رمسيس الثاني ليس هو فرعون النبي موسى

مـحـمــد الـقــنـــور :

 

أختلف علماء التاريخ والباحثون الأكاديميون المختصون في “علم المصريات القديمة ‏Egyptologie ‎‏ من خلفيات ثقافية وفكرية ومنهجية متباينة في تحديد اسم الفرعون الذي عاصر وحارب ‏نبي الله موسى وورد ذكره في كل من القرآن و التوراة ‏
وقد قرر الباحث الأمريكي بول ف بورك في كتابه ( ‏the world of Moses‏ ): أن الكتابات ‏المصرية القديمة ليس فيها أية إشارة للنبي موسى ، كما أن التوراة والقرآن لم يذكرا أسم ‏الفرعون المعاصر لموسى ولم يشيرا إلى التاريخ الزمني لهما ، وأكد “بروكـ” أنه ليس على ‏الباحث إلا أن يقارن بين الأحداث التاريخية التي ترجح على أن موسى قد ولد حوالي 1525 قبل ‏الميلاد ، أي قبل الخروج الإسرائيلي من مصر بثمانين عاما . ‏
وقارن العالم المختص في التاريخ “بوركـ” بين ما استقاه من التاريخ الزمني لعصر موسى وبين ‏التاريخ المصري القديم ، مرجحا أن تلك هي الفترة التي حكمت فيها الملكة”حِـتْشِبْسُوت” ، ويرى ‏أنها هي التي قالت عنها التوراة أنها بنت الفرعون التي ذهبت لتغتسل في النهر فعثرت على ‏تابوت موسى واتخذته ابنا لها .‏
وأكد الباحث “بوركــ” خلال هذه نظريته حول أحداث قصة موسى وقصة “حِـتْشِبْسُوت” وكيف ‏انتهت المرحلة الأولى بهرب موسى من مصر، مشيرا إلى أن “حِـتْشِبسُوت” كانت ابنة لــ ‏‏”تُحْتُمِّس” الأول حين عثرت على تابوت موسى وتبنته ، ثم تزوجت من أخيها غير الشقيق ‏‏”تُحْتُمِّس” الثاني الذي أصبح فرعونا وجلس على عرش مصر خمس سنوات فقط ، ومات دون ‏أن ينجب منها أي ولد ، وكان لتحتمس الثاني ابن من زوجة أخرى تولى الحكم اسميا مع ‏‏”حِـتْشِبْسُوت” بعد موت والده ، وهو تحتمس الثالث ، إلا أن”حِـتْشِبْسُوت” اغتصبت منه النفوذ ‏فظل في عهدها خامل الذكر ، وعملت على أن يتولى الحكم من بعدها موسى الذي تربى في ‏البلاط الفرعوني وأصبح قائدا مهابا ، ولكن واجهتها ثورة فلم يكن موسى مصريا ولم يهتم بتأدية ‏الشعائر المصرية ، ونجحت المؤامرة في قتل “حِـتْشِبْسُوت” وأنصارها ، فاضطر موسى للهرب ‏إلى مدين ، وقد اختفت “حِـتْشِبْسُوت” من التاريخ المصري سنة 1442 قبل الميلاد، وكان عمر ‏موسى وقتها أربعين عاما ، وتذكر التوراة أنه رفض أن يكون ابن الفرعون . ‏
وبعدها يضيف “بوركـ” أن تحتمس الثالث تولى كافة سلطاته، بعد مقتل “حِـتْشِبْسُوت” وحاول ‏طمس تاريخها واضطهد أنصارها وانتقم لنفسه منها .. ‏
ويخلص “بوركـ” إلى أن فرعون موسى أكثر من شخص ، “تُحْتُمِّس” الأول الذي اضطهد بني ‏إسرائيل ، و”تُحْتُمِّس” الثاني الذي قام بتربية موسى ، ثم”تُحْتُمِّس” الثالث الذي جاء له موسى ‏فيما بعد نبيا مرسلا .. ‏
ورغم أن العالم الأمريكي “بوركـ” لم يأت بأدلة على ما قالته التوراة عن اضطهاد فرعون لبني ‏إسرائيل وتسخيره لهم، خصوصا وأنه يعتمد على التوراة في تحديد عصر موسى من وجهة ‏نظره وهو أنه في عصر “تُحْتُمِّس” وحتشبسوت .. ‏
في حين يربط الباحث الدكتور محمد عزة دروزه في كتابه ” تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ” ‏بين ما جاء في التوراة من اضطهاد الفرعون لبني إسرائيل وبين ما ورد في أوراق البردي ‏المصرية من حديث عن اضطهاد رمسيس الثاني للعبرانيين ، وكان رمسيس الثاني أعظم ملوك ‏الآسرة التاسعة عشرة التي حكمت ما بين ( 1462 : 1288 ) في فترات ما قبل الميلاد . ‏

