قِصّة قَصِيرَة ………….. ويُنادِي مَسْقِـطُ الرّأسِ

ويُنادِي مَسْقِـطُ الـرّأسِ ..

قَرّر مَحجُوب الاستقرار فِي مَسقِط رَأسِه،بِإحدَى القُرَى الرّيفيّة النّائيَة،وَسطَ سِلسِلَة جِبالِ الأَطلَس المُتوسّطِ، بَعدَ مُغامَرةِ تَهجِيرٍ قضاهُ كَجُنديّ مُرتَزِقٍ فِي صُفوفِ الجَيشِ الفَرنسِيّ، الّذِي زُجّ بِه فِي خِضمّ الحَرب العَالميّة الثّانيَة ، كَدرعٍ بَشريّ فِي صُفوفِها الأَمَاميّة،عِندمَا وَضعَ الحُلفَاء أَوزَار حَربِهم،وَأحصَوا أَموَاتَهم ،وَكُتبَ لِمحجُوب عُمرٌ ثَانٍ،أُعيدَ الزّجّ بِه فِي حُرُوبٍ إستِنزَافيّة قَارّيّة ، خرَج مِنهَا أَيضًا يَحضُنُ رُوحَه بَينَ أضلاَعِه ، كَتلكَ القِططِ البَرّيّة بِسبعَة أَروَاحٍ ، تَنزَلقُ كالسّرابِ كُلّما دَاهَمتهَا مَخالِب كَواسِر جَائعَة وَأنيَاب لِكلاَب ضالّة أَو حَوادِث طَائشَة ، تَنُطّ هُنا وَهُناكَ ، غَير عَابئَة بالمَوت ، إصرَارُها علَى الحَياةِ أقوَى مِن الإعتِداءَات الّتي تشنّ علَيهَا .تَقدّم مَحجُوب فِي العُمر ، وَتدَاعيَات عَجزِ وَأَعطَاب سَنوَات الحُرُوب الّتي خَاضَها،عجّلت بِتسرِيحِه مِن لَعنَة إرتِزَاقِ ظلّ يَلُفّ عُنقَه بِحبلِ مِشنَقتِه ، إحسَاسُه بِحرّيتِه أَيقظَ فِي وِجدَانِه أَملَ لمّة العَائلَة المَفقُودَة ، أَعادَ لَه أَهالِي مَسقطِ الرّأسِ إعتِبارهُويّته الّتي سُرقَت مِنه ، وَشّحُوه بلَقبِ شيخِ القَريَة وَحَكيمهَا ، هُم دَائمًا كَانُوا فِي حاجَة إلَى رَجلٍ منهُم وإلَيهِم ، لَه مَا يَكفِي مِن مُعانَاة التّجارِب فِي الحَياة ، هُو أحقّ بِها، جُغرافيّة المَكانِ تفرِض عَليهِم تدَاوُلها، تُذكّرُهم بِقسَاوَة تَضارِيسِها وَمآسِي مَن سَبقُوهُم،هُم يَتنفّسونَ نفسَ الأَنِين الّذي وَرثُوه عَنهُم .

أَصبَح مَحجُوب يُنادَى علَيه فِي مَسقِط الرّأس بِالشّيخ،زَاده بَياضُ شَعر لِحيتِه المَسدُول وقَارًا،بنَى لِنفسِه مصطَبةَ إستِراحَة المُحارِب،جَعلهَا مُتاخِمة لِبيتِه مِن الجِهةِ الشّرقيّة ، تُطلّ علَيهَا مِئذَنَة لَم يَكتَمل جَامُورُها بَعد ، لَكنّها تُذكّره علَى مدَار السّاعة بِندَاء السّماء يَقضِي النّهار جَالسًا علَى مصطَبتِه ، يُرافقُه مِذيَاع مُتنقّل بِأربَع بطّاريّات ، وَرُبع دَزينَة مِن سَجائِر سَودَاء حَارّة المَذَاق ، يَشُدّاه معاً إلَى تَتبّع أخبَار آلاَم فِي مُستنقَعاتِ الفِيتنَام وَأدغَال إفرِيقيَا وَرعبِ الخَنادِق المَسكُونَة بِالموت والأشبَاح،وَيُعيدَاه إلَى حَاضِر يَقضّ مَضجَعَه،يُذكّرهُ بِإبنِه صَالِح المَقبُور دَاخِل أَنفَاق مَناجِم جِبالِ الأَلبِ ALPESالمُمتدّة، يَتنفّس غُبَار صُخورِها الفَحميّة، يَتمرّغ مِن أَنينِ سِياطِ نَفسِ الجلاّد الّذي زُجّ فِي حرُوبٍ لاَ تَعنِيه.

