سقايات مراكش : ثرات معماري وحضاري يحْتضِرُ بسبب الإهمال
محـمد القـنور :
عدسة : محمد أيت يحي :
تبدو السقايات المتبقية بمدينة مراكش، وكأنها تخوض حربا صامتة ، من أجل البقاء وتجنب الاندثار والانقراض، بعد أن كانت في الزمن الماضي ، وعبر الحقب الحضارية المغربية، “أسْبِلةً” مفتوحة لإمداد العباد والبلاد والدواب بالماء، من خلال ماكانت تضطلع به من دور إجتماعي أساسي وبيئي و خدماتي يكمُنُ في تزويد المدينة بالماء كمادة حيوية أساسية ،وتوطيد عناوين الحياة والآمان في أسواقها وأزقتها ، مما يعكس مدى إهتمام المغاربة بالماء كنعمة من نعم الله، شاء لها الخالق أن تكون مصدر حياة في كل شيء.
والواقع، فإن كانت بعض السقايات على قِلَّتِها الآن في مراكش وندرتها ، تقوم بدور اجتماعي ، فإنها لاتحظى حتى بالتعريف الجيد عن كونها من المعالم الحضارية المُؤثرة على الحياة المجتمعية ، ومن مآثر المدينة، نتيجة عدم إستثمارها في إنعاش القطاع السياحي بالمدينة، كمعالم ومواقع آثرية تكشف عن عمق حضارة الماء بمدينة الرجال السبعة،حيث تفتقر حتى لليافطات الرخامية التي تكشف عن تاريخها ومصادر مياهها، وسعة صبيبها الذي كان ، متدفقا سلسبيلا عبر مختلف العصور، وعن دورها في الحفاظ على الأمن المائي ، عبر التاريخ كنقطة حياة ظلت تلتقي عندها القوافل والأحياء ، ويتغذى من مياهها الإنسان والدواب على حد سواء. .
إلى ذلكـ ، تشكل معظم ما تبقى من سقايات مدينة مراكش، مواقعَ مهددة بالاندثار ، تحت إرتفاع حمى تحويلها لمعارض خدماتية أو “بازارات”، في إنكار يصفه بعض المتتبعين والمثقفين وحتى بعض المنعشين السياحيين بالفظيع إتجاه دورها التاريخي والسوسيو ثقافي والخدماتي ، ولأهميتها كثرات معماري يعكس عمق حضارة الماء المغربية.
في حين تم إغلاق سقايات أخرى في مراكش، وتسويتها بالجدارات المجاورة على غرار سقاية حي أسوال وحي البارديين، وسقايات أخرى، إو إقتلاعها من أمكنتها ، بينما تحولت سقايات مماثلة لمجرد فضاءات لرمي القمامات ، حيث بات يسودها الإهمال ويكتنفها النسيان كسقاية حي القصور بمراكش، في حين بقيت سقايات أخرى صامدة، تصارع عوادي النسيان تنتظر الاهتمام والعناية الكفيلين بالمحافظة على هذه البنايات، كسقاية “أشرب وشوف” التي تشكل جزءا من ذاكرة المدينة الحمراء.
هذا، ولقد شكلت السقايات المائية ، منذ عهد المرابطين والموحدين، نظاما ناجعا ومستديما لتزويد الساكنة المراكشية بهذه المادة الحيوية، إذ كانت تقوم باستقبال وجمع وتخزين وإعادة توزيع المياه التي تأتيها من مواردها الطبيعية الأصلية، من خلال استخدام سلسلة الخطارات وتقنية الآبار وإعداد الصهاريج كآليات وتقنيات التي تقوم بتدبير الماء من مرحلة منبعه إلى توزيعه .
وطبيعي، أنه كان لكل حي من أحياء المدينة العتيقة سقايته الخاصة به، فضلا عن السقايات الكبيرة التي تتموقع في الساحات، وبقرب المزارات والقباب والجوامع ، والتي كانت تتكون من صهاريج مخصصة لشرب الدواب، إضافة إلى صنبور يُعرف بــ “البزبوز” للماء الشروب، يغلق بقطعة خشب كانت تسمى “اللزاز” وكانت مثل هذه السقايات الكبيرة ، على غرار سقاية “سيدي لحسن أو علي” في حي باب دكالة، وسقاية القصور ، وسقاية المواسين،وسقاية حي رياض الزيتون وسقاية باب الخميس بحي الحدادين وغيرها من السقايات الكبيرة التي تتمركز بين الأسواق أو قرب الفنادق العتيقة لتسهيل عملية إستفادة الساكنة والمارة والقوافل من الماء.
