قد بقي حيا منهم سوى رجل واحد، تم تحويله للعمل في المطبخ ” .
أما أيلينا جلينكا،البالغة من العمر 29 عاما، فقد كانت تدرس الهندسة في الجامعة عندما لفقت لها تهمة الخيانة العظمى، والقي القبض عليها، حيث أمضت ستة أعوام في معتقل رهيب يقع في قرية صيادين نائية في شبه جزيرة كوليما إلى أقصى الشرق الروسي، بمنطقة تصل درجة الحرارة أحيانا فيها إلى 38 درجة تحت الصفر، وكانت شاهدة حية على عملية اغتصاب جماعي رهيبة،غير أنه من حسن حظها تم اختيارها لتكون من حصة مدير المعتقل لأنها كانت أكثر النساء شبابا،ولهذا نجت من تلك التجربة المميتة التي تصفها قائلة :
نساء في المعتقل .. !
كنا” نساء في المعتقل ! .. فقد انتشرت الأخبار كالنار في الهشيم حول تواجدنا، فتقاطر الرجال من كل صوب وحدب نحو بهو القرية الكبير، بعضهم أتوا سيرا على الأقدام،بعضهم بالدراجات النارية،كان فيهم صيادو سمك وجيولوجيين وتجار فراء وعمال مناجم وحتى مجرمون مدانون . تم رمي التبغ والخبز وسمك السلمون النيئ للنساء المنهكات جراء رحلة يومين في عرض البحر،فابتلعن الطعام حتى من دون مضغ من شدة جوعهن،ثم فتح الرجال زجاجات الفودكا،وبتنسيق دقيق،كأنما ينفذون خطة،تراجعوا جميعهم وراحوا يقدمون كؤوس الفودكا للحراس،أخذوا يغنون ويعربدون وتبادلوا الأنخاب،أستمر ذلك حتى سقط الحراس واحدا بعد الآخر من شدة السكر . وما إن سقط الحراس حتى أخذ الرجال يهتفون ويهلهلون كالمجانين ،دخلوا على النساء،قيدوا أيديهن ثم سحلوهن فوق العشب إلى داخل المبنى،وانهالوا بالضرب المبرح على أي واحدة منهن تبدي مقاومة،كانوا يعرفون جيدا ماذا يفعلون , الكراسي نحيت جانبا،النوافذ أغلقت بالمسامير،تم إدخال براميل من المياه،وعندما انتهوا من التحضيرات فرشوا الأرض بجميع ما تحت أيديهم من خرق وبطانيات وسترات،ثم ألقوا النساء فوقها،وفي الحال تشكل صف من 12 رجل أمام كل امرأة وبدأ الاغتصاب الجماعي ..
كانوا يسمون هذه العملية في الإغتصاب”ترام كوليما”،أخيرا عندما وصل الصف إلى نهايته جرى سحب النساء الميتات من أقدامهن وألقين في الخارج، مثل القمامات،أما من بقين على قيد الحياة فجرى إنعاشهن مجددا برمي الماء عليهن من البراميل،وما أن استعدن وعيهن حتى تشكل صف الرجال أمامهن من جديد ” . لم تكن النساء وحدهن هن من يتعرض للاغتصاب داخل المعتقل،فالمثلية الجنسية كانت متفشية بين الرجال،حتى أولئك الرجال ذوي الميول الجنسية الطبيعية كانوا يتحولون إلى مثليين أحيانا في هذه البيئة القاسية التي يتحول فيها الناس تدرجيا من بشر إلى حيوانات مفترسة، كان الاغتصاب أمرا عاديا،يمكن أن يتعرض له رجل بمجرد خسارته لعبة ورق،أو إذا سرق قطعة خبز، أو إذا لم يتنازل عن حصته من الطعام لعصابات المعتقل الإجرامية .
كما يروي المعتقل فاليري كليموف جانبا من تلك الفظائع قائلا :
” كنت قادرا على حماية نفسي،لكني شاهدت بأم عيني عشرة حوادث قتل لرجال مثليين،كان هناك 100 معتقل في “ثكنتنا”،وكان هناك رجل يتعرض للاغتصاب ثلاثة إلى أربعة مرات يوميا،وبعد أن ينتهون منه كانوا يركلونه ويجبروه على النوم تحت الأسرة،كان أمرا فظيعا،كابوسا مهولا .
