الفنانة ياقوت حمدوش القابضة على ألسنة النيران في إبداعات غير مسبوقة تلتقي جمهورها بمراكش

محمــد الـقـــنــــور :

بحضور مجموعة من عشاق الفن والأوساط الأكاديمية، والباحثين في قضايا الفن والثقافة، والنقاد والفعاليات الفنية والثقافية، ونساء ورجال الأعمال، وممثلي الصحافة الوطنية، إفتتح اليوم الجمعة 3 ماي الجاري، بصالة الفن 38 بحي جليز في مراكش، معرض فني فردي للفنانة التشكيلية المغربية ياقوت حمدوش، تحت عنوان “نيران”.حيث سيمتد إلى غاية 29 يونيو 2024.

وشكلت لوحات الفنانة حمدوش، دعوة من أجل الغوص في عوالم النيران المثيرة والساحرة، ودلالاتها  اللانهائية والمتنوعة وأبعادها المختلفة، فالنار في فكر حمدوش التشكيلي، هي قوة الخطر التدميرية، وهي رمز الثروة ودعوة إلى الخصوبة ومثال عن التجدد والنقاء، وصيرورة من الخلق إلى الدمار، ومن مخلفات الرماد إلى بدايات الخلق الجديد، ترتبط بالعاطفة وبالحياة وتنصهر مع الزمن والمكان، كما تحمل في طياتها  العديد من المعاني والتناقضات، كرمز للحيوية والتغيير، وأداة للإنصهار ووسيلة للتنظيف والتنقية، ترتبط بالحمم والبراكين، وبتحولات الأرض وتحيل على قوة طاقة الشمس، فضلا عما لها من حضور دلالي في الأديان وفي المعتقدات، في الأساطير والحكايات، في الروايات والقصائد والمقالات الأدبية، في السير والأقاصيص والمقامات، حيث تمثل ألسنتها مختلف ألوان الدفء، والطبخ، ويعتبر  نورها مثالا للهدى والعلم والنور، تروض الطبيعة وتطرد ظلمات العتمة والخوف من المجهول.

كما تختزل نيران لوحات الفنانة ياقوت حمدوش، جدوة نيران الأولمب المتعالية، ونيران البراكين الثائرة، ونيران المدفئات الهادئة والحالمة في ليالي الصقيع الباردة، ونيران الغابات الحارقة، ونيران العنقاء المتجددة والحية على قمم جبال فينيقيا ،ونيران جبل سينا الدالة على قبس المعرفة والرسالة، ونيران الشموع المتصوفة بأعماق المزارات والأضرحة على الصفحات الممتدة من أرض الوطن والفريدة في لهجتها وألوانها وحيويتها.

والواقع، فإن لوحات الفنانة التشكيلية ياقوت حمدوش في المعرض المعني، تتأسس على تيمة النار التي تمثل رمزًا متعدد الأبعاد في الشعر وفي الآداب الكلاسيكية لدى أغلب الأمم ، وبالأدب المعاصر، حيث ظل الشعراء والروائيون والمسرحيون ومخرجي وكتاب سيناريوهات السينما ممن يستوحون عبارات تنتمي إلى إشتقاقات النار على غرار القبس والحمم واللهب، والجمر ومختلف مترادفات المعجم  الناري  للتعبير عن عواطفهم والكشف عن مواقفهم إتجاه الناس والحياة بأسلوب إيحائي، رمزي، حيث تعتبر النار قوة ، تتصارع مع الحب ومع الكراهية، وترمز إلى التحوّل والتجدّد والإستمرارية.