كما ظلت مراكش تتوفر على شبكة هامة من السقايات الصغيرة مقارنة بالسقايات المذكورة، والتي كانت تتغذى من الخطارات ومن السواقي والعيون المحيطة بمراكش مثل “عين قاو قاو” وعين سيدي مسعود و”عين إيطي” و”عين مزوار” وعين “ماء فوق ماء” وغيرها ..
كما كانت الكثير من الصهاريج العمومية كصهريج “البقر” و”المنارة” وصهريج “الغرسية” و”دار لهنـــا” في حدائق أڭدال، أو الصهاريج والمطفيات الخاصة التي كانت تتواجد داخل العراصي وبعض الرياضات والمدارس العتيقة والزوايا والمراحيض العمومية، والتي كانت تمون بالماء عبر المساريب الباطنية المرتبطة بالسواقي، والمَعْدَات ، كنِقَاطِ إلتقاءٍ مائية باطنية تعيد توزيع الماء على الدروب وأجنحة الدروب المشهورة بإسم “الصَابَات”، حتى أن بعض الدروب داخل مراكش العتيقة لاتزال تحمل إسم “المَعْدة”..
وقد ذكر المؤرخ المراكشي القاضي عباس بن إبراهيم التعارجي، في مؤلفه ”الإعلام بمن حل بمراكش وأغمات من الأعلام ” أن سقايات مراكش بلغت ما ينيف عن مئة سقاية خلال فترة الحماية، كان قد أحصى منها بالمدينة المذكورة 89 سقاية، مشيرا أن هذا العدد من السقايات كان مضاعفا قبل هذه الفترة، في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي .
ومهما يكن، فإن السقاية ظلت تشكل جزءا أساسيا ومحورا داخل الأحياء التقليدية بمراكش، وبؤرة تؤثث المكان لتؤكد مدى عمق سيمفونية الماء، كملحمة إيكولوجية وثقافية طبعت مسار التمدن المغربي، لدرجة أن مجموعة من الدروب بمراكش حملت بدروها إسم “درب السقاية” من حومة بن صالح، إلى الزاوية العباسية ومن القنارية إلى إسبتييـــــن، تأكيدا لمكانة السقايات في جغرافية المدينة، ولدورها الرئيسي في الحفاظ على الأمن المائي، ونشر قسمات الحياة والبركات والثقافة التشاركية ،
وتبقى سقاية “اشرب وشوف” التي بنيت في فترة السعديين ، والمتواجدة بحــي أمصفح المرابطي، أشهر سقايات مراكش، نتيجة ماتتميز به من فرادة في هيكلها المعماري ، ومن زخرفة راقية غنية وأصيلة، تبرز خصوصية الهندسة المغربية، من خلال الآيات القرآنية والكتابات والزخارف الموضوعة على خشب النخيل، والتي تطلبت حسب الخبراء زمنا طويلا، ودربة خاصة ، حيث تم وضع أخشاب جدوع النخل المستعصية على النحت، زمنا طويلا في صهاريج من الخل البلدي، لتتماسك أليافها ويسهل نحتها ووضع النقوش عليه ، كما تستمد سقاية “اشرب وشوف” رونقها وصيتها من إسمها الذي إنبثق من التوحد بين عذوبة الماء الزلال ، وروعة المعمار الخالد.. مما ألهم الكثير من المعماريين والمهندسين والفنانين ودفع بالعديد من الأثرياء العالميين والمغاربة في مراكش،إلى إستنساخها وإستحضار أبعادها المعمارية، ورونقها الأصيل.
ولاتنافس غرائبية وجمالية وشهرة “سقاية أشرب وشوف” في مراكش، سوى سقاية الضريح العباسي بحي الزاوية، والتي يعود تاريخ بنائها إلى فترة السلطان المولاي إسماعيل ، والتي لاتزال تقف في أبهتها الكاملة ، المرصعة بالزليج والزخارف الجبصية، خصوصا بعد عملية ترميمها وإعادة لمسات الحياة إليها، كتراث يشكل جزء من هويتنا ثقافتنا.
وتجدر الإشارة، أن المركز المتوسطي للبيئة لمراكش كان قد قام بعمليتين لترميم سقاية باب دكالة سنة 2009، وسقاية ” سيدي عبد العزيز” سنة 2010، وذلك في إطار البرنامج الأورو-متوسطي ”أوروميد إيريتاج 4″ الممول من طرف الاتحاد الأوروبي.
وقد ساهم عدد من الشباب المراكشي المثقف بتعاون مع مفتشية الآثار بالمدينة،في هاتين العمليتين اللتان تمتا وفق منهجية بنائية مضبوطة اعتمدت على تاريخ تشييد كل سقاية على حدى، وإستحضرت سياقات وميكنيزمات تطبيق تقنيات خاصة بعملية ترميم الآثار، والبحث عن الشكل المعماري الذي كان يميزها في زمن بنائها.