وفي إحدى الليالي تناوب على اغتصابه عشرة رجال ثم اخذوا يركلونَهُ على رأسه،لقد كدت أن أجن هناك،امتلأ رأسي بالشيب،كان الناس يفقدون سلامتهم العقلية،وبعضهم لا يستعيدونها أبدا حتى بعد مغادرتهم للمعتقل .
هذا، فقد كانت المثلية الجنسية متفشية على جميع المستويات في معتقلات أب الشعب،الزعيم جوزيف ستالين، ليس لأن المعتقلين هم الذين يمارسونها فقط، بل حتى الحراس وموظفي السجن يميلون لممارستها.
وأحيانا تكون نتائج الاغتصاب،بالنسبة للنساء , أكثر ألما من الاغتصاب نفسه، فـــ “هافا فولوفيتش”،كانت محررة صحيفة،اعتقلت عام 1937 وأرسلت إلى معتقلات الكولاكـ بسبب انتقادها لمشروع المزارع التعاونية في أوكرانيا، وهناكــ ، عاشت في المعتقل لمدة 16 عاما وأصبحت واحدة من آلاف النساء اللواتي حملن سفاحا داخل المعتقل،أنجبت طفلة جميلة أسمتها إلينور، تقول عن تجربتها زميلتها الصحفية هافا فولوفيتش :
لقد فقدت “هافا” ابنتها في المعتقل،وألفت عدة كتب عن تجربتها في معتقلات الكولاكـ لاحقا في الستينات ..
وتضيف “هافا”: كان هناك ثلاث أمهات في ثكنتنا،وتم إعطائنا غرفة صغيرة خاصة بنا، وكنا نسهر الليل نبعد البق المتساقط من السقف كالرمل عن أطفالنا،وفي النهار كنا نذهب للعمل فنتركهم مع امرأة عجوز مُقعدة . في كل ليلة لمدة عام كنت أقف فوق مهد طفلتي ابعد البق عنها واصلي،أتوسل إلى الله أن يطيل عذابي هذا لألف عام إذا كان معناه أن لا افترق عن طفلتي . لكن الله لم يستجب لصلواتي،فما كادت “الينور” تمشي أول خطواتها وتنطق أول كلمتها .. ماما .. حتى ألبسونا خرقا من الثياب رغم برودة الجو ثم وضعونا في سيارة شحن ونقلنا إلى المعتقل الرئيسي . هناك كان متوقعا أن اعمل في قطع الأشجار في الغابة بينما كنت أترك ملاكي الصغير ذات الخُصلات الذهبية في ملجأ أطفال المعتقل،وسرعان ما تحولت طفلتي إلى شبح شاحب مع خيال ازرق يظلل عينيها وبثور مؤلمة تغطي شفتيها . لم أفهم سبب شحوب وذبول أبنتي حتى أصبت ذات يوم بالتهاب في المثانة، وألم رهيب في الظهر، فأعفوني من العمل ذلك اليوم،ومقابل حزمة من الحطب قدمتها للحراس كرشوة، ثم سمحوا لي أن أختلس النظر إلى طفلتي من نافذة الملجأ .. وليتني لم أفعل ! . وتضيف كاتبة في مذكراتها : “لقد رأيت الممرضات يدفعن ويركلن الأطفال من أسرتهم ثم يقمن بغسلهم بالماء المثلج،ورأيت ممرضة تمسك بأٌقرب طفل أليها،تلوي ذراعه،ثم تدفع ملعقة بعد أخرى من العصيدة الملتهبة إلى داخل في فمه، ففهمت أنهن كانوا يقتلنهم بالتدريج ..” ”صغيرتي “الينور” بدأت تذبل بسرعة .. “ماما , أريد العودة للمنزل” .. قالت وهي تبكي في إحدى الليالي،جسدها الصغير كان مغطى بكدمات غامضة،وفي اليوم الأخير من حياتها،عندما وضعتها على صدري لإرضاعها،نظرت بعينيها الواسعتين بعيدا،أشاحت بفمها عن صدري،وتوسلت أن أضعها أرضا .” ”في المساء التالي , عندما عدت من عملي مع حزمة صغيرة من الحطب،كان سريرها فارغا، عثرت على جثتها العارية في المشرحة مع جثث السجناء البالغين . لقد أمضت سنة وأربعة أشهر في هذا العالم البئيس ،والمشتعل بالحروب ورحلت في 3 مارس 1944 ” .
