أجانب سكنتهم مراكش : قصصُ عشقٍ للأرض والنكهة البهجاوية

محمـــد القــنـــور ‏:
عدسة : محمد أيت يحي ‏:

قبل أن يتعرفوا ، على التنوعات الحضارية والثقافية والجمالية التي تمتاز بها مدينة مراكش ، منهم من ‏كان يظن أن مراكش خصوصا والمغرب عموما عبارة عن صحاري قاحلة، لازلت فيه الجمال هي وسيلة ‏النقل، والتمر والحليب هما قوت المغاربة اليومي. فما إن وطأت أقدامهم البلد الذي يموقعونه بـ “جنوب ‏إسبانيا” حتى صدموا بسيادة ثقافة “الفاست فود” و”الآيفون”.. فما عاد يظهر لهم من فرق بين بلدانهم ‏والمغرب سوى كرم أناسه، جغرافيته وبناياته، وحضارته المتنوعة ، إذ من مختلف قارات العالم حطّوا ‏الرحال بمراكش . ‏
‏”هاسبريس ” تتبعت قصص أجانب يعيشون مع جيران مغاربة ويصادقون عائلات مغربية تحت سقف ‏مدينة واحدة، وتتبعت مساراتهم و واقعهم

من دالاس إلى القنارية ‏

 

على عتبة منزل متواضع بني في زقاق ضيق بقلب المدينة القديمة في حي باب أيلان بمراكش ، تجلس جودي ، 20 عاما من دالاس ‏أمريكا وهي تنظر بعينين خضراوين إلى حركات أطفال تعلو ضحكاتهم المكان وهم يتراقصون على أنغام أغنية “واكا واكا” للفنانة ‏الكولومبية شاكيرا. تقول بكلمات بالدارجة تكاد تكون مفهومة “فاش جيت للمغرب، حسابلي ما فيه لا تلفزة لا راديو لا والو..” ‏
تقضي جودي ، قرابة الثلاثة أشهر، الآن، في ضيافة عائلة مغربية من 4 أفراد.. تواضعها وخفة ظلها جعلاها تنسج علاقات طيبة مع ‏الجيران، ومع أغلب فتيات وفتيان الدرب الذين أصبحوا ينادونها جودية .‏
كل سنة، جودي ، دافيد، إيدا وعدد من الأجانب من جنسيات مختلفة يحطون الرحال في المغرب وبالضبط في المدينة العتيقة بمراكش ‏، فتفتح لهم بعض العائلات المراكشية أبواب منازلها التي تطل من واجهاتها أصالة العمران وتخفي في داخلها بساطة العيش. أغلبهم ‏شبان وشابات يأتون لهدفين، تعلم اللغة العربية الفصحى أو الدارجة وزيارة أهم المدن والمآثر التاريخية. تابعين في ذلك لبرامج ‏أكاديمية تقوم بالتنسيق بين بلدهم الأم والمستضيف…‏
إلى ذلك، فالمدة التي يقضونها بيننا في قلب الأحياء الشعبية والأزقة الضيقة تفتح المجال لسرد قصص من يومياتهم والحديث عن مسار ‏تأقلمهم مع نمط عيش يغيب فيه صخب العواصم العالمية التي ارتحلوا منها ليحلوا بـ “مراكش”، كما يسمون المغرب، حاملين أفكار ‏مسبقة، أغلبها تتغير بعد مرور ساعات قلائل.‏

 

غرام من أول نظرة ..‏
‏ ‏‏

“أول مرة جئت إلى مراكش كنت أظن أنه صحراء “يقول جون، 28 سنة، قادم من واشنطن، بعربية مرتبكة، ثم يضيف بانجليزية ‏سلسة هذه المرّة، وهو يسارع في خطواته منتعلا بلغة فاسية، وطاقية مراكشية قاصدا محطة باب دكالة الطرقية في رحلة خاطفة ‏لمدينة الصويرة، المنفذ البحري لجهة مراكش انسيفت الحوز.‏
يقول لـــ “هاسبريس” : ” كنت مصدوما وفي نفس الآن فرحا حينما وجدت أن المغرب لايختلف كثيرا عن بلدي، فيه من الطرق ‏والبنيات التحتية والتكنولوجيا .. الجمال والبراري لم أجدها إلاّ حين زيارتي للجنوب”.‏
من الأجانب من يعجب لأمر هذا البلد الذي وهم يتجولون بين شوارعه، ويعيشون بين أناسه، يكتشفون أنه نسخة مصغرة، شبيهة ‏ببلدانهم فيما يتعلق بالتكنولوجيا الحديثة والموضا والوجبات السريعة، خلافا لما كانوا يعتقدون. ومنهم من وجد نصفه الآخر، متخفيا في ‏إحدى دروب الأحياء الشعبية بقارة غير التي ولد فيها، كما هو الحال بالنسبة لكيفن.‏
‏”لعام للي فات كان عندنا واحد الكندي سميتو كيفن. أول مرة جا المغرب، ومامشا حتى تزوج بمولات الرغايف” تقول شيماء، بنظرات ‏فرحة وهي توضب غرفة لإحدى الأجنبيات التي ستكون في ضيافتها هذا الشهر. وتضيف بصوت دافئ “كانت فتاة جميلة، أعجب بها ‏فطلبها للزواج وهو يقول بكلمات متلعثمة كان قد تعلمها بالدارجة المراكشية : واخا تزوجي بيا؟.. ليذهب بها من حرارة طهي الرغايف ‏إلى صقيع كندا”.‏