إلى ذلكــ ، تتدرج من خلال خلفيات مواضيعها بشكل تصاعدي في إتجاه الزمن والمكان اللانهائي، لتعبر عن طموح تشكيلي جريء يهدف بشكل رائق نحو  تشخيص كينونة الإنسان في جميع مواقفه وظرفياته ،في إختزال شيق  لمختلف الحالات الشعورية التي تعتري الفنانة ياقوت حمدوش، والتي تترجم مواقفها من الطبيعة ومن الحياة ومن المرأة ، حيث تشكل تجربة حمدوش التشكيلية، عملية تشريحية  لألسنة النيران، و لحركات وكينونة اللهب، بلمسات فنية رائقة وإحترافية تنبذ الرضوخ لنموذج واحد، ويساعدها في أن تترجم رؤيتها الثقافية للنيران ، بجميع ما تعكسه شفافية الألوان في اللوحات، حيث تظهر نيران التشكيلية ياقوت حمدوش هادئة وأحيانا ثائرة، ومتوجسة، ومرة واجمة ومرتقبة للذي قد يأتي أو قد لا يأتي ، وتصبح نيران حمدوش كأنها الضياء إذ تتراقص مع الألوان، وكأنها القيم إذ تتوحد مع الأشكال الهندسية، أو كأنها الأطياف إذ يغشاها الزمن لتمتزج  مع الحركة ، في دقة عوالم متماوجة من القيم التعبيرية والدلالات الرمزية، ثم كأنها الطبيعة البشرية والمكانية تتفتق إحساسا وأفكارا، مشاعر وظرفيات تكاد تتحول إلى أصوات وأنغام وكلمات، في تفاعل هارموني منتظم مع كل فضاء اللوحات ، ليثير لدى الملتقي مختلف مشاعر التأمل والدهشة ومفاتن الإعجاب ، تقدم  لوحات الفنانة التشكيلية المغربية، ياقوت حمدوش ، لوحات تختزل كل ذكرياتها وجميع الذكريات بكل مقاطعها العاطفية و التعبيرية.

هذا، وقد ارتبطت الفنانة التشكيلية ياقوت حمدوش بفضاءات التشكيل ذات الأبعاد المتعددة، المتعلقة بالضوء الناصع والحركية الممزوجة بتراتبية الألوان في سياق جمال آخاد من القيم التي تغشي عوالم لوحاتها. 

ولا تقتصر مشاهد الفنانة التشكيلية ياقوت حمدوش على الشكل الثابت للأجسام التشكيلية الحقيقية أو الدلالات التجريدية ، بل تتجاوزه إلى رسم شخوص وأجسام وأطياف ضوء تتحرك عبر سياقات تركيبية في فضاء لوحاتها. شخوص، وبحيرات ، حقول وسماوات، أنوار وعتمات  إنهم بألوان حية، تتحرك على إيقاعات  راقصة، وتراتبيات تلقائية . لتكسر رتابة المشاهد البنائية الثابتة ، وهو ما يضع تجربة هذه التشكيلية ياقوت حمدوش في بوثقة الحداثة التشكيلية بكل مقاييسها وشروطها ، وبجميع تطلعاتها البنائية وتقاليدها، ضمن تجربة تشكيلية  تقوم أساسا على  إستثمار نسيج المتحرك والثابت  بشكل يوحي بقيام كل لوحاتها في هذا المعرض على أسس المفارقات الجميلة والمعبرة. 

إلى ذلك، تأخذ الخطوط والشخوص في لوحات الفنانة التشكيلية ياقوت حمدوش منحى يقترب من يكون تجريديا ، وهو ما يضفي على أعمالها طابع التميز والإستكانة ، خصوصا ، وأن لوحاتها الفنية تتحول بواسطة التأمل من منحى عادي وواقعي، إلى فضاء قابل لكل القراءات والتأويلات ، وملائم في أن يدفع المتلقي إلى الدخول في دوائر نقاش مع مكنونات لوحات الفنانة التشكيلية ، وكأن حمدوش تسعى إلى التعبير بألسنة اللهب عن الحقيقة، و بالمجاز عن الواقع ، وكأنها ترسم النيران بالموسيقى، تحت تأثير الأنغام ، لتعبر نحو المسافات اللونية للنار، كحياة أولا وكأوضاع ودلالات مختلفة ثانية، إذ يمتزج اللون النحاسي الأصفر باللون الرصاصي المتقادم ، والأزرق  الباهت وبالقرمزي و الصلصالي بالأحمر القاني المختلط والبرتقالي بالبنفسجي تلوينا لنموذج التشكيل أو تعميرا لفضاء تفصيلي لمجمل ما في لوحات التشكيلية المغربية ياقوت حمدوش من رؤى ومن أفكار .

وللإشارة، قد ولدت ياقوت حمدوش عام 1994 بالدار البيضاء، وتدربت في الفن في أكاديمية الفنون الجميلة في ميلانو إلى جانب معلمها الفنان الإيطالي نيكولا سلفاتوري،وأتقنت العودة إلى ذكرياتها وأسفارها حول العالم، إيمانا منها بأن الذكريات مؤثرة، ولكن ذكريات الذكرياتـ أكثر تأثيرا كما يقول ستانيسلاف جيرزي ليك، كما تسعى ياقوت إلى الحفاظ على تجاربها وذكرياتها وأفكارها وعواطفها من خلال الرسم، وإستثمار عمق ثقافتها التشكيلية وإيمانها برؤاها العميقة لعنصر النار.

كما درست الفنانة حمدوش نحت المجوهرات في فلورنسا وعلم الأحجار الكريمة في أنتويرب ، قبل أن تنضم إلى BRERA ، وتتعرف على مدرسة ميلانو للفنون الجميلة، ولدى عودتها إلى المغرب، أقامت حمدوش ورشتها في مراكش، وإنكبت على تطوير خيالها حول مبدأ الذاكرة المتقلب. شاركت في العديد من المعارض والفعاليات في المغرب، وفي لشبونة بالبرتغال وامستردام في هولندا ودول أخرى، لا سيما خلال التعاون مع الفنانة المغربية أمينة بن بوشطة في دار الكتاب ، حيث تألقت في فعاليات الدورة الثامنة من Master Mind التي نظمتها GVCC في عام 2019 في الدار البيضاء.

وفي سنة 2021 ، كانت الفنانة التشكيلية المغربية ياقوت حمدوش عنصرا أساسيا وفاعلا، في  معرض جماعي نظمه معرض تيمور غراهن للفنون بلندن.

وبعودتها اليوم للعرض بشكل فردي في جاليري  La Galerie 38 بمراكش ،تكون ياقوت حمدوش قد سجلت حضورا متميزا من جديد في الساحة التشكيلية الوطنية حاليا ، وخدمة ملحوظة للثقافة والفن .

ومهما يكن، فإن تجربة الفنانة حمدوش تكشف تطور الأحداث التى مرت بالفن التشكيلي العالمي منذ بداية القرن الحالي ، ومن ضمنه الفن التشكيلي المغربي الشبابي إن صح هذا التعبير، مما أدى الى ايجاد أفكار ومفاهيم واتجاهات فنية حديثة مرتبطة بالعلم و التكنولوجيا ،وبعوالم أليات الحاسوب وبرامجه المدمجة، ومما هيأ لبروز تنوع هذه الأتجاهات الفنية الحديثة وتعدد مصادرها كما في تجربة حمدوش التي لم تقتصر على تمثيل العالم المرئى فقط ، و لكنها بحثت عن التفاصيل وعن الجزئيات الأساسية، وعن الأفكار و إستطاعت أن تهيء المجال وغيرها من المبدعات والمبدعين الشباب نحو نظريات فنية جديدة تتماشى مع روح العصر و مع ملامح تقدمه، وهذا ما يظهر جليا في “نيران” الفنانة التشكيلية المغربية ياقوت حمدوش   .

ومهما يكن كذلكــ ، فإن هذا الإتجاه الفني الذي يطبع لوحات نيران ياقوت حمدوش  يستبعد الصور الظاهرية لأشكال الطبيعة،ويعتمد على مفردات تشكيلية تستحضر الأجزاء والحركة ولكن عبر خلفيات هندسية تتمثل فى تداخل الألوان وجدوة المساحات و تراتبية الحركة.. وتقوم على العلاقات بين علوم التفاعل الفيزيائي والمكونات الكيمياء وموضوعات التشكيل، وما يصاحبها من إستحداث وحدات هندسية مبتكرة، تتيح الوصول الى صياغات تشكيلية متنوعة بأسلوب جديد وبدقة كبيرة ، حيث تبرز المفردة التشكيلية للنيران كعنصر أساسى تقوم عليه اللوحة من خلال خصائص ودلالات ذاتية تستوحيها الفنانة وتوظفها فى صياغات متعددة ، وتستخدمها فى التعبير عن أفكارها وأهداف رسائلها الوظيفية و الجمالية و بطريقة حديثة مبتكرة .

قد يعجبك ايضا مقالات الكاتب

أترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.