مرتكزا على ما جاء في كتاب ” تاريخ مصر من أقدم العصور ” لــ ” بريستد ” الذي تحدث عن ‏تسخير رمسيس الثاني للعبرانيين في جنوب بلاد الشام نتيجة لما كان بينه وبين الحيثيين من ‏اتفاقيات ، وقد ذكر ” بريستد ” خروج بني إسرائيل من مصر في عهد الفرعون “مُنِفْتاح” الثاني ‏في ظروف الارتباك الذي حدث في مصر وقتها ، وأن السحرة والمنجمين نصحوا”مُنِفْتاح” ‏بتعذيب بني إسرائيل ، وظهر فيهم موسى وانتهي الأمر بخروجهم وطاردهم “مُنِفْتاح” وقتل منهم ‏حشودا كثيرة .‏
وقد اعتمد بريستد في معلوماته على المدونات اليونانية القديمة والمؤرخ المصري القديم ‏‏”ماثنيون” الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد. ‏
ويقول بريستد أنه قرأ نصوصا مكتوبة في طيبة بمنطقة الأقصر الأثرية ، وأنه وقف على ‏نصوص منقوشة باللغة “الهيروغليفية “يفتخر فيها “مُنِفْتاح” الأول بتنكيله ببني إسرائيل وباقي ‏قبائل كنعان من سكان فلسطين حين ثاروا عليه .‏
وقد إستنتج الدكتور دروزة ، خلال قراءته لما تضمنته النقوش الفرعونية الصخرية، وتحليله ‏للروايات ، أن بني إسرائيل خرجوا من مصر على دفعتين ، دفعة صغري في عهد رمسيس ‏الثاني أو أبنه ودفعة كبرى في عهد منفتاح الأول أو الثاني ، وكانت الدفعة الأخيرة هي التي ‏قادها النبي موسى ، مما يؤكد أن فرعون موسى هو “مُنِفْتاح” الأول أو “مُنِفْتاح”الثاني ، أو هما ‏معا .. ‏

 


من جهة أخرى، تناول والباحث المصري فؤاد باسيلي في كتابه ” حياة موسى” إشكالية تضارب ‏ألآراء في فرعون موسى بين الفرعون تحتمس الأول والفرعون أموسيس الأول والفرعون سيتي ‏الأول والفرعون الشهير تاريخيا “رمسيس الثاني” ، مؤكدا أن فرعون موسى، هو رمسيس الثاني ‏على أساس أنه هو من بني مدينة ” رعمسيس” ومدينة “نافي” وسخَّر في بنائهما عمال وحرفيي ‏بني إسرائيل .‏
ومهما يكن، فقد اختلف الباحثون والمؤرخون النقديون في تحديد إسم فرعون موسى ، ما بين ‏الفترة الملكية الفاصلة بين حكم الفرعون تحتمس الأول إلى حكم الفرعون منفتاح الثاني ، وهي ‏فترة زمنية طويلة تصل إلى حوالي ثلاثة قرون ، ما بين ( 1539 : 1213 ) قبل الميلاد ، ولم ‏يستطع أحدهم الوصول إلى تحديد دقيق لفرعون موسى يحظى بتأييد العلم وقبول أغلبية الباحثين ‏، رغم أن هؤلاء الباحثين المختصين ، اعتمدوا في أدلتهم على المقارنة بين أحداث قصة موسى ‏في التوراة والقرآن وما يأتي متفقا مع بعض تلك الأحداث في التاريخ المصري القديم، سواء ‏قصة الاضطهاد ، أو إيجاد صلة بين حديث التوراة عن “بنت فرعون” التي أنقذت موسى وفترة ‏حكم الملكة وحتشبسوت .. ‏
ومع ذلكـ ، فقد كان الفراعنة معروفين بعدم تسجيل النكسات والهزائم وإغفالها ، في نفس الوقت ‏الذي يحرص فيه كل فرعون على تسجيل أمجاده والمغالاة فيها ، ثم نسبة أمجاد السابقين من آبائه ‏وأسلافه ، وذلك في حد ذاته يمثل عامل شك كبير في صدق المصادر التاريخية الفرعونية ‏خصوصا عندما نحاول أن نتعرف منها على حقيقة الكارثة التي حدثت في عصر موسى ونتج ‏عنها غرق الفرعون رأس الدولة المصرية القديمة وقاداته وفيالق عساكره في البحر . ‏
والأكثر من ذلك أن القرآن الكريم يثبت حقيقة تاريخية لم ترد في كتابات المؤرخين ، وهي أن ‏بني إسرائيل قد ورثوا فرعون في مصر بعد انهيار النظام الفرعوني وغرق فرعون وقومه أو ‏جنده: يقول تعالى في سورة الأعراف 137 ” فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ‏وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا ‏فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ ‏وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ ” ويقول تعالى في سورة الشعراء الآيتين من 57 إلى 59: ‏‏”فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ “‏