‏ ‏
مراكش، المدينة الكريمة

‏ ‏
الساعة تشير إلى الواحدة بعد الزوال. وقت الغذاء عند لمياء، 45 سنة، ربة بيت وأم لثلاثة أطفال، تستقبل في كل سنة عددا من ‏الأجانب في بيتها المطل على شارع سيدي فاتح بالمدينة القديمة، والذي يعود بناءه لسنوات خلت… كل من قضى مدة في ضيافتها يشهد ‏لها برحابة الصدر وروح الدعابة وكرم الضيافة، حتى أنهم بكثرة تشبتهم بها ينادونها “ماما لاميا”.‏
تقول، لـــ “هاسبريس ” بعدما جددت الترحييب بضيفيها القادمين هذه المرة من ألمانيا، حين أنهوا أكل طاجين مغربي من شهيوات ‏لمياء، “كانعاملهوم بحال وليداتي وتاواحد ماكايدصرعليهم، حيت كاع أولاد الحومة كانقوليهم : هادو راه ديالي”.‏
‏ وعلمت “هاسبريس” أن الأجانب الذين حلوا بمنزلها هذا الصباح، يتعاملون مع مكتب إحدى الشركات العقارية المتواجدة بمراكش، ‏والذي تضع فيه لمياء بانتظام ومنذ سنتين طلبات استقبالها للأجانب في منزلها المكترى. تضيف يعينين ذابلتين وقد تغيرت ملامحها، ‏‏”بهادشي للي كايعطيوني هاد الأجانب باش عايشين وكانتعاون على دواير الزمان”.‏
‏ تستقبل مثل هذه المراكز في الشهور الأولى من السنة، عشرات من طلبات العائلات المراكشية التي تبتغي استقبال الطلبة الأجانب، ‏تليها زيارة لجنة مختصة تقوم بمعاينة المنزل والغرفة التي سيقطن بها الطالب فإن كانت تستوفي الشروط، تعطى الموافقة، ويمنح ‏للعائلة دخل يومي أقصاه 200 درهم وأدناه الـ 100.‏

 

درس من الدروب

يجمعون على أنه في الأيام الأولى استعصت عليهم معرفة الأزقة التي سيسلكون. تتذكر إيدا شابة في عقدها الثاني، جاءت من ‏هامبرغ، بصوت هادئ وحركات يد عفوية “لم أكن أعرف من أين أخرج للشارع الرئيسي (الجزاء) ولا كيف أعود إلى منزل “ماما ‏لاميا”، جميع الأزقة كانت تتشابه، تهت في أحيان كثيرة…لكني الآن بعدما قضيت أكثر من شهرين أتجول هنا وهناك، أصبحت أعرف ‏جميع الاتجاهات، حتى أنني أصبحت أذهب إلى الحمام الشعبي لوحدي دون أن ترافقني ماما”.‏
في سطح المنزل، حيث يقضي معظم الأجانب الوقت، متأملين في منتجات من إبداع أيادي الصناع التقليديين. وضعت لمياء قناديل ‏نحاسية على الحواف راسمة بهم المدخل، وأفرشت الزرابي المزركشة بألوان زاهية لتجذب عين الناظر إليها فتعرف بالذوق المغربي ‏لزوار متعطشين لكل ما هو تقليدي، بديع خارج عن المألوف لديهم، حيث يعطي كل واحد منهم 200 درهم لفاطمة الزهراء كأجر ‏يومي مقابل عنايتها بهم، وتوفيرها للوجبات الثلاث والمبيت.‏
غير بعيد عن منزل لمياء، في الجهة المقابلة، تدخل 3 طالبات شقراوات يلبسون الجلباب المغربي المعصرن، إلى منزل حليمة والتي ‏على خلاف جارتها لمياء، تتقاضى 100 درهم في اليوم، كمستحقات للمبيت فقط، فهي تشترط عليهم أن يجلبوا الأكل من الخارج. ‏تجيب بصوت خافت، حين سؤالها عن إمكانية اللقاء بالطالبات اللاتي دخلن منزلها قبل برهة، كأنها تخشى أن يسمعها أحدهم “هادشي ‏رافيه الداخلية، ماعنديش الحق نلاقيك بيهم ولانعاود ليك عليهم”. قبل أن تختفي بدون سابق إنذار، وراء باب منزلها الخشبي ‏المزخرف…‏

ملاحظات بعيون زرقاء

 

‏ «كلينت» ، لم يطفء شمعته الـ 24 بعد، يجلس في الزاوية اليسرى من السطح بمنزله الكائن في حي الزاوية العباسية في عمق ‏مراكش المدينة ، يفترش الأرض ويسبح بنظراته نحو السماء كأنما هو فلاح تؤرقه حالة الطقس التي ستنعكس سلبا على محصوله، ‏مطلقا العنان لتفكيره، يقول بنبرة حزينة “في المغرب الكثير من المتناقضات، ففي الوقت الذي ألمح فيه «كلينت» إلى السيارات التي ‏تخيط شوارع مراكش، وأرى مختلف مظاهر الرفاهية في الحي الشتوي وبمنطقة النخيل و على طريق تاركة ومختلف الأحياء ‏الراقية، حيث اكتشف مؤخرا أن غرفة ضيقة في المدينة القديمة أو حي القصبة أو درب سيدي بولقات يمكن أن يتكدس فيها أكثر من ‏‏7 أشخاص وأن هناك من العائلات في المناطق النائية بعين إيطي أو دوار كنون بمقاطعة النخيل ، أو بدوار الهبيشات أودوار الحفرة ‏أو دوار الفخارة أو دوار كوكو في تسلطانت ، والتي لا يتوفر على أبسط متطلبات العيش الكريم حتى أن النساء تلدن في منازلهن.. ‏ولا يجد أحد أي حرج في ذلك”.‏
‏ ما إن يحطوا مباشرة رحالهم في مراكش، حتى تبدأ رحلة الأجانب في ملاحظة المفارقات، يعجبون لعدد من المظاهر “الغريبة” في ‏الأسواق وفي الحمامات الشعبية، في الدروب وفي الرياضات، في الحدائق وفي جامع الفنا ، وهي المظاهر التي لم يشهدوا مثلها في ‏بلدانهم، لكن سرعان ما يستأنسون ويقومون بها، خاضعين “لقوانين وأعراف وتقاليد خلقها المراكشيين وصقلتها الحضارة المغربية “.‏
‏”التشطار في مراكش زوين” تقول «أنجيلينا» 20 سنة، تستعد بعد أسبوع للعودة إلى مدينة الأنوار باريس، مضيفة بالدارجة وابتسامة ‏جميلة تستعد للكشف عن أسنانها الثلجية المتراصة، “المعلمة علماتنا كيفاش نتشاطرو وواحد لمرة ربحت 5 دراهم”. تتحدث بفرح ‏حينما قامت بتطبيق ماتعلمته في حصة بإحدى المراكز الخاصة لتعليم اللغة العربية الفصحى والدارجة للأجانب، وتغلبت على البائع ‏في انتقاص 5دراهم من الثمن الأصلي.‏
نريد أن نتعلم الدارجة
‏ ‏
‏”أريد تعلم العربية.. فأنا أتحدى نفسي كل سنة لأتعلم لغات جديدة” تقول “كارولين” ، 29 سنة من مدينة سانت ديغو في ولاية كاليفورنا ‏وهي تقوم بتركيز تام وفي جو هادئ في إحدى المنازل العتيقة، بانجاز واجباتها المنزلية. لغتها العربية مقارنة مع زميلاتها، أحسن. ‏فهي تؤكد رغبتها في التواصل مع المحيطين بها بالعربية، تستغل جميع الفرص لتعويد لسانها على الحديث بسرعة. تقول مازحة” ‏صعب أن أفهم كل الكلمات، لأنكم سريعون في حديثكم” تيم فام، تحرص على عدم التحدث بالإنجليزية إلا إذا استفحل عليها أمر ‏إيصال فكرة ما.‏
‏ أما بالنسبة لريشارد وهو شاب أمريكي في عقده الثالث، فإن إرادته في عدم الانسياق وراء ما يسوق له الإعلام الأمريكي هو ما ‏جعله يكمل دراسته للعربية في المغرب بعد سنتين قضاها في جامعة كيرون تعلم فيها الأبجديات الأولى..‏
‏ يقول بنبرة حاسمة، “شعبنا مغفل ولا أريد أن أكون كذلك. فالأمريكي حينما يسمع كلمة مدرسة يعتقد مباشرة بأن الأمر يتعلق بمكان ‏تجتمع فيه عناصر القاعدة والإرهابيين ليتدربوا فيه على استعمال السلاح. والحقيقة أن المدرسة هي ببساطة ‏School‏ بالإنجليزية، ‏مكان للتعلم”. يضيف بسلاسة ” أغلب الناس يحملون في مخيلتهم صورة سلبية عن المسلمين والسبب في ذلك غياب الإرادة في البحث ‏وتعلم اللغة قبل الحكم”.‏
‏ في الجانب الأيسر من مدخل ‘السويقة” بحي القنارية على الظريق المؤدية لدرب ضبشي في مراكش يجلس «صامويل» ، شاب ‏عشريني، من كامبردج أمام محل لبيع المواد الغذائية، حاملا في يده كتابا خاصا بتعليم الدارجة المراكشية للمبتدئين. يقول بلكنة ‏إنجليزية وكلمات عربية، “أحرص دائما على الحديث مع الباعة بالدارجة لأتعلم كلمات جديدة، فرغم أن لكنتي تضحكهم إلا أنهم ‏يطلعونني على الكلمات التي يستعملها شباب اليوم، حتى أكون على علم بالمستجدات دائما. الناس في المغرب طيبون”. «صامويل» ‏يتحدث بفخر عن علاقته بمراكش والمغاربة، التي تقوت كثيرا. فأصبح وإن عاد إلى بريطانيا يحرص على أن يتراسل بشكل شبه ‏يومي مع العائلات التي سبق لها وأن استقبلته ويتحدث بالدارجة مع أصدقائه، ليتحول من التلميذ المتيقظ لاقتناص كلمات بالدارجة إلى ‏الأستاذ النبيه الملقن.‏

‏ ‏
مراكش : أزقة وحكايات

‏ ‏
في الأزقة الضيقة في حي الرحبة القديمة بالمدينة العتيقة ،كما في درب سنان بحي المواسين، ودرب تيزكارين بحي دار الباشا، ودرب لمنابهة ودرب أشتوكة بحي القصبة  يتعايش السكان المراكشيون مع الأجانب بحكم قرب ‏المنازل والعلاقات التي تربط العائلة المستضيفة بالجيران. كل صباح يلقون عليهم التحية ويدخلون معهم في دردشات، مطلقين عليهم ‏أسماء مغربية. غير أن معظمهم يتساءلون عن السبب الذي سيجعل أجنبيا يأتي إلى مراكش ويقبل العيش تحت سقف واحد ، وفي درب واحد مع عائلات مغربية ‏ذات عقلية وتقاليد مختلفة عنه؟.‏
‏”تعرفت على واحد الكاورية جات المغرب فعطلة وكانت كاتسكن مع عمتي، وبعد مدة عرفت بللي هي جات باش تدرس الأوضاع ‏فالمغرب والاستقرار ديالو” يتحدث عمر،34 سنة وهو يوظب ملابس مستعملة يبيعها في زقاق ضيق يتقاطع مع شارع لكزا بعرصة إيهيري في باب دكالة، ‏ويردف متأسفا على الأيام التي كان فيها مرشدها السياحي، لا يوجد مكان جميل أو معلمة تاريخية إلا وزارته برفقته” ما إن عرفت ‏أنها لا تستظرفني إلا لتجمع معلومات، تستعرضها على زملائها في الخارج حتى قطعت علاقتي بها. أنا ماعنديش مع السياسة”.‏
يروي عمر  قصته مع “الكاورية” التي قال لـ “هاسبريس” أنها ” كانت تسايره في حماقاته فقط ، لمعرفة كيف يعيش الشباب في بلد من العالم ‏الثالث، حيث كانت تؤكد على اللقاء بأكبر عدد من أصدقائه لتعرف ميولاتهم، وتستشف كيف ينظرون إلى الاستقرار بمراكش ؟”.‏

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.