من الحضيض إلى القمة
كانت لدى ستالين أدواته الخاصة التي أستعملها في أنشاء إمبراطورية الرعب التي تربع على عرشها،والتي كانت تبلغ مساحتها 22 مليون كيلومتر مربع،رجال لا يحكمهم أي ضمير أو وازع ديني أو أخلاقي،كانوا هم المسئولين عن التعذيب والإعدامات والاغتيالات وإدارة المعتقلات، وكانوا يتنافسون فيما بينهم في القسوة والنذالة .
أحدهم “نيكولاي يازوف”رئيس شرطة ستالين السرية،السابق الذكر،والذي كان يعرف بأسم “القزم الدموي” لكونه الأفظع والأقسى والأكثر تفانيا في تحقيق أغراض سيده الحديدي ..
فمن يكون يا ترى ؟ .. وكيف وصل رجل بضآلته إلى هذا المنصب الخطير ؟ .
كان”نيكولاي يازوف” مساعد خياط ، وفي غمضة عين في ظل المزاجية الستالينية،اصبح رئيس الشرطة السرية، وبحسب الوثائق الرسمية السوفياتية فأن نيكولاي ايفانوفيتش يازوف ولد عام 1895 في سانت بطرسبرغ، العاصمة الباذخة للقياصرة من آل رومانوف، لكن هناك مصادر تاريخية أخرى تشير إلى أنه ولد في بلدة صغيرة في ليتوانيا التي يعتنق أغلب ساكناتها الديانة اليهودية، وكان ينحدر من عائلة فقيرة،لدرجة أنه لم يكمل سوى تعليمه الابتدائي،عمل مساعد خياط ،ثم عاملا في مصنع،ثم تطوع في الجيش القيصري الروسي عام 1915 ، قبل أن ينضم للبلاشفة عام 1917 قبل نشوب ثورة أكتوبر بستة أشهر .
وكان نيكولاي يازوف ,أنسانا وصوليا،داهية وماكرا، فقد وصفه عضو سابق في الحزب قائلا : “في كل حياتي الطويلة،لم يسبق أن التقيت بشخصية أكثر بغضا من يازوف،كان يذكرني بشكل لا يقاوم بالأولاد الأشرار الذين يلعبون على ناصية الشوارع،والذين كانت هوايتهم المفضلة هي ربط قطعة من الورق المنقوع بالكيروسين إلى ذيل قطة وإشعال النار فيه،ثم كانوا يقفون يراقبون بفرح كيف يتخبط الحيوان المسكين محاولا بيأس ومن دون جدوى أن يهرب من النار المقتربة من جسده.
ويضيف نفس العضو أنا لا أشك في يازوف كان في طفولته يسلي نفسه على نفس تلك الشاكلة، وهو مستمر في فعل ذلك الآن بطرق مختلفة ” . وفي الحقيقة فقد كان يازوف مجرما بامتياز،وكان ستالين بحاجة إلى رجل مثله في تلك الحقبة، فرئيس الشرطة السرية آنذاك،”جينريك ياغودا”كان بطيئا في تنفيذ أوامر ستالين الدموية .. قال نيكولاي يازوف , لبعض أصحابه المقربين إن “ياغودا” قتل ربع مليون إنسان .. ياله من رقم تافه ! .. أنا سأحصد الملايين ....
رجل ستالين المفضل ..
وفي طليعة هؤلاء الملايين كان “ياغودا” نفسه،إذ قام يازوف بمساعدة بعض عملاءه في الشرطة السرية بدس كمية من الزئبق في مكتب “ياغودا” , ثم زعم بأن هذا الزئبق كان سيستعمل في مؤامرة من اجل تسميم الزعيم جوزيف ستالين،وتحت التعذيب جرى إجبار “ياغودا” على الاعتراف بأنه يعمل لصالح الألمان،فحوكم واعدم بسرعة بأشراف من يازوف نفسه .
والواقع، أن “ياغودا” لم يكن أنسانا شريفا،بل كان نذلا،وكان يستمتع باغتصاب النساء والفتيات الصغيرات، وقد عثروا في بيته على 14 فيلم يصور اغتصابه لضحاياه،إضافة لآلاف الصور الإباحية التي التقطها بنفسه،لكنه مع كل هذا، لم يكن يوازي “يازوف” في القسوة والمكر .