والواضح من الآيات الكريمة أن بني إسرائيل لم يحكموا مصر بالمعني السياسي وإنما ورثوا ‏خيراتها وثروتها بعد غرق النظام الفرعوني، وتعويضه بنظام فرعوني آخر .‏
فقد كان فرعون وحكومته وقاداته وكهنته يتحكمون في الأرض الزراعية والفلاحين المصرين ، ‏وذهب فرعون ونظامه ، وبقي الشعب الكادح الذي اعتاد تسليم ثمرة عرقه للحاكم . ولأن فرعون ‏قد غرق بنظامه فأن بني إسرائيل هم الذين ورثوه في ثروته الذهبية والاقتصادية، حيث أستمرت ‏هذه الفترة مدة من الزمان ، قبل أن يستعيد النظام المصري الفرعوني هيبته وإستقراره.‏
وعلى كل حال، فلم تذكر الكتابات الحائطية الهيروغلفية هذه الفترة، لأنه كما سبق ، فالفراعنة لم ‏يكونو ليسجلوا المآسي، وإنما كانوا يسجلون الإنتصارات، وربما يتزيدون فيها، من باب سجود ‏الشمس للفرعون، ونزول السماء بين يديه، في صور دلالية أكثر منها واقعية ، مما يعني أن ‏الكتبة والنقاشين المصريين القدماء تجاهلوا هذه النكسة ، لتكون طي النسيان ، ولولا القرآن ‏الكريم لما عرفنا عنها شيئا .. ‏

شخصية فرعون موسى من خلال القصص القرآني

لا شك، أن المنهج القرآني المعتاد في القصص هو عدم تحديد الأشخاص وذلك للتأكيد على جانب ‏العبرة والعظة بأن تتحول الحادثة التاريخية المحددة بالأسماء والزمان والمكان إلى قضية عامة ‏قابلة للاستشهاد بها والاتعاظ بها في كل زمان ومكان ، وبذلك يتحول الشخص من ” اسم ” إلى ” ‏رمز “، بل أن القرآن الكريم حين يذكر اسم شخص فأنه يحوله إلى رمز لفكرة معينة ، ولذلك ‏تحول ” أبو لهب ” و” آزر “إلى رمز للسقوط والتردي حتى لو كان ذلك الخاسر من أقرب ‏أقارب الرسل عليهم صلوات الله وسلامه .‏
‏ فطبيعي من هذا المنطلق، أن يُسقط القرآن دعاوى النسب التي تعطي حصانة لأصحابها فخاتم ‏النبيين محمد عليه السلام كان عمه ” أبو لهب ” كافرا ، وخليل الله إبراهيم كان أبوه ” آزر ” ‏كافرا .. ولم يُغنِ عنهما نسبهما من الله شيئا لذلك تحول اسم ” أبو لهب “و ” آزر ” إلى رمزين ‏لقيمة أساسية من قيم الإيمان والكفر.‏