إستَشعرَ الشّيخُ محجُوب معَ مُرورِ الأَيّام،أنّ إستقرَارَه فِي مَسقِط رَأسِه هُو وِلادَة جَديدَة، القَريَة بِالنّسبَة إلَيه فِردَوسُه المَفقُود،الّذي طَالَما نَسجَ مَعالِمه فِي خَيالِه أَمامَ تَحدّياتِ المَوتِ فِي حُرُوب مَلعُونَة.خَامَرتهُ مَشاعِر وَاعدَة ، تُذكّره مِن جَديدٍ بِإبنِه صَالح. بَدأَت بَوادِر مشرُوعٍ تُحيِي آمالَه فِيه.جلَس علَى كُرسِيّ عرِيضٍ يُشبِه أرِيكَة شِبهَ مُتدَاعيَة لاَ تُثيرُ الإنتِبَاه ،إستَعانَ بِمخَدّة حمَى بِها نُتوءَاتِ عَمُودِه الفقَريّ المَعطُوب،أخَذ يُداعِب بأنَاملِه عُلبَة سجَائِره،لاَحَت بشَائِر المَشرُوع تتَوارَدُ تبَاعًا، إستَقامَ فِي جلسَتِه ، عدّل قَليلاً مِن تَموضُع كُرسيّه ، قَالَ بصَوتٍ حَازِم، لَقد دقّت سَاعَة الحَقيقَة يَا محجُوب … دقّت سَاعَة إبنِك صَالِح .تَخَلّص مِن عَقبِ سِيجارَة بَقِيت عَالِقة بَينَ شفَتَيه ، نَادَى علَى زَوجَتهِ إزّة، نَفضَت يدَيهَا مِن بَقايَا دقِيقٍ هُو فِي طَريقٍ ليصِيرَعَجِيناً، نَطّت مِن مَكانِها حَاملَة عِتاباً معَها ، قَائلَة: ألَم تُدرِك بَعدُ،هذَا السّمّ الّذي تدَخّن سيَقتُلكَ يومًا مَا؟ قَالَ لَها الشّيخُ مَحجُوب،اترُكينَا الآن يَا إمرَأةُ مِن القَتل إجلسِي إلَى جَانِبي،فهذَا المَكانُ يسعُنَا معاً،عِندِي حَديثٌ لَك،تَجمّدت أُمّ صالِح فِي مكَانِها دُون أن تَنبِس بكَلمَة وَاحدَة ، لَم يَسبِق لِزوجِها أَن طلَبهَا لِيُحدّثهَا رأساً لِرأسٍ، تَنازعَتهَا مجمُوعَة مِن الهَواجِس هِي إمرَأة دَأبَت علَى حَياةٍ خَاصّة بِها،لاَ تَرغبُ مَن يُشارِكها فِيها. الضّرّة تَبقَى ضرّة .قرَأ الشّيخُ مَحجُوب بِسُرعةٍ فائِقةٍ أنّ شَيئاً مَا علَى غَيرِ العَادَة يُخالِجُها،إعتَرفَ فِي قَرارِه ،أنّها إستَطاعَت بِصبرِها وإنتِظَارِها لِسنَواتٍ طوَال ،أَن تَهزِم جُيوش الحُلفَاء،وإنتِزاعِ عُنقِه مِن مفَاصِل المَوتِ بإيمَانِه بِعودَته،إنّها رَفيقَة عُمر فَوق العَادة،طَمأنَها بِنظرَات دَافئَة،أخَذ يُحدّثها بِرفقٍ عَن ذِكرَياتِ ليلَة زِفافِهمَا، كَيفَ إنتَشلُوه مِن بينِ أحضَانِها،إلَى جَبهَة القِتالِ قبلَ الفَجرِ دُون أَن يَترُكوا لَه فُرصةً لإقَامَة صَلاتِه،أَخبرُوه بَعد أَن أصبَح فِي السّماءِ،سَيُحارِب جنباً الَى جنبٍ معَ جيشِ الحُلفَاء ولاَ وقتَ لمزِيد مِن المَعلُومَات،إغرَورَقَت عَينَا إزّة بدُموعٍ صَامتَة،حَديثُه لهَا أيقَظ جُرحاً غائِراً في أعمَاقِها،تَذكّرت إبنَها صَالح وَحيدَها، إنشَغلَ عنهَا الشّيخ مَحجُوب بِحشرَجَة مُفاجِئة،تَنتَابُه كلّما رَاكَم دُخّان سِجارَة دَاخِل جُيُوبه الأَنفيّة،حَاوَل كَبحَ جِماحَها بَعد أَن خَلخلَت قَفصَ صَدرِه كَدُفّ تَشبّع بِرُطوبَة عَملَت علَى إستِرخَاء وَترَيهِ،مَكثَت إزّة فِي مكَانِها يُرافِقها إنتِظارٌ مُتوجّس،طلَب منهَا الشّيخُ محجُوب أَن تقتَربَ منهُ قائلاً : “الحِيطانُ لهَا آذَان” لَملَمت شَتاتَ تخمِيناتِها،تَصفّد عَرقٌ تائِه مَلامِح وجهِها،كلّ شيءٍ مُمكِن أَن يَتحوّل إلَى مُفاجَأة ، فِطرتُها علّمتهَا أَنّ المُفاجآت تَبقَى مُفاجَآت وَإِن إختَلفَت ،إنتَبهَ الشّيخُ محجُوبُ أنّ مَعركةً حامِيةً لاَ تزالُ تجرِي وَقائعُها بَينَ قلبِها وعَقلِها ، قَال لَها بَعدَ أن ذكّرهَا أنّ” للحِيطَان آذَانٌ” سيصِلُ إبنُنا صَالِح قرِيباً في إجَازة بَعد طُول إنتِظار، تهلّل وجهُ إزّة: إندثَر ما كَان يُقلقُلها ،إستَطردَ الشّيخُ محجُوب : سَيكُون فِي حاجَة إلَى إمرَأة … سَنُزوّجه … عندِي لهُ إمرَأة، هِي مِن قَريتِنا، نطّت إزّة من هَول المُفاجأَة كَغزَال رِيم لاَ تسَعُها واحَات ورِمالُ صحَاري الأَرض ومَا ورَاءها،صَدحَت بزَغرَداتٍ من دَاخِل أعمَاقِها،إختَرقَت آذان حِيطان زَوجِها،هبّت ريحٌ صاحِيةٌ لا تَزالُ تحتفِظ بطَراوَة نَسيمِ فصلِ الرّبيعِ، تحملُ أصوَات فتية لأَطفَال القَريَة.إهتَزّ رتَاج البَاب ،تَوالَت عَليهِ ضربَات وَضربَات، رَجعَ صالِح … وصَل صالِح … كَان العنَاق ، كَانت الدّموعُ … وكَانت الفَرحةُ حَاضِرة.