كان يازوف فنانا في تعذيب الناس وفي قطف الرؤوس بالجملة،وبلغ أعداد المعدومين والمعتقلين في عهده رقما قياسيا لن يبزه فيه أي رئيس شرطة آخر في تاريخ العالم وتاريخ الإتحاد السوفياتي .
وفي عهده انتشرت وراجت الوشايات والتقارير الكيدية،وأصبح الناس يخافون التحدث في السياسبة حتى في منازلهم .. “فالحيطان لها أذان” .. وفي عهده جرى تنظيف الحزب والجيش من جميع من يشك في ولاءهم للزعيم ستالين،وبلغ عدد ضحاياه مليون وربع إنسان،نصفهم قضوا رميا بالرصاص، فيما النصف الآخر لقي حتفه في المعتقلات . لكن يازوف لم يكن سوى أداة،فالمجرم الحقيقي كان جوزيف ستالين نفسه، والذي يظن بأن يازوف وياغودا وغيرهم من زبانية ستالين كانوا يتصرفون من تلقاء أنفسهم هو مخطئ أو واهم.
فالحقيقة هي أن كل ما حدث كان بعلم ستالين،فمثلا بين عامي 1937 – 1938 وقع ستالين 357 مرسوما بإعدام قرابة 40 ألف إنسان،وفي إحدى المرات نظر إلى قائمة طويلة بأسماء المحكومين وقال : ”من سيذكر جميع هؤلاء الحثالات بعد عشرة أو عشرين عاما .. لا أحد .. وأضاف ستالين قائلا: من يتذكر الآن،أسماء البويار الذين تخلص منهم ايفان الرهيب .. لا احد . وللأسف كان غالبية من اعدموا أو أرسلوا إلى المعتقلات أبرياء،يازوف نفسه اعترف بذلك في اجتماع للحزب فقال : ”من الأفضل أن يتعذب عشرة أبرياء،على أن يفلت جاسوس واحد،فعندما تقطع الخشب،ستتطاير بعض الرقائق حتما” . يا له من منطق ! .. ولكن ، ومن غريب المصادفات، فإن الوقت لم يطل حتى تطاير يازوف نفسه مع المتطايرين ..
السقوط إلى الهاوية
بعد أن انتهى ستالين من تطهيره الأعظم وتخلص من جميع أعداءه ومنافسيه في الحزب والجيش ونشر الرهبة والخوف في عموم الاتحاد السوفياتي،لم تعد هناك حاجة لقسوة يازوف المفرطة،فقرر التخلص منه،وبهذه الطريقة كان سيضرب عصفورين بحجر واحد،فمن جهة سيصبح بإمكانه أن يزعم بأن جميع الجرائم التي اقترفها يازوف كانت من دون علمه،وبأن “أب الشعب” ما كان ليفعل مثل هذه الأمور الفظيعة بأبنائه،ومن جهة أخرى كان سيتخلص من الرجل الذي أصبح يعرف أسرارا أكثر من اللازم ..
نعم، كان “يازوف” يعرف أسرار يجب كتمها إلى الأبد، وفوق كل هذا فإن ستالين،مثل جميع الطغاة،كان يكره أن يبرز شخص آخر غيره في البلاد،حتى ولو على مستوى القسوة والنذالة .
في أواخر عام 1938 شرع ستالين بتجريد يازوف من قوته،في البداية سلمه منصب جديد، وعينه، رئيسا لمفوضية الشعب للنقل المائي،وكان ستالين يهدف من ذلك إلى إشغال يازوف بأمور أخرى فترتخي قبضته الحديدية على الشرطة السرية، مما يسهل القضاء عليه،ولعب القدر دورا كبيرا في تسريع نهاية “يازوف” واختيار خليفته.
إذ كان يازوف قد أصدر أمرا باعتقال “لافرينتي بيريا” عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي عن جورجيا،لكن قبل إلقاء القبض عليه تلقى بيريا تحذيرا من رئيس فرع الشرطة السرية في جورجيا،فهرب إلى موسكو حيث قابل ستالين،وطلب حمايته مذكرا إياه بمساهمته في تصفية أعداء الحزب في جورجيا، ويبدو بأن الرجل قد نال إعجاب ستالين،وهكذا فإنه بدل أن يرسله ستالين إلى الموت عينه كنائب ليازوف،وشرع بيريا حال تعيينه بأبعاد وإقصاء جميع الموالين ليازوف داخل الشرطة السرية .
ولم يكن”يازوف” نفسه،الخبير بأساليب ستالين،غافلا عما يحاك له،وكان يعلم جيدا بأن نهايته قد دنت،فأهمل عمله وراح يقضي أغلب أوقاته بمعاقرة الخمر،الأمر الذي أعطى “بيريا”حجة إضافية لتدميره .
ومما زاد الطين بلة، هو انتحار “يوفيغينيا”زوجة “يازوف” في 19 نونبر1939 , ويقال بأنها قتلت على يد يازوف نفسه،بعد أن ضاق ذرعا بعشاقها الكثيرين ممن كانوا يترددون عليها،وبعد أسبوع على مقتلها طلب يازوف إعفاءه من رئاسة الشرطة السرية،وهو أجراء شكلي،فعمليا لم تكن له أي سلطة،وتم تعيين السفاح الأشهر “بيريا” مكانه على الفور .
وفي 13 مارس عام 1939 تم إعفاء”يازوف” من منصبه في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، ولاحقا من ذلك العام أصبح عاطلا عن العمل بعد إلغاء مفوضية الشعب للنقل المائي بأمر من ستالين . وفي 10 ابريل عام 1939 تم إلقاء القبض على يازوف أخيرا،واخفي خبر اعتقاله عن اغلب ضباط الشرطة السرية،فقد أراد ستالين أن تتم عملية التخلص منه بهدوء وسرية تامة .
بيريا الأب الروحي للكاجي بي ..
تحت التعذيب اعترف “يازوف” سريعا بكل ما أردوا منه أن يوقع عليه، فإعترف بالخيانةوبالاختلاس، وبالتآمر ضد ستالين،وحتى بمثليته الجنسية.
وبيني وبينكم فإن المثلية الجنسية كتهمة كانت حقيقية، حسب الوثائق التي إطلعت عليها “هاسبريس” ، المهم، باختصار فإن جميع ما يكفل إعلانه “عدوا للشعب ” كان متوفرا.
ومثل سلفه “ياغودا”وقف “يازوف” أمام محكمة الشعب مترنما ومعلن ومادحا ومتبجحا بمحبة الزعيم ستالين، ثم صرخ في قاعة المحكمة بأعلى صوته، بأن إسم ستالين ” سيبقى على شفتي حتى أخر لحظة من حياتي ” … لكن هذا التملق كان قد أصبح من دون جدوى .. فالحكم عليه كان قد صدر حتى قبل أن ينطق به قضاة المحكمة، من طرف ستالين نفسه ..
وهكذا حكموا على “يازوف” بالإعدام،وما أن سمع الحكم حتى خارت قواه وكاد يسقط أرضا لولا أن تلقفه الحراس وحملوه إلى زنزانته .
وفي يوم تنفيذ الحكم كان يازوف مرعوبا وخائر القوى، متبولا ومتغوطا في سرواله،ولربما تذكر كل أولئك الذين أرسلهم إلى ذات المصير ؟ ..
أخذه ضباط الشرطة السرية، الشداد الغلاظ إلى نفس تلك الحجرة الكريهة، التي تكلمت عنها، والتي طالما أشرف هو فيها على إعدام “ياغودا” وآخرون يعدون بالمئات قبل عامين،لكنه كان أقل شكيمة وصمودا من ياغودا،راح يصرخ ويتوسل،وطفق يذكر الرجال المحيطين به وبجميله بأياديه البيضاء عليهم حين كان رئيسهم .. لكن كل ذلك كان بلا فائدة .. وجاء صوت من أقصى الحجرة .. ” انزعوا عنه ثيابه ” .. فجردوه من ثيابه .. ثم جاء الصوت ثانية .. ” اضربوه ” .. فانهالوا عليه بالضرب المبرح حتى تركوه بين الحياة والموت ممددا على الأرض يبصق الدم من فمه ويبكي كالنساء .. ثم اقترب الرجل الواقف في ركن الحجرة المعتم وبانت ملامحه .. انه بيريا .. الرئيس الجديد للشرطة السرية،الذي كان يضمر ليازوف كرها شديدا،أومأ إلى الجلاد المخضرم ،”فاسيلي بولخين” فاخرج هذا الأخير مسدسه وأجهز على القزم الدموي برصاصة في رأسه .
لعنة التاريخ وتعديل الصور ..
انتهى عصر “يازوف” .. مسحوا إسمه ومحو ذكره من جميع السجلات،رفعوا صورته من معظم الصور الفوتوغرافية التي تجمعه بكالينين و ستالين،كأنه لم يكن يوما ذلك الرجل الذي فضله القائد على جميع الرجال ..
فسطع فجر بيريا الدموي، أفل عصر “يازوف” ، وقام “بيريا”في بداية عهده،بأمر من ستالين، بإطلاق سراح عشرة آلاف معتقل،كأنه يريد أن يقول بأن ما حدث في زمان “يازوف” لم يكن بعلم وقبول القيادة السوفياتية . لكن رقة “بيريا” لم تدوم طويلا،فالحرب على الأبواب،وهتلر الفوهررالنازي يستعد لاجتياح روسيا،وقريبا سيرسل بيريا الملايين إلى المعتقلات من جديد بتهمة الخيانة،وستهجر شعوب كاملة من موطنها بتهمة تعاطفها مع الألمان،وسيعدم عشرات الآلاف ويدفنون في مقابر جماعية في الغابات والأماكن النائية في سيبيريا. كما أن “بيريا” سيصبح نسخة جديدة أكثر فظاعة، من “ياغودا” و”يازوف”وسيدور مع زبانيته في شوارع موسكو،سيشير بيده إلى أي فتاة أو امرأة تعجبه،سيأخذها بالقوة إلى قصره فيغتصبها، وستحصل كل امرأة مغتصبة على وردة بيضاء يقدمها لها حرس بيريا عند مغادرتها لمنزله،أما من تقاوم فسينتهي بها المطاف إلى معتقلات الكولاكـ ولن يسمع عنها أحد مجددا .
وأخيرا .. مات ستالين ..
في 1 مارس 1953 عثر الحراس على ستالين في غرفته ممددا على الأرض فاقدا وعيه وغارقا في جمود مهيب،مثل غول أسطوري، فقد أصيب بسكتة دماغية،وفارق الحياة بعدها بأربعة أيام، ولن يطول الأمر حتى تبرأت اللجنة المركزية للحزب والسوفيات من دكتاتورية وأساليب ستالين، حيث أن الحاكم الجديد للاتحاد السوفياتي، الذي ليس سوى رجل كان يرعى حيوانات الرنة في سهوب أوكرانيا ، إسمه “نيكيتا خروتشوف”، سيشن هجوما لاذعا على سياسات ستالين ودكتاتوريته،وسيعاد الاعتبار لمعظم الضحايا الذين لاقوا حتفهم على يده،وبنهاية عقد الخمسينات سيتم إغلاق معظم معتقلات الكولاكـ .
ثم سرعان ما سيلاقي”لافرينتي بيريا”رئيس شرطة ستالين السرية، نفس مصير سلفيه “ياغودا” و”يازوف”وسيحاكمونه بتهمة الخيانة، وسيقف في قاعة المحكمة متوسلا الرحمة بلا جدوى،ثم سيعدم بنفس طريقة سلفيه،لكنه سيكون أقل شكيمة وشجاعة في مواجهة الموت،سيصرخ وينوح حتى يضطر جلاديه إلى وضع خرقة من قماش في فمه لإسكاته،ثم سيسكتونه للأبد برصاصة في رأسه . هكذا هي الدنيا .. كما تدين تدان ..
لكن برغم كل تلك الجرائم هناك من يشيد بستالين،لا بل أن شعبيته مرتفعة في روسيا اليوم،فهو بنظر البعض الرجل الذي حمل روسيا من دولة فيودالية إقطاعية غارقة في الجهل والفقر والتخلف إلى مصاف الدول العظمى،رجل طور الزراعة والصناعة والتعليم ، ورجل دحر الألمان،وقضى على هتلر،ورجل صنع القنبلة النووية السوفياتية،ووقف بوجه أمريكا والغرب وأحكم قبضته على شرق أوربا كلها. في حين يؤكد البعض الآخر أن ستالين كان أعظم حكام الاتحاد السوفياتي السابق،أما خروتشوف وبريجنيف وتشيرنينكو وأندروبوف وصولا إلى ميخائيل كورباتشيف فقد كانوا في نظرهم صنيعة الغرب، وهم في رأيهم من مهدوا لسقوط الشيوعية .