كما أن ” فرعون” في حد ذاته لقب سياسي للملك المصري ، فالفرعون في اللغة الهيلوغروفية تعني ‏الملكـ سواءا كان ذكرا أو أنثى ، وليس اسما شخصيا، لدرجة أن المصريين القدماء في الصعيد ‏وكهنتهم إعتبروا الإسكندر المقدوني فرعونا لهم، وتم تأليهه، ولذلك اكتفي به القرآن رمزا لكل ‏حاكم ظالم مدع للألوهية يسير إلى نهاية الشوط فى حربه مع الله تعالى ليلقى جزاءه في نهاية ‏المطاف.‏

ومع ذلك ، يجمع معظم الباحثين في كون الإشارات القرآنية تبقى عامل توضيح وترجيح في ‏تحديد من كان فرعون موسى .. ‏
ففي القرآن ما يرجح أن فرعون موسى شخص واحد ، وأنه اضطهد بني إسرائيل وأنه طاردهم ‏إلى أن غرق بجنوده في البحر . ‏

تفهم ذلك من قول تعالى حاكيا عن تلك الفترة، في سورة الأعراف الآية 127 (وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ ‏فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَـ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي ‏نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن ‏يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن ‏يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) ، فالقرآن يفيد أن الاضطهاد استمر ‏متصلا من “فرعون” ملكــ واحد ، سواءا قبل نبوة موسى وبعدها، والعدو الذي يمارس ‏الاضطهاد شخص واحد ، وأن هذا الفرعون الواحد هو من سيلقي الهلاك وهو من سيخلفه بنو ‏إسرائيل في الأرض .. ‏
وفي سورة القصص تفصيلات أكثر يتضح منها أن فرعون موسى شخص واحد وملك واحد . ‏لقوله عز وجل من الآية 4 إلى الآية 8 : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ‏يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ‏الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي ‏فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ ‏عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ ‏فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ) ‏
أى أن الفرعون الذي اضطهد بني إسرائيل هو نفسه الذي كفل موسى وهو نفس الفرعون الذي ‏كان موسى سببا في ضياع ملكه ، بل أن الملأ هو نفس الملأ ، وهامان هو نفسه هامان في سنوات ‏الاضطهاد وفي نكبة الغرق أيضا . ‏
وفي سورة الشعراء توضيح طريف يُتأكد منه أن الفرعون الذي تربي موسى في كنفه هو نفسه ‏الفرعون الذي جاءه موسى فيما بعد نبيا مرسلا يطلب منه الخروج بقومه ، وقد تعرف عليه ‏فرعون بعد تلك فترة غيابه الطويلة وقال له كما في سورة الشعراء، الآيتين 18 و 19: “قَالَ أَلَمْ ‏نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ؟ ” . ‏