إنفرد الشّيخ محجُوب بِإبنِه يصغِي إلَيه دُون أَن يُقاطِعه،ربّت علَى كَتفيهِ بِحُنوّ قائِلا لَه : قُم يا وَلدِي الله يرضِي علِيك،قلبُ أمّك فِي إنتِظارِك،ستكُون قَد إنتهَت من تَهيِيء الطّعامِ، رُبمّا سَتقُول لَك كلاَماً مُفيداً، إلتَهمَ صالِح الطّعامَ، وَافق علَى الكَلامِ المُباحِ دونَ تردّد،فِي نفسِ المسَاء من يَومِ الوُصولِ،بزَغ هلاَلٌ فِي الأُفق يُرسِل سنَاه، تلاَحمَت الكَمنجَة والطّعرِيجَة،رقصَت القَريَة و الدّواوِير المشرعة على الرياح والغبار المُحيطة بِها ،علَى أهازِيج فَرح قِرَان صَالِح بِإبنَة عمّه،الّتي تَحمِل خَصراً ناضِجاً،صَدراً بارِزاً، جَدائِل مُعطّرة بِعبَق القُرنفُل البَرّي علَى عادَة أهلِ القَريةِ،لَم يَنتظِر صَالِح إلَى أَن يَنبَلج الفَجر،أَحكَم بابَ الغُرفَة أَوصدَ كوَاتهَا،زَرعَ فِيها فَواكِه وخضَر،نَحتَ أخَاديدَ جدَاول مَاء زُلال،إنتَشرَت رائِحَة أبخِرة عَاطرَة فِي كلّ رُكن مِن أركانِها،حرّر ضَفائِر شَعرِها مِن مَشبكِها،كشَف عَن عُذريّة تَضارِيس جَسدِها،إندسّ فِي كلّ جُزء مِن مُحيطِه،لَم يُغادِره إلاّ بعدَ أَن أكمَل القَمرُ دَورتَه،وَأعادَ الكرةَ واهلاَل الهِلال فِي سِيرتِه الأُولَى. ظهَر صَالح لأَوّل مرّة،وَبيدِه حقِيبَة سفَرٍ عرِيضةٍ،بدَت إبنَة عمّه إلَى جَانبِه بدُون خَصرٍ ناضج ولاَ أظَافِر مُخصّبة،وَبلا رحِيق رَائحَة الحنّاء،لَكن انتِفاخاً حصَل معَها فِي البَطنِ،نكَس الشّيخُ محجُوب رأسَه بينَ كتفَيهِ لحظَة،لَم يَقوَ علَى الكَلامِ،إكتَفَت أمّه بذَرفِ دمُوعٍ ظَلّت حبِيسَة محجَريهَا،رفَع صَالِح عينَيهِ إلَى السّماءِ،بدَت زُرقتُها بَاهتَة فِي عَينيهِ،خَالِية مِن الطّيُور،أطرَق بِرأسِه إلَى الأَرضِ، الحُزن جَاثِم علَى تُربتِها،إنبَعثَ صُراخ ولِيد بَينَ السّماء وَالأَرض، يضعُف ويَقوى، حمَل حَقِيبتَه،ترَك الطّريقَ الرّابطَة بينَ القَريةِ ومَحطّة القِطَار الثّانويّة تحمِله إلَى هُناك،هبّت رِياحٌ حَارّةٌ ظلّت طرِيقهَا إلى الصحارى،جَعلَته يُهروِل وَيُهروِل وَيهروِل …وَجدَ نفسَه لَهثَاناً أمَام شبّاك تذَاكِر مُوحِش، يُخاطِبه صَوتٌ خشِن، القِطارُ الّذي يَنقُل المُسافرِين غَادرَ المَحطّة ، لَكن سَيتحرّك قِطار آخَر … يشْحَنُ البَضائِع …

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.