لا تزال الأزمة بين روسيا والولايات المتحدة حول أوكرانيا تتصدر أبرز عناوين الأخبار في شتى أرجاء العالم، بسبب المخاوف من تطور النزاع إلى صدام عسكري مباشر، بعد أن وصلت علاقات البلدين إلى أسوأ مراحلها، وتجاوزت إلى حد كبير خطورة أزمة الكاريبي، ذروة أزمات البلدين خلال لحرب الباردة.
وفي الوقت الذي لم تنجح خلاله تحركات ولقاءات المسؤولين الروس مع نظرائهم الغربيين في لتقليص هامش التناقضات القائمة إلى الآن، فإن حتى لقاء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، مع نظيرته البريطانية في موسكو، انتهى إلى ما وصفه الوزير الروسي بأنه “حوار الطرشان”.
ويؤكد مراقبون روس أن احتمال استدراج أوكرانيا لحلف الناتو، أو بمعنى آخر، نشر البنية التحتية العسكرية والأسلحة على أراضيها، قد يدفع أوروبا إلى شفا الحرب، إذ إن لدى كييف مشاكل حدودية وإقليمية مع روسيا، ويمكن أن تتسبب في وضع قد يعود فيه خيار القتال أو عدمه إلى موسكو.
ووفق ذات المراقبين، فإن مهمة السياسة الروسية ستكون في لجم التهديدات ذات الطبيعة التكتيكية والاستراتيجية، مشيرين إلى أن البعد الاستراتيجي يبقى أكثر حساسية وخطورة، باعتبار أنه وحال تمكنت الولايات المتحدة وبريطانيا من الحصول على موطئ قدم في أوكرانيا، فلن يتم خروجهما خلال 10 – 15 عاماً دون حرب كبيرة، وأوضح المراقبون أن استدراج روسيا لصراع من أجل الوجود سيكون له كلفة كبيرة، لأنه قد يدفعها للتخلي عن القيام بخطط تنموية ضخمة على غرار تنفيذ المشاريع الاستراتيجية في سيبيريا، وتطوير القطب الشمالي، وإنشاء بنية تحتية جديدة، وأن كل شيء سيذهب إلى حفرة حرب باردة متجددة مع الغرب.
وتشير تصريحات المسؤولين الروس إلى أن موسكو لا تعير أهمية كبيرة للعواقب التكتيكية، التي تلوح بها الولايات المتحدة، باعتبارها لا تشكل تهديداً استراتيجياً، فلا فصل البلاد عن المؤسسات المالية التي تسيطر عليها واشنطن، أو عن جزء من التجارة الدولية يشكل تهديداً كبيراً، فضلاً عن أن إغلاق الحدود مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ليست مشكلة للغالبية العظمى من المواطنين الروس.
ويوضح خبراء روس أن النظام المالي العالمي يعيش سنواته الأخيرة، فيما تملك روسيا خيار بيع النفط والغاز في الأسواق الآسيوية، إلى جانب أن السلع الرئيسية، التي تنتجها روسيا ستكون في كل الأحوال مطلوبة من قبل اقتصادات مختلف البلدان.
ويرى الخبير في العلاقات الدولية، إيفان تيموفييف، أن الحرب ستكون أحد سيناريوهات تطور الأزمة، نظراً لرفض السلطات في كييف مبداً التسويات مع موسكو، فضلاً عن كونها لا ترى بديلاً عن ضمان أمن البلاد، سوى من خلال عضوية الناتو، فضلاً عن أن الغرب سيعمل على دمج أوكرانيا في هياكله الأمنية، ما يجعل من شبه المستحيل تغيير هذا المسار بدون حرب.
وأضاف: «حتى لو لم تنضم أوكرانيا للناتو لأسباب ما في السنوات أو العقود المقبلة، فلا شيء يمنع نشر أنظمة هجومية أو غيرها من الأنظمة على أراضي البلاد، وفي هذه الحالة، ستتحول أوكرانيا عاجلاً أم آجلاً إلى نقطة انطلاق لعمليات عسكرية محتملة ضد روسيا».
وأوضح أنه ونظراً إلى طول الحدود، فإن هذا الوضع يضع روسيا في وضع يضاهي في خطورته عضوية دول البلطيق في حلف الناتو، وبالتالي فإن التطور العسكري لأوكرانيا بمساعدة الولايات المتحدة والغرب يشكل تهديداً للأمن القومي الروسي، وأبان أن هزيمة الجيش الأوكراني في حرب محتملة ستكون سريعة نسبياً، ودون الدخول حرب طويلة الأمد، عبر عمليات تنفذ بسرعة البرق.
ولفت تيموفييف إلى أن استمرار التوتر يعتبر أحد السيناريوهات المطروحة لتطور الأزمة، نظراً لتكلفة الباهظة للحل العسكري للقضية الأوكرانية، وأضاف: «حتى في حالة السيطرة عليها فإن ذلك لن يمنع الغرب من تشكيل وتسليح التشكيلات الأوكرانية في المناطق المجاورة، وتمويل ودعم المجموعات المسلحة، التي ستعمل تحت الأرض على نطاق واسع في أوكرانيا، كما أن الحرب ستؤدي إلى تدهور اقتصادي في تلك المناطق، ما سيجعل سكانها أكثر عرضة للدعاية الغربية، وإذا احتفظت الحكومة الأوكرانية الموالية للغرب بجزء من الأراضي، سيصبح الصراع دائماً وطويل الأمد، وفي الوقت نفسه، لن يتم حل أي من المشاكل الأمنية لروسيا، بل ستزداد بسبب عسكرة أوروبا الشرقية».
وأبان أن استمرار التوتر مع الغرب سيناريو محتمل، لأن استمراره مع الغرب يعطي نتائج، كونه أداة دبلوماسية فعالة، على الأقل في العواصم الغربية التي ستبدأ تدريجياً في تفهم المواقف الروسية.
وأضاف إيفان تيموفييف،: «ومن هنا فإن إبقاء القوات على الحدود مع أوكرانيا، وإضافتها أيضاً إلى مناطق أخرى في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ مع الصين وأفريقيا هو أفضل وسائل الضغط، التي تبعد خيار الحرب، وتعزز من فرص التسوية السياسية».
واعتبر تيموفييف،الخبير الروسي أن أوكرانيا من «الأصول السامة» للغرب، مشيراً إلى أن المساعدات الغربية سُرقت على نطاق واسع، ولا تزال المؤسسات فاسدة، وأوضح أن أوكرانيا ليس مورداً للأمن، بل مستهلكاً له، وأن عضويتها في الناتو تأتي بنتائج عكسية للحلف بسبب النزاعات التي لم يتم حلها، واحتمال تغير السلطة مستقبلاً فيها لصالح موسكو، ما يعزز كذلك من سيناريو التسوية، مشيرا إلى أنه «ليس لدى الغرب سبب لدعم أوكرانيا لفترة طويلة، ومن شأن المساعدات التي يقدمها الآن أن تتقلص، فمكانة أوكرانيا في نظام الأولويات الغربية من دون أي تدخل عسكري ستتدهور مع الوقت، وتحولها إلى دولة هامشية وأولوية من الدرجة الثالثة».
وأبان تيموفييف،أن حلف الناتو يدرك امتلاك روسيا قدرات عسكرية كبيرة لوقف أي تهديد صادر من أراضي أوكرانيا ودول الناتو، وأن روسيا بإمكانها إلحاق أضرار جسيمة بالخصوم في أوروبا حتى من دون استخدام الأسلحة النووية، وأوضح أن العلاقات بين روسيا والغرب لا تقتصر على أوكرانيا، إذ إن لروسيا أبعاد عديدة، يمكن من خلالها المساومة مع أعضاء الناتو، وبالتالي تهميش الموضوع الأوكراني، على حد قوله،مصرحا أنه : «عندما سيكون ثمن التصعيد الغربي ضد روسيا، تقارباً أكبر بين موسكو وبكين، فمن المرجح أن تلجأ حينها واشنطن، لتجنب المشاركة المباشرة في الاشتباك الروسي الأوكراني، والاحتفاظ بمساحة للمناورة».