فرعون موسى في القرآن الكريم شخصين ‏

في حين تؤكد دراسات تاريخية ، وباحثون مختصون من ضمنهم ، علماء مسلمين، أن فرعون ‏موسى في القرآن الكريم، حسب التحليل التاريخي ، هو شخصان وليس شخص واحد .. كما يجزم ‏هؤلاء الباحثون أن الفرعون الشهير رمسيس الثاني ، معروف في التاريخ أنه هزم الحيثيين في ‏قادش بالشام وأرغمهم على عقد أول معاهدة في التاريخ ، وأحكم سيطرته على الشام خصوصا ‏في جنوبها . ‏
ويحجون في كون فرعون النبي موسى ليس هو رمسيس الثاني لسبب بسيط ، مستشهدين، أن ‏موسى حين قتل المصري ، كما ورد في القرآن الكريم هرب من قضاء الفرعون وأتجه إلى مدين ‏بالشام ، فكيف يهرب موسى من فرعون إلى فرعون ؟ كيف يهرب من يد فرعون اليمنى إلى يد ‏فرعون اليسرى، فقد كانت “مدين” وعيلام” وجبل لبنان” وكنعان تخضع لحكم رمسيس الثاني.‏
مما يؤكد أن فرار موسى، ولجوئه لمدين، لم يكن في فترة حكم رمسيس الثاني، بل في فترة حكم ‏فرعون آخر، وأضعف إمتداد جغرافيا من دولة الفرعون رمسيس الثاني، ولا يمكن للنبي موسى ‏عليه السلام، والفطنة من سمات الأنبياء، أن يلجأ لمدين، في بلاد الشام ،وهي تحت حكم رمسيس ‏الثاني، ويظل بها راعي غنم، و مختفيا عن الأعين، كما أن في ترة الفرعون “رمسيس” لم تكن ‏هناكـ فيما تؤكده كل الدراسات التاريخية ، أية ثورات دينية، أو مناوشات إنفصالية، كما أن ‏الفرعون رمسيس الثاني، كان نشغلا بالحروب الخارجية، وشن الهجومات على من يجاوره من ‏الدول والقبائل شرقا وغربا تارة، وتوطيد السلام وبعث السفراء والهدايا لحكام أخرين تارة. .‏
والقرآن الكريم نفسه، يفيد أن “فرعون موسى” لم يكن هو رمسيس الثاني ، إنطلاقا مما دونه ‏التاريخ القديم والحديث، وتقفى أثره علماء المصريات القديمة، والقرآن الكريم يفيد أن “فرعون ‏موسى” كان قد عمد إلى تطبيق سياسة تحديد النسل ، إتجاه قومية “بني إسرائيل” وأنه كان ‏يمنعهم من الإنجاب، لتقزيم أعدادهم ، وأنه كان يُذَبِّحُ أبنائهم.‏
‏ والقرآن الكريم نفسه، يفيد أن “فرعون موسى” كان كثير الشكـ في قوته وفي إستقرار حكمه، ‏فكان يعقد المؤتمرات واللقاءات الجماهيرية مع شعبه، لتقوية مكانته الداخلية ضد دعوة النبي ‏موسى، فعلى نحو ما تردد في القرآن الكريم الآية 23 من سورة النازعات : (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي ‏قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ ‏هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ) ثم في سورة الزخرف الآية 51: قوله تعالى “فَحَشَرَ فَنَادَى ‏فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى “.‏
ويتفق معظم الباحثين والمؤرخين ، على أن “فرعون موسى”لو كان منشغلا بالحروب الخارجية، ‏مثل الفرعون رمسيس الثاني، ما التفت إلى الداخل بهذه السياسة المنهجية وهذه الدعاية الضخمة، ‏فضلا عن كون القرآن الكريم يؤكد أن فرعون موسى قد أنشغل بدعوة موسى، وبالدعاية ضده، ‏وبحشر الناس وتحشيد الحشود لمحاربته.‏
كما أن القرآن الكريم تحدث عن رفض بني إسرائيل في عصر موسى دعوته لدخول فلسطين ‏‏”أرض كنعان” لأن فيها ” قوما جبارين ” وأولئك القوم الجبارون من سكان فلسطين كانت لهم ‏دولة ذات حدود وأبواب، أى دولة مستقلة و لم تكن تابعة لمصر وقتها ، بل كانت دولة مهابة ، ‏ففي الحوار الذى دار بين النبي موسى عليه السلام وقومه، يظهر أن الزمن ليس زمن الفرعون ‏‏”رمسيس الثاني”،فقد قال له رجال من قومه بني إسرائيل، فيما أورده الله عز وجل بسورة ‏المائدة، الآية 22 : ( قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن ‏يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا ‏دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )..‏
والمعنى المستفاد من القرآن الكريم أنه بعد سقوط فرعون موسى بنظامه في البحر الأحمر قامت ‏دولة مستقلة في فلسطين أرهبت بني إسرائيل فقالوا لموسى : ( قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا ‏مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي ‏فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) (المائدة 22 ،24 ). ‏
ومهما يكن ،فإن تلك الدولة الكنعانية التي أرهبت بني إسرائيل لم تقم في زمن الفرعون رمسيس ‏الثاني، ولم تتأسس فجأة بين يوم وليلة وإنما بدأت تتكون على مهل أثناء انشغال “فرعون ‏موسى” باضطهاد بني إسرائيل واستغراقه بشئون مصر الداخلية ، وأثناء ذلك اتسعت تلك ‏الكيانات والدويلات السياسية في الشام وتحررت من السيطرة المصرية فلما سقط فرعون وجنوه ‏في البحر كانوا هم القوة الكبرى في المنطقة، ولم يستطع بني إسرائيل الدخول إلى أراضيهم ، إلا ‏بعد إلتحاق النبي موسى عليه السلام بالرفيق الأعلى .. ‏
كما أن بني إسرائيل في عصر موسى عرفوا الكسل التام ، إذ كانت عصا موسى هي التي تجلب ‏لهم المن والسلوى وتفجر لهم عيون الأرض أثنتا عشره عينا للاثنتى عشرة قبيلة ، والشيء ‏الوحيد الذي نشطوا إليه هو أنهم صاغوا العجل الذهبي من الذهب المصري، الذي كان في حوزة ‏بعض نسائهم وقاموا على عبادته ..‏
الطريف فيما يخبر به القرآن الكريم ، أنه حين طلب منهم موسى أن يدخلوا فلسطين طلبوا هم في ‏المقابل أن يخرج منها “الكنعانيون” أي الفلسطينيون بلغة العصر أولا ، أو أن يذهب موسى ‏وربه ليقاتلا الفلسطينيين بالنيابة عنهم.. ‏
وبسبب تقاعس بني إسرائيل في عصر موسى عن الجهاد فإن الله تعالى حكم عليهم بأن يظلوا في ‏الصحراء تائهين حتى ينقرض ذلك الجيل الكسول والمتهالك ويأتي جيل آخر أشد وأقوى .‏
والحق، فيما تخبر به كتابات التاريخ اليهودية والمسيحية والإسلامية، أن النبي موسى عليه ‏السلام، مات في فترة التيه ، وبعده جاء نبيٌّ وتم في عهده تعيين طالوت ملكا، وهو الذي هزم ‏جالوت الفلسطيني وتم تأسيس دولة لبني إسرائيل، من طرف الجيل الجديد الذي كان من أكبر ‏رموزه النبي الملكـ داوود عليه السلام، وهو ما يُفهمُ منه أن الإمبراطورية الفرعونية المصرية ‏كانت قد تقلصت إلى حدود مصر الطبيعية الآن، بعد عصر فرعون موسى إلى درجة أنه قامت ‏لبني إسرائيل دولة على حدودها الشرقية، فيما بين سيناء وجبل لبنان . ‏

 

حقيقة الفرعون الغارق في زمن نبوة موسى

وبناءا على هذه الإستشهادات التاريخية والمعطيات الموضوعية، لا يستبعدُ الباحثون والمؤرخون ‏والمؤرخون الدينيون في أن يكون فرعون موسى ، أحد فراعنة العصر الذي أعقب حكم رمسيس ‏الثاني .. فقد تعاقب على حكم مصر ، بعد وفاته ثمانية من الملوك كل منهم فرعون يحمل لقب ‏رمسيس ، ولا يُسمع عنهم كثيرا ، ولم يكتب المؤرخون من معاصريهم أم من الجدد شيئا عنهم، ‏ويعزز ذلك أن مصر دخلت مع هؤلاء “الرماسسة” إن صح القول، في دور الضعف والانقسام ‏والانهيار، فقد تولي عرش مصر فراعنة من الليبيين ومن النوبيين ثم احتل الآشوريون مصر ثم ‏خضعت لحكم الفرس .‏
ولايستبعد هؤلاء المؤرخون في أن يكون “فرعون موسى” هو ‏
‏ ومعناه أن فرعون مصر في عصر موسى ، كان هو الفرعون “مُنِفْتاح” أو “أمي مِنْهاتاح” وأنه ‏كان آخر الفراعنة الكبار ، وأنه كان قد لقي مصيره بالغرق في البحر، فحَقْتْ اللعنة الإلهية على ‏خلفائه ممن ساروا على منواله.. ‏
القرآن يذكر أن موسى دعا الله أن ينتقم من فرعون ويهلكه ويطمس على أمواله ..وأن الله تعالى ‏قال لموسى وهارون “: (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ‏رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ ‏الأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) (يونس 88 ،89 ). ‏

وقد لحقت الدعوة ليس بفرعون موسى وحده بل بالنظام الفرعوني بأكمله فلم تر مصر بعدها ‏فرعونا عظيما مهابا، حازما وقويا، إلى جاء الإسكندر المقدوني وإعتبر نفسه فرعونا مصريا، ‏وقضى على حكم الفراعنة، وعلى ديانة أمون رع، كما يؤكد النقد التاريخي والدراسات المختصة ‏في مجال حضارة الفراعنة .